عرض مشاركة واحدة
قديم 08-10-2010, 07:26 PM
المشاركة 5
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
أوراق ساخنة (3): فلنهدم مدارس التجهيل ونشيد مدارس التفكير



المتعمق في التراث الفكري الإنساني يجد أن هناك علاقة بين الوضع الثقافي والفكري السائد، ومناهج التعليم وأساليبه وآلياته ومخرجاته، فحين يكون الجو الفكري متحررًا، ويتم التعامل مع المتلقي على أساس أنه ذلك العنصر المهم والإنسان المتميز، وأن العقل والتفكير صفات مميزة للإنسان عن الحيوان يتوجباحترامها واستثمارها، يكون التعليم مزدهرًا، وهو ما ينعكس بشكل إيجابي على الثقافة والتعليم، وبالتالي على التقدم والنمو والحضارة، ويمكن القول إن العكس صحيح حيث يتأثر التعليم سلبًا في حالة سيطرة الأيديولوجية الأصولية المنغلقة، على نمط الحياة، فتتعطل العقول والتفكير المبدع، وهو ما يؤثر سلبا على النظام التعليمي والفكري، وبالتالي يتأثر الإبداع والإنتاج الحضاري سلبًا
.


ذلك ما يظهر جليًا في استعراض الوضع التعليمي منذ إنشاء أول أكاديمية في التاريخ إلى يومنا هذا، مقرونًا بنمط التفكير السائد، ومدى الحرية الفكرية، وهو ما يشير أيضًا إلى أهمية الاستفادة القصوى من تجربة التاريخ، وما يجب عمله من أجل أن يكون التعليم حافزًا مهمًّا للإبداع والتقدم الفكري والحضاري.

وتظهر أي نظرة تحليلية معمقة لهذا الجانب من الحياة الثقافية والفكرية، بأن الفيلسوف الإغريقي الكبير أفلاطون، كان أول من اقترح تأسيس رياض الأطفال والمدارس، وذلك بناء على استنتاجاته الفلسفية المهمة، ومنهاجه الفلسفي الذي يقوم على إعمال العقل وتفعيله بالتفكير، ويعتبر أفلاطون

ثاني أكبر الفلاسفة الإغريق العقلانيين، بعد سقراط، الذين اعتبروا العقل العنصر الأهم في الوصول إلى المعرفة. والعقلانية تعرف على أنها مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي، كما يرى هذا المذهب ضرورة إخضاع كل شيء في الوجود للعقل بهدف إثباته، أو نفيه، أو تحديد خصائصه، وقد رأى سقراط الذي يُعتبر المؤسس الحقيقي للمذهب العقلي بأن المعرفة الحقيقية تأتي من الداخل.

وطور سقراط منهاجًا لتفعيل العقل يقوم على أساس إعطائه الانطباع بأنه يريد أن يتعلم من محدثه، ولا يريد تعليمه، كما فعل السفسطائيون الذين كانوا يعتبرون أنهم يمتلكون المعرفة (علماء ومثقفون)، ويعملون على تلقينها للآخرين، وكان سقراط يبدأ بطرح الأسئلة متظاهرًا بأنه لا يعرف شيئًا، ثم يرتب الحوار بشكل يجعل المحاور يكتشف شيئًا فشيئًا ما يفكر فيه. وكان سقراط يتظاهر بعدم المعرفة ليجبر الناس على التفكير، وكأنه كان يلعب دورالجاهل، وكان لا يتوقف عن الاهتمام، وطرح الأسئلة للوصول إلى المعرفة الحقيقية، وكان يعتقد بأن كل الناس قادرون على اكتشاف حقائق فلسفية شرط أن يستعملواعقولهم، وقد مثل منهاج سقراط ثورة حقيقية في التفكير، والتعلم، واستنباط الافكار، وتوليدها، ورفع من شأن العقل، إلى حد أنه اتهم بإدخال آلهة جديدة، وقد حكم بالإعدام لذلك، حيث قتل بالسم بتهمة إفساد الناشئة.

أما أفلاطون، وهو أحد تلامذة سقراط، فيعود له الفضل في أنه أنشأ أكاديمية خارج أثينا، في حديقة كانت تحمل اسم البطل الإغريقي أكاديموس، ومن هنا أسميت " أكاديمية"، ومن يومها عرف العالم الأكاديميات، والمواضيع الأكاديمية، وقد درست أكاديمية أفلاطون، الرياضيات، والفلسفة، والرياضة البدنية، وكان التدريس يمثل صراعًا بين الأفكار، والجدل، وكان الحوار الأدبي الأسلوب المفضل لدى أفلاطون.
ويرى أفلاطون أن العقل وحده، يمكننا من المعرفة الحقيقية. وأكد أفلاطون على أن الرياضيات يمكن أنتقدم لنا معرفة أزلية حقيقية، وهو يعتقد بأن مشاهداتنا لا تسمح لنا بأن نرى إلا تفسيرات غامضة، لكن ما نراه في داخلنا بفضل العقل يقودنا إلى المعرفة الحقيقية. ويعتقد أفلاطون أن مقر النفس الخالدة هو العقل، وأن النفس ليست مادية، وهي تستطيع أن ترى عالم الأفكار الذي آمن به أفلاطون، حيث يرى أفلاطون أن النفس كانت موجودة في عالم الأفكار قبل أن تأتي لتسكن الجسد، وعنده أن هذه النفس تحاول استذكار الأفكارالأزلية التي تعرفها من عالم الأفكار.

من هنا تأتي أهمية إعمال العقل، ليرى الصورة الحقيقية للأفكار، واعتقد أفلاطون بضرورة أن يتعلم الأطفال في المدارس كيف يضبطون رغباتهم، وينمّون شجاعتهم، وأن يستخدموا عقولهم ليصلوا إلى الحكمة.
وقد رأى أفلاطون أن تربية الأطفال شيء أخطر من أن يترك لتقدير كل عائلة أو أسرة بمفردها، وذلك لأنه لا يمكن أن تعلم الأسرة الأطفال ما يجب أن يتعلموه من أجل الوصول إلى المعرفة، القائمة حسب رأيه على استنباط الأفكار بوساطة العقل، وكي تنتج المدارس فلاسفة يمتلكون الحكمة، ليكونوا جديرين بحكم المدينة الفاضلة. المهم أن أفلاطون أدرك خطورة أن ينحصر التعليم في العائلة، لأن مثل هكذا عملية تعليمية تورث الطفل ما لدى الآباء من معلومات أو مهن في أطر تقليدية محصورة، فيظل المجتمع أسير محدودية التفكير غير القائم على المعرفة الحقيقية والحكمة، ويظل ضحية العادات والتقاليد التي تقتل الإبداع والأفكار، ويظل لسان حال الأطفال يردد "هذا ما وجدناعليه آباءنا". وقد كان لأفلاطون غرض آخر من تأسيس المدارس أكثر سموًّا ومثالية، ويتمثل ذلك الغرض في تعليم الأطفال كيف يفكرون، وكيف يستخدمون عقولهم، ليكونوا جديرين بالعيش في المدينة الفاضلة التي تخيلها، وظن أنه لا يمكن إلا أن يحكمها ويديرها الفلاسفة المتنورون الذين أصبحوا قادرين على تشغيل عقولهم، لأنهم هم الذين يرون الأمور على حقيقتها، وهو ما يؤكد أهمية دور المدارس والتعليم عنده.

وعلى اثر ذلك ازدهرت الحضارة وترك الإغريق أرثا حضاريا مهولاً ظلت البشرية تنهل منه عبر العصور والى عصرنا الحاضر رغم انه تعرض للإهمال والمقاومة والرفض في فترات زمنية وصفت بالظلامية كانت السيطرة فيها للمؤسسات الدينية ممثلة بالكنيسة في العصور الوسطى والتي رفضت الأخذ بالعقل كوسيلة للمعرفة وحاربت التفكير العقلي.
وفي تلك العصور اشتد صراع الكنيسة مع الفلاسفةالعقليين، لأنهم ظلوا على قناعاتهم أن العقل هو مصدر كل معرفة واعتقاد ديني، بينما آمنت الكنيسة بأنه لا يمكن للعقل أن يصل إلى بعض الحقائق الموحى بها. وبعد اتساع نفوذ الكنيسة وسلطتها، وتعمق تأثيرها ونفوذها، على مختلف جوانب الحياة، أمرت في العام (529م) بإغلاق أكاديمية أفلاطون في أثينا، و ظهر أمر منح البركة الذي اعتبرأول قانون كهنوتي، ولذلك يعتبر العام (529م) رمز وضع الكنيسة يدها على الفلسفة الإغريقية، وهو ما يعني سيطرة الأصولية الدينية على مقاليد الأمور بما في ذلك التعليم والفكر والتأويل، وتزامن ذلك مع سيطرة الكنيسة على المدارس، التي أصبحت تدار وتوجه من خلال الأديرة. وقد ظلت الكنيسة والأديرة تسيطر على التعليم والمدارس لمدة أربعة قرون منذ اغسطينوس حيث بنيت أول جامعة غير مرتبطة بالكاتدرائيات في العام (1200م) زمن القديس توما الإكويني، ومثل ذلك بداية تحرر الفكر في أوروبا التي كانت تخضع للمسيحية ومن ثم بزوغ عصر النهضة.

ولنا أن نتخيل ما تكون عليه الثقافة والفكر، إضافة إلى نظام الدراسة في تلك المدارس، في ظل مثل تلك السيطرة للكنيسة، وما طبيعة المناهج التي كانت تدرس في ظل تلك الأفكار الأصولية القائمة على مثل تلك المبادئ الدينية، التي تعمقت في تطرفها في ظل غياب الفلسفة العقلية، والمدارس الأفلاطونية، والمناهج البحثية...يمكننا أيضًا أن نتخيل ما كان عليه دور المعلم والمتعلم في ظل تلك الأفكار عن الإنسان، وكيف كان ينظر إلى الطالب متلقي العلم... ذلك لأن الكنيسة تبنت فكرة أن الوحي أغنى الناس عن كل أراء البشر وبخاصة في شأن الدين، لاعتقادهم أن ما جاء به الوحي يحتوي على كل ما كان يحتاج إليه الإنسان من التعليم والإرشاد.

لا شك أن مثل ذلك الجو الأصولي القائم على فكرتي تمرد البشر، والعقاب الذي فرضه الله على الإنسان كنتيجة لتمرده، أثرت في طبيعة الفكر والثقافة إلى حد بعيد، ومثل إلغاءً للعقل ودوره في الثقافة والمعرفة والعملية التربوية على وجه الخصوص... وهذا مثال آخر كيف كان ينظر للإنسان في ذلك العصر بناء على ما ورد في سفر أيوب (( إلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلى من السماوات ، فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية، فماذا تدري؟ أطول من الأرض طوله، وأعرض من البحر ...أما الرجل ففارغ عديم الفهم، وكجحش الفرا يولد الإنسان ) سفر أيوب(11:7 -12).

ولا شك في أن ذلك شكل تراجعًا كبيرًا في تسخير العقل من أجل الوصول إلى المعرفة، مما أثر سلبًا على الإنتاج الإبداعي، وبالتالي حدث التراجع الحضاري الإنساني في تلك الفترة الزمنية المظلمة، ولذلك فإن الليل الطويل الذي دخلته أوروبا في ما يسمى بالعصور الوسطى، عصر الظلام، والذي امتد ألف سنة، ما هو إلا نتيجة مباشرة لذلك الجو الظلامي الذي خلق تخلفًا في مختلف المجالات، بعد أن تم تعطيل العقول، ومحاربة المفكرين، والفكر المستنير بشتى الوسائل، وربما تكفير المفكر، ومعاقبته إذا خرج في أطروحاته عما تقوله الأفكارالدينية.

ولكن وبينما غرقت أوروبا في تلك الظلامية على كافة الأصعدة، ازدهرالتعليم والتعلم في المجتمع الإسلامي، إثر ولادة الإسلام عام (632م)، فلم يجد المسلمون تناقضًا بين الفكر الديني وأفكار الفلاسفة العقلانيين...حتى أن المسلمين الأوائل هم الذين حافظوا على تراث المفكرين الإغريق، بعد تشديد الكنيسة قبضتها، وتكفير الفلاسفة ونبذهم، وهم الذين ترجموا كتب الفلاسفة الإغريق وعلومهم، وعملوا على تطويرها.
ولا شك في أن ذلك القبول للفكر الفلسفي العقلاني، والمنهج الأرسطي والأخذ به، أثر بدوره بصورة إيجابية على النظام التعليمي في الإسلام ككل، من حيث المناهج، والتعليم، ودور المعلم، وبالتالي ازدهرت العلوم وتطورت بشكل مذهل. ولم يتراجع التعليم في البلاد الإسلامية، كما أن العلوم، والبحث العلمي، والتقدم الحضاري ظلت مزدهرة في البلاد الإسلامية في العصور الوسطى، إلى أن برز أئمة مسلمون تبنوا أفكارًا أصولية من حيث رفضهم للفلسفة، ومنطق الفلاسفة العقلانيين ومناهجهم.


وبالتالي أثرت أطروحات هؤلاء الأئمة سلبًا على النشاط العقلي والفكري والفلسفي في العالم الإسلامي، فتراجعت العلوم، وتراجعت الحضارة، بعد عصر ابن رشد، وهي ما تزال في تراجع في المجتمعات الإسلامية، نظرًا لاستمرار انتشار وتأثير وسيطرة ذلك التفكير الأصولي وتأثيره وسيطرته، وأثر ذلك بالتالي على مختلف مناحي الحياة، وعلى رأسها النظام التعليمي، ومناهجه والذي هو المحرك الأساس لتأهيل العلماء والباحثين.

وفي المقابل عادت أوروبا لتستعيد زمام المبادرة في تصدرالتطور الحضاري، والتقدم العلمي والنهضة، بعد تخلصها من سيطرة الكنيسة المطلقة، والعودة إلى الأخذ بمناهج البحث والتفكير العلمية العقلانية، وقد ساهمت أعمال ابن رشد تحديدًا في تلك النهضة، وساعدت في إحياء الفكر الفلسفي العقلاني في أوروبا، حيث أعيد اكتشاف بعض كتابات أرسطو بمساعدة الفلاسفة المسلمين، مما أحيا الاهتمام بالعلوم الطبيعية، وأثر من جديد في النظم التعليمية في أوروبا وأدى إلى نهضة غير مسبوقة قائمة على كم هائل من الاختراعات المبدعة التي ما كان للعقل البشري أن ينتجها لوظلت الكنيسة هي المسيطرة.

ومن الأدلة على ذلك، مثلاً، ما حصل من رفض الكنيسة لاستنتاجات كوبرنيكس عن دوران الأرض حول الشمس، وعودة الكنيسة لرد اعتبار العالم جاليلو الذي كفرته، وكادت أن تنفذ فيه حكم الإعدام، لولا أنه تراجع عن أفكاره ظاهريًّا في المحكمة، لإنقاذ نفسه، ليخرج مرددًا " لكنها تدور، لكنها تدور"، وقد جاء رد اعتباره بعد أربعمائة عام من تاريخ إصدار الحكم ضده، وبعد أن أثبت العلم الحديث صحة استنتاجاته العلمية بشكل قطعي.

لا شك في أن المتأمل والمتعمق في ما سبق يرى أهمية دور العقل والتفكير في المعرفة، وأهمية دور المفكرين العقلانيين في التطور الحضاري، ويرى بجلاء خطورة سيطرة المؤسسات الأيديولوجية ضيقة التفكير، وعلى التعليم والمناهج التعليمية.

وفي ظل تراجع التطور والحضارة في البلاد الإسلامية، وفي المقابل النهضة والتقدم الهائل في البلاد الغربية، لا بد من إعادة النظر في كل ما يتعلق بالفكر والتفكير والمناهج والعملية التعليمية، وربما إعادة إحياء المدارس على الطريقة الأفلاطونية، وهي المدارس التي تأخذ بتفعيل الأنشطة العقلية، ولا بد إذن من إعادة الاعتبار للعقول، ووضع مناهج تقوم على تنشيط التفكير، وتوليد العقول، مع ضرورة إخضاع كل ذلك للتجارب العلمية والبحثية والميدانية والحسية، ولا بد من إصلاح الوضع التعليمي في البلاد التي تشهد تراجعًا في التفكير، وأن يؤخذ بالاعتبار في ذلك دور المعلم، والإداري، والمبنى الدراسي، والفصول، والمنهاج، والكتاب، وطريقة التقويم، والامتحانات، وغيرها من الأمور التي تشتمل عليها العملية التعليمية، وجعلها تتمحور حول تحرير العقول، وأهم من ذلك حفظ كرامة الإنسان المتعلم والباحث، ومنحه الفرصة للبحث والتعمق في طرح الأسئلة في جو حر، يمكن الإنسان من الإبداع بدون خوف وهذه هي الضمانة الوحيدة لتحقيق مزيد من التقدم لما فيه خير الإنسانية.