عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2010, 04:22 PM
المشاركة 8
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (4): ما سر الطاقة الإبداعية؟

كنت في السادسة عشرة حينما بدأت بكتابة بعض المحاولات الإبداعية مثل القصائد والخواطر، وكنت منكبًا على القراءة، يحركني دافع قوي لا أعرف كنهه ولا طبيعته، ولا مصدره، ولا سره. إلى أن وقع بين يدي كتاب للكاتب الروسي الكبير ليو توليستوي، وبينما كنت أقرأ عن سيرته الذاتية...عرفت أنه فقد الأم وهو صغير... ولم يشاهد صورة والدته أبدًا. ولقد كان لتلك المعلومة وقعا شديدًا على نفسي، فأنا أيضًا فقدت والدتي وعمري سنتان، ولم أشاهد صورتها أبدًا. وقد ربطت فورًا بين موت الأم، وذلك الاندفاع نحو القراءة والكتابة الإبداعية، ووجدتني أسأل سؤالاً سيطر على ذهني منذ ذلك الحين: هل هناك علاقة بين اليتم والإبداع؟
وخلال السنوات التي تلت، وجدت نفسي منكب على الكتب، أحاول أن أجد إجابة لهذا السؤال. وتعمقت في البحث، فوجدت أن الاهتمام في هذه السمة الإنسانية قديم، قدم الفلسفة اليونانية، وأن بعض الفلاسفة الإغريق حاولوا تقديم تفسير لسر الإبداع.
ولقد وجدت بأن هناك من سلم بأن الإبداع سمة لا يمكن فهمها، والبعض الآخر اعتقد أنها سمة غريزية تولد مع الإنسان، وآخرون اعتقدوا أن الإبداع هو أمر موروث، وقد كان الاهتمام منصبًا على المنتج الإبداعي أكثر من مصدر الإبداع عبر التاريخ.
وتبين أن محاولات فهم السمة الإبداعية ظلت عاجزة عن تقديم تفسير شاف ومقنع، حتى بعد الثورة الفكرية والعلمية العظيمة، التي تلت ولادة علم الفيزياء، حيث بدأ العلماء يتعاملون مع سمات الشخصية على أساس أنها شكل من أشكال الطاقة التي لا تفنى ولا تستحدث، ولكنها تتحول من حالة إلى أخرى.
ووجدت أن أعظم العلماء الذين تحدثوا عن هذه السمة المهمة، وتعاملوا مع الدماغ على أساس أنه نظام طاقة، وهما فرويد و إدلر، لم يربطا بين الموت والطاقة الإبداعية إلا بطريقة غير مباشرة عند فرويد.... وبينما ظن إدلر أن الإبداع هو تعويض لفقدان أحد الحواس compensation theory ، اعتقد فرويد، بأن الإبداع عبارة عن إحباطات جنسية تتحول لاحقًا إلى طاقات إبداعية، وحتى أن أهمية الموت في العملية الإبداعية بالنسبة لفرويد تكمن في ما يخلفه الموت من إحباط جنسي.
ولكن مزيدًا من البحث أظهر أن أعدادا أكبر من المبدعين كانوا بالفعل أيتاما، ولذلك قمت على تحليل حياة بعض هؤلاء المبدعين وأدبهم، ضمن متطلب أكاديمي للدراسات العليا، محاولاً إيجاد صلة بين فجيعة اليتم، والقدرة الإبداعية والتدليل على ذلك. وقد تمكنت من إيضاح تلك الصلة عند بعض المبدعين بشكل مقنع...فتعمق الشعور لدي بأن الموت يشكل عاملاً مهمًا في العملية الإبداعية، إن لم يكن الأهم، واستمريت في البحث، ورصد حياة مزيد من المبدعين، وقد ظهر جليًّا لي كلما تعمقت في البحث أن أعدادا كبيرة منهم أيتام فعلاً.
وحينما وقع بين يدي، ومنذ مدة قصيرة ،كتاب آخر للكاتب الأمريكي مايكل هارت، وهو بعنوان "الخالدون المائة"، هذا الكتاب الذي وفر فرصة استثنائية لفحص النظرية إحصائيًا، أخضعته للدراسة كعينة بحثية غير متحيزة هدفت من ورائها، معرفة نسبة الأيتام من بين هؤلاء الخالدين المائة حسب تصنيف هارت الذي أقامه على أساس الأثر لهؤلاء في التاريخ. وتبين بأن ثلاثة وخمسين من العباقرة الخالدين، بين أفراد العينة المذكورة، الواردة أسماؤهم في الكتاب المذكور هم فعلاً من الأيتام المسجل يتمهم وأن طفولة خمسة وأربعين منهم...طفولتهم غير معروفة، ولذلك استنتجت، وبموجب القاعدة المنطقية أنهم على الأغلب أيتام كونهم يمتلكون طاقات إبداعية في أعلى حالاتها، أي أن 98% من أفراد العينة المذكورة فعلاً أيتام. وهو ما أكد الافتراض بأن اليتم هو السبب الأساس والأهم وراء الدافع الإبداعي، ليس ذلك فقط، وإنما أكدت الدراسة أن اليتم يؤدي إلى الإبداع في أعلى حالاته، وأصبحتُ على قناعة لا تتزحزح بأن الموت أو على الأصح (فجيعة اليتم) هي الأعظم تأثيرًا في تحفيز الطاقة الإبداعية، وأن أعلى حالات الإبداع في التاريخ، في كل المجالات، بما فيها القيادة الفذة، تأتي من أثر اليتم على الشخصية، ولكنها ليست الدافع الوحيد، وإنما هي الأعظم من ضمن سلسلة الفجائع التي يمكن أن تصيب الطفل، فتتولد في ذهنه تلك الطاقة المهولة التي يمكن أن تتحول إلى طاقة إبداعية في حالة توافر عناصر أخرى مهمة مثل: التعليم، والقدوة الحسنة، وربما أحيانًا المصادفة..الخ .
مع ذلك، ورغم تعدد الأدلة والشواهد القائمة على أساس أساليب البحث العلمي، وتحديدًا البيانات الإحصائية والتحليلية، والتي لم تترك مجالاً للشك أن الخالدين العباقرة عبر التاريخ هم في أغلبهم، وبحد أقصى أيتام، ظلت آليات تأثير الفجائع، وعلى رأسها اليتم، في الشخصية أمرًا غامضًا بالنسبة لي، وإلى أن وقع بين يدي دراسة حديثه للدكتور أحمد توفيق من الأردن، بعنوان "أيقظ قوة عقلك الخارقة"، وهو كتاب مهم جدًا ، يشبه الدكتور أحمد توفيق فيه عقل الإنسان بمولد قوي...مولد يفوق في طاقته وقوته أعظم الشلالات... ويوضح بأن المخ، وعلى الرغم من قلة وزنه، وصغر حجمه يحتاج من الأوكسجين إلى حوالي 20% من احتياجات الجسم البشري ...وهو مركز إعجازي لكثير من الأنشطة الحيوية... وتُجري فيه تفاعلات غاية في التعقيد ...وأن الخلايا المخية تملك القدرة على توليد طاقة شبه كهربية نتيجة لتفاعلات كيماوية معقدة تحدث داخل الخلية، وهذه الشحنة شبة الكهربية التي لا يعرف كنهها، أو تفسيرها حتى الآن، هي سر الحياة نفسها، باختفائها وعدم سريانها من خلايا مخ الإنسان إلى بقية أعضاء جسمه تختفي الحياة نفسها فيه. ولكن الدكتور أحمد توفيق يؤكد على أنه رغم التقدم الهائل الذي أحرزه الطب والعلوم فلا يزال المخ من الأسرار المعقدة أمام العلماء وتفسيراتهم، وكلما تفتح لهم باب في أسرار عمل المخ ظهرت أبواب أخرى أكثر غموضًا وتعقيدًا، ولكن شيئًا مهمًا يتضح يومًا بعد يوم هو أن المخ يسيطر على جميع أوجه النشاط الإنساني الإرادي، واللاإرادي، والمعنوي، في أثناء النوم أو في أثناء اليقظة علمًا بأنه يعمل بنسبة (5%) من طاقته فقط.
عندما تعرفت إلى هذه المعلومات عن قدرة المخ... أصبحت على قناعة أكبر بأن فجيعة اليتم هي العامل الأهم في تحفيز طاقة الدماغ، وبشكل مهول... وإذا ما توافرت الظروف الملائمة فإن مالك هذه الطاقة يتحول إلى عبقري مبدع حتمًا في مختلف المجالات، وحتى إن لم يُكتب لهذه الطاقة أن تخرج بشكل إيجابي مبدع، فإنها حينما تخرج بشكل سلبي يكون ظاهراً ومدوياً.
وفي ظل غياب أي تفسير علمي حتى الآن لأثر فجيعة الموت على دماغ المبدع، وأخذاً بما أصبح مسلمات علمية، بأن الدماغ، مثل القلب، عبارة عن جهاز طاقة...فإنني أجد بأن الفجيعة تقوم مقام الطاقة التي تقذف بها ذرات اليورانيوم، فتتحول ذرات اليورانيوم ذات الطاقة الكامنة والمحدودة جدًّا بتدخل تلك القوة الخارجية، إلى القنبلة الذرية.
وهذا ما أراه يحصل في الدماغ، وبغض النظر عن آليات حدوثه التي لا بد من تمحيصها ودراستها بوسائل علمية مخبرية، فإن الفجيعة، وبمجرد حدوثها تؤثر في الدماغ بصورة مهولة، وتتشكل فيه طاقة استثنائية تعادل طاقة المفاعل الذري، وهذه الطاقة تتناسب طرديًا مع طبيعة الفجيعة، وتوقيت وقوعها، وكثافتها، أو ربما تكرار حدوث فواجع أكثر عددًا في حياة الإنسان المبدع، وتكون العملية الإبداعية ما هي إلا ترجمة لتلك الطاقة التي تشكلت في الدماغ بطريقة مجهولة حتى الآن ...قد تكون كهربية أو هرمونية أو غير ذلك...
ولذلك نجد أن نسبة الذكاء، والقدرات العقلية الإبداعية، تختلف من شخص إلى آخر، ولكننا نجد بوضوح أن مجموع الظروف الحياتية لها تأثير كبير على القدرات الذهنية للإنسان....ومن هنا نستنتج بأن عددًا من العوامل التي تقوم بعمل الفجيعة، أو يكون لها وقع الفجيعة على الدماغ، هو في الواقع لا حصر له، وحيث أنه يصعب في كثير من الأحيان قياس الأثر أو ملاحظته في الكثير من هذه العوامل، وبناء على البيانات الإحصائية المتوافرة لدينا من خلال عينة "الخالدون المائة"، أصبح لا بد من التسليم بأن فجيعة الموت (اليتم) هي أعلى وأقوى الفجائع على الإطلاق...وهي لذلك تنتج أعلى حالات الإبداع في كل المجالات... وتقل السمة الإبداعية حدة كلما قل أثر الفجائع...ورغم ذلك يكون لها أثر مشابه، فنجد مثلاً كُتابًا نجحوا في كتابه مجموعات شعرية، وهم ليسوا أيتاما، أو ربما أصبحوا قادة، أو علماء... ولكننا نجد أن كل عبقري سواء كان أديبًا، أو عالمًا، أو قائدًا كرزميًا كان له دور بارز وخالد في التاريخ...هو بالضرورة يتيم...وأن كل ما امتلكه من قدرات سواء على التعبير، أو التفكير، أو التأثير السحري الكرمزي... ما هي في الواقع إلا مخرجات لتلك الطاقة المهولة.. التي تولدت في دماغه كنتيجة لإصابته بفجيعة اليتيم.
وقد أظهرت الدراسات التحليلية والقائمة على البيانات الإحصائية أن اليتم قبل الولادة، يشكل أعلى حالة من حالات الفجيعة، وهذه الشريحة من الأيتام تمثل أعظم الخالدين عبر التاريخ على الإطلاق. ويقل تأثير الفجيعةويختلف المجال الإبداعي كلما تقدم المصاب بها في السن، ويظل لها أثر كبير إلى حين اكتمال النمو العقلي لليتيم، والمتعارف عليه أنه يكتمل في سن الحادية والعشرين.
وأيضا يلاحظ أن المخرجات الإبداعية متقاربة من حيث المجال، والعمق، والتعقيد، والأثر، والديمومة، بين الأيتام الذين أصبحوا أيتاما، ضمن الفئة العمرية الواحدة، كما يبدو أن لكثافة الطاقة المتولدة في الدماغ، كنتيجة لتلك الفجيعة، الأثر الأعظم في الإبداع ...مع عدم استثناء العوامل الأخرى الكثيرة المؤثرة... لكن يظل للطاقة المتولدة الأثر الأعظم حتمًا، وذلك بناء على المعطيات التي أظهرتها الدراسة الإحصائية والتحليلية للعينة المذكورة، فنجد مثلاً أن أعظم المخترعين من بين أفراد العينة أصيبوا بفجيعة اليتم في سن ما بين 17-21 سنة...بينما نجد القادة الدكتاتوريين الثوريين...الذين أراقوا كثيرا من الدماء، مثل: هتلر، ونابليون، وستالين، و الإسكندر الأكبر الخ...هم أيتام ما بين 11-16 سنة...ونجد أن الأيتام في سن الثامنة علماء أفذاذ مثل دارون وكلارك ماكسويل، ونجد أن الأيتام في سن مبكرة، متعددي المواهب،ونجدهم مفكرين، وفلاسفة وعلماء وقادة أفذاذًا، يبحثون بشغف عن الحقيقة، وكنه الحياة... ويقدمون تصورات تجيب عن الكثير من التساؤلات الوجودية... فتخرج منهم كثير من النظريات الفكرية والفلسفية والعلمية....مليئة بالحكمة والإدهاش..تحاول تقديم تفسير وإجابات دنيوية وإلى ما بعد الموت.
وقد أظهرت هذه الدراسة البحثية، التي أجريتها حول الموضوع، شواهد عظيمة تؤكد على صحة الاستنتاج بأن الموت يقع في أعلى سلم المؤثرات لخلق طاقة إبداعية مهولة في الدماغ، وهو ما سيترك أثرًا عظيمًا على جميع مجالات الفكر والعلوم، وفهم الشخصية ونظرياتها وسماتها.
لكن، لا بد من التحقق علميًا من هذه الاستنتاجات والفرضيات النظرية... وإن أثبتت البحوث ألمخبريه العلمية صحتها، وقدمت تفسيرًا علميًّا لجميع عناصرها، وخفاياها، وطبيعتها، وقدمت شرحًا وفهمًا عليمًّا لما يحدث في الدماغ كنتيجة لفجيعة اليتم...سواء كان ذلك التفسير كهربيًّا أو هرمونيًّا أو كهرومغناطيسيًّا، أو غير ذلك، فإن القدرة على التحكم في هذه الطاقات سيصبح ممكنًا... وسيصبح بالإمكان صناعة العلماء والمبدعين والقادة في كل المجالات...كما سيصبح بالإمكان فهم سمات الشخصية الإنسانية بصورة أفضل والتحكم في السلوك البشري ككل.. ومن المهم إعادة النظر في كثير من المسلمات التي أقيمت على افتراضات خاطئة، وعليه لا بد من إعادة كتابة التاريخ.
وهذه دعوة لكل العلماء، وعلى رأسهم الأيتام، الخبراء في مجالات الدماغ بأن يقوموا على إخضاع هذه الافتراضات لمزيد من البحث والتحقق العلمي، وأنا على يقين بأنه لن يطول الزمن الذي يخرج علينا فيه عالم عبقريُّ فذُّ، يؤكد صحة هذه الافتراضات، وما تبعها من استنتاجات، سيتم نشرها عما قريب في كتاب يتحدث تفصيلا عن نظرية تفسير الطاقة الإبداعية، وسوف يتمكن العلماء عما قريب من تقديم فهم، وشرح مقنع ومثبت علميًّا يشرح آليات تأثير الفجيعة على الدماغ، وسوف تُظهر هذه الأبحاث دون شك أن سر الإبداع في أعلى حالاته يكمن في أثر فجيعة اليتم، وعندها ستبدأ البشرية تاريخًا جديدًا...وتصبح إعادة كتابة التاريخ ضرورة ملحة بادرت فيها هنا وأطلقت لها العنان ضمن هذه السلسلة من المقالات والمقولات الساخنة.