عرض مشاركة واحدة
قديم 08-05-2010, 03:25 PM
المشاركة 14
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: يبلغ لمن يهمه الأمر
رافعي ... سيرة نقدية


مصطفى صادق الرافعى ... ماله وماعلينا

( سيرة نقدية.... بقلم : محمد عبد السميع نوح )
منبر الدراسات النقدية



ونحن ننلفَّتُ حولنا لنرصدَ الواقعَ الثقافىَّ فى بلادنا نشعرُ بالأسى ، ويشتدُّ الحزنُ حين نُعمِلُ حاسة المقارنة بين أديبٍ وأديبٍ أو بين زمن وزمن ، ولا أظن سا بقة سلبية فى الما ضى مهما بلغت ستقارب ما تعا نيه حيا تنا الأدبية فى هذه الأيام ، المظاهرُ والتداعيات لا تخفى ، فهل من عودة إلى ماض ليس بالبعيد نستنشق عبقا من الفن ونسبح مع أرواح لأناس لم يتخذوا الأدب للشهرة والربح والمجا ملة والشللية ، ولم يركبوا جوادَهُ الجا محَ إلا بعد مِران ٍطويلٍ ومُضْن ٍ ، فلما ركبوه كا نوا فرسا نه بحق .
فارسنا الذى نطرق باب مملكته بأدبٍ جَمٍّ عَلَّهُ يَسْمَحُ لنا بالدخول هو أديبُ العربية الفذ، سلطانُ الكلمةِ وعُمْدَةُ البيان وقاضى محكمة الميزان الروحىِّ للفن ،إنه أنت يا سيدى ، إنه انت .. أجل .. مصطفى صادق الرافعى ..
أعرفُ أنك ولدت فى يناير 1880م ، وتوفيت فى مايو 1937م ، وكانت حياتك العلمية وجهادك على أرض طنطا الطيبة التى تضمُّ عظامَكَ الطاهرة ،
وأعرف أن نسبكَ الشريفَ موصولٌ بأمير المؤمنين عمربن الخطاب ،
وأعرفُ عن تفاصيل حياتك الكثيرَ الكثيرَ، قرأتُ عنك "حياة الرافعى" لمحمد سعيد العريان ، وقرأتُ عنك "الرافعى ومى" لعبد السلام حافظ وقرأت رسائلك فى كتاب محمود أبى رية "رسائل الرافعى" وقرأت رسائلك لأحمد ذكى باشا .
لِيَكُنْ.. ولكنى قرأتك أنت مرتين ، مرة على صفحات كتبك الموضوعة فى أعز وأمنع مكان فى مكتبتى ، وهى قراءة واحدة تتكرر ولكنها واحدة ..
ليكن ولكنى قرأتك وبينى وبينك جدرانُ قبرك المزدان بالموزاييك وبينى وبين القبر بوابة حديدية كأنما يحبسون ماردا فى قمقم ،والحقيقة التى طالعنى بها ترابك النابض بالحياة أنك قد فرغتَ من الحياة الدنيا إلى الجزاء والمكافأة ..وتالله لقد انحبست عنك الدنيا فى هذا القمقم الأرضى لتنطلق أنت إلى دار لايعرفُ الظلم إليها طريقا .قرأتك فيما تعاودنى فى سرى بطربوشك الأنيق حلما فى اليقظة والمنام . وياترى كم نفسا عربية ماتت بموتك يا شيخى الرافعى ؟ وكم نفسا تموت كل يوم ؟ أتعرف ماذا حدث بعد موتك للأدباء والمثقفين ؟ ما علينا فما جئتُ لأكلمك عنهم ، بل لأكلمهم عنك ، أعرف ويعرفون أنك لما أصابتك علة الصمم اعتزلتَ العالمَ وأقمتَ لنفسك مدرسة خاصة فرغت فيها من كل آداب العرب فاستدركتَ على السابقين أشياء وأدبت اللاحقين بأشياء وأبدعت فى فنون الأدب كتبا قليلة العدد ولكنها إنْ شُرِحَتْ على مقادير الأفهام ملأت مابين الأرض والسماء !
هل نقرؤك شاعرا ؟ أم هل نقرؤك ناقدا ؟ هل نقرؤك فيلسوفا أم نقرؤك مؤرخا ؟ هل نقرؤك معلما أم هل نقرؤك عالما ؟هل نقرؤك باحثا أم هل نقرؤك راوية وقاصا من طراز رفيع؟هل نقرؤك صوفيا متحققا ؟ أم هل نقرؤك عاشقا أفاض على صفحا ت الكتب دماء العشق التى لا توزن إلا بدماء الشهداء ؟ أجل لقد عرفتُ كيف سنقرؤك ، نقرؤك مجاهد ا ، هذاهو الوصف الذى يلحُّ على الساعةَ ، ولكن قبل أن أستعيد للأحياء قصة جهادك، وأبعث فرسان المعارك التى شهدت نضالك ، وأعيد على أسماعهم صلصلة السيوف ، وأمام عيونهم مثار النقع من حولك هنا وهناك ، قبل ذلك كله ، نستطيع أن نقرؤك شاعرا فى دواوين خمسة نشِرتْ لك هى : ديوان الرافعى ( ثلاثة أجزاء ) وديوان النظرات وديوان الأناشيد ، ولكن : هل صحيح كما قرَّرَ الأستاذ العريان فى حياة الرافعى أن شعر ك الذى لم ينشر هو أضعاف أضعاف ما نشر ؟ ولماذا ؟ أى حرمان أصاب الشعر بعدم نشر سائر شعرك؟ ونستطيع أن نقرؤك ناقدا فيما كتبته عن جل أدباء عصرك وطبقت عليهم نظريتك البيانية فى النقد ، والتى بنيت عليها نظريتك الإبداعية فى الكتابة ، وسأذكر ما يستحق أن تفخر به بين أترابك ممن عاشوا أو ماتوا ولم يخلفوا مثل أو بعض ما خلفتَ من أثر .
هل أذنت لى بالدخول إلى حضرتك والمثول بين يديك ؟؟
شكرا لك ياسيدى ..
يوم أن عفرتُ نقاء ترابك بغبار قدمى وأنا أزور مقبرتك للمرة الأولى تمنيتُ أن أضع كتابا أعرِّف بك من لم يعرفك ، فليس كل من قرأ كتبك عرفك ، أريد أن ألحَّ على الذاكرة العربية بثرثرتى ليعرفوا من هو الرافعى .
نقرؤك ناقدا فذا فريدا فى كتابك القيم " تحت راية القرآن" وأنت تدفع البدعة وتقر الحقيقة ، وفى مقالاتك فى "وحى القلم" ونقرؤك فيلسوفا فى "المساكين" و"السحاب الأحمر" وفيلسوفا عاشقا فى" أوراق الورد" ونقرؤك مؤرخا فى "وحى القلم" وكيف عرضتَ على سطوره لحوادث التا ريخ مؤدبا لها.
نقرؤك معلما فى كتبك التى تعالج فيها فن الإنشاء" كحديث القمر" و"أوراق الورد " و"رسائل الأحزان" .. ونقرؤك باحثا علامة وحبرا فهامة فى كتابك الفريد" تاريخ آداب العرب " ونقرأك صوفيا مؤمنا فى مقالاتك فى "وحى القلم" وفى" كتاب المساكين "نعم نقرؤك كل هؤلاء وأكثر .
ويوم أن قرأت" حياة الرافعى" الذى كتبه عنك صديقك العالم الأستاذ/ محمد سعيد العريان، هالنى ما قرأت وفهمت حقيقة الأدب وبحثت عن كتبك فوقفت كثيرا مع كل كتاب منها أقرأه وأقرؤك .
كنتُ فى مرحلة الشباب وكان كتاب" أوراق الورد" بمقدمته التي هي دستور للعشق والعشاق ، أنظر إلى مقدمتها البديعة التى أرخت فيها لهذا الفن – فن الرسائل – وعرضت خريطتها مع الشرح البليغ رافعا قلمك أو شاهرا سيفك فى وجه أدباء عصرك وكأنما تتقمص روح جدك الفاروق الأعلى وهو شاهرٌ سيفَه فى وجه قريش ,," من أراد أن يتيتم ولده وتترمل امرأته فليتبعنى خلف هذا الجبل ,," ولم يتبعك أحد ومضى ركبك إلى حيث تريد.
نعم كانت فيك حميته و " جيناته " وإلا فما هذه الخصومات الكثيرة التى امتلأت بها حياتك؟ وما هذه الصلابة التى تلبستْ رأيك وموقفك فى كل قضية أدبية أو ثقافية ، فهذا كتاب أوراق الورد وهو كتاب أفضل اختصار لمعناه أنه فى فلسفة الجمال والحب وأنا أعترض على حرف الجر بل هو كل فلسفة الجمال والحب ، ومع أنه جمال وحب إلا أنه مضمَّخٌ بدماء فدائىٍّ شهيدٍ ، أنظر إليك وأنت تقول: " ,, إنه ليس معى إلا ظلالها .ولكنها ظلال حية تروح وتجيئ فى ذاكرتى ، وكل ما كان ومضى هو فى هذه الظلال الحية كائن لا يفنى ، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة باسره مترجما إلى لغة عينيه ، أصبحت أراها فى هجرها طبيعية حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكرى ... كان لها فى نفسى مظهر الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه ثم خضوعى لها خضوعا لا ينفعنى ...فبدلنى الهجرُ منها مظهرَ الجلال ومعه وقار اليأس ثم خضوعها لى خضوعا لايضرها ...
,, وما أريد من الحب إلا الفن ، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب ...
,, كلما ابتعدت فى صدها خطوتين رجع إلىَّ صوابى خطوة ...
,, لقد أصبحت أرى ألين العطف فى أقسى الهجر ، ولن أرضى بالأمر الذى ليس بالرضا ، ولن يحسن عندى ما لايحسن ، ولن أطلب الحب إلا فى عصيان الحب ، أريدها غضبى ، فهذا جمال يلائم طبيعتى الشديدة، وحب يناسب كبريائى، ودع جرحى يترشش دما ،فهذه لعمرى قوة الجسم الذى ينبت ثمر العضل وشوك المخلب ، وما هى بقوة فيك إن لم تقو أول شئ على الألم . أريدها لا تعرفنى ولا أعرفها ، لا من شئ إلا لأنها تعرفنى وأعرفها ، تتكلم ساكتة، وأرد عليها بسكوتى ، صمتٌ ضائعٌ كالعبث ولكن له فى القلبين عمل كلام طويل ,, " انتهى
الله الله
- أهذا كل ما أعجبك يا ولدى فى أوراق الورد ؟
- سيدى إننى كلما قرأت فى صفحة من صفحاته تمنيت أن ينزل الكلام وتقل فصاحته فى بعض المواضع حتى يتسنى لى الاختيار من القليل الجيد ، ولكن مشكلتى أنى أراك دائما محلقا ، وبودى لو اخترت الكتاب كله وجعلته على هذه الصفحات الآن ، فأية عبارة أختار وأية عبارة أترك ؟ أنا فى مأزق حقيقى .
- لا عليك .. أنا أيضا بعد اثنتين وسبعين سنة أصابنى ضعف فى الذاكرة – لعله ما تسمونه "الزهايمر" – ولكنى سأ تخير لك من أوراق الورد ما يخطر على بالى فأنت تعرف أن ليست النسخة فى يدى ولا يسمح لنا فى الآخرة اصطحاب شيء من متاع الدنيا.. اسمع يابنى
إننى أقول :
",, لقد وضعك حسنك فى طريقى موضع البدر يُرَى ويُحَبُّ ولكن لا تناله يدٌ ، ولا تعلق بنوره ظلمة نفس ، لكن كبرياءك نصبك نصبة الجبل الشامخ ، كأنه ما خلق ذلك الخلق المتنمر الوعر إلا لتُدَقَّ به قلوبُ المُصَّعَّدِينَ فيه ، كونى من شئت أو ما شئت ، خلقا مما يكبر فى صدرك أو مما يكبر فى صدرى ، كونى ثلاثا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة ، ولكن لا تكونى ثلاثة آلام ، انفحى العطر الذى يلمس بالروح واظهرى مظهر الضوء الذى يُلمس بالعين ، ولكن دعينى فى جوك وفى نورك ، اصعدى إلى سمائك العالية ، ولكن ألبسينى قبل ذلك جناحين ، كونى ما أردت نفسَكِ . ولكن أشعرى نفسك هذه أنى إنسان ... ! ,,
- الله الله وهل كان لها من رد ؟
- نعم ، ولعله : "إن أمى ولدت نفسى ، ونفسى هى ولدتنى ، فلا ترجُ أن تصيب فى طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب "
- هل كانت شاعرة ؟
- كلكم تعرفونها .
- سيدى .. أنت عشت الحرب الكبرى الأولى بين الحلفاء ولم يكن للمصريين ..
- نعم يا ولدى .. لماذا تذكرنى بهذه الأيام ؟ لم يكن لهم فى الحرب من ناقة ولا جمل ، وكانت أقواتهم فى يد المحتل يضعها فى صوامع بالصحراء فإن لم يأكلها جنودهم أكلتها القنابل المدمرة .
- أعرف أن نفسك اهتزت وزُلزلتْ روحك غما وحزنا من هذه الحرب وما جرته على البلاد من فقر.
- يا ولدى .. لم يكن فقرا .. إن الأمر تعدى معنى الفقر إلى الموت جوعا بسبب هذه الحرب .
ـ إنك تقول عنها الكثير فى كتابك المساكين .
- نعم.. وهل تحفظ منه شيئا لعلك تذكرنى بغيره .
ـ لك قصيدة بعنوان " على الكوكب الهاوى" وأنت تصف حاال حسناء ، وعلى هذه الحسناء تدور معا نى القصيدة .
ـ لقد خيَّبْتَ ظنى يا ابن نوح .
ـ كيف ؟
ـ ياولدى ، إن الحسناءَ التى أنعى لها حظها العاثر هى مصر، هى الأمة كلها ، وكانت واقعة تحت سطوة المحتل ، وقد تورَّطتْ فى تكلفة حربٍ لم تكن لها فيها مصلحة .
ـ هل ستقول لنا شيئا من كتاب المساكين ؟
ـ قلت لك أعطنى أول الخيط .
ـ أنت تصف الحرب فى هذه القصيدة فتقول :
وماحمِدَ الشيطانُ للناس مثلها ولاكان للشيطان فى مثلها شكرُ
وما الحربُ إلارجفة ُ الأرض رجفة ً
يموتُ بها عصرٌ ليحيا بها عصرُ
وما الحربُ إلا مُطْرَةٌ دموية ٌ
إذا دُنِّسَتْ رُوحُ الورى فهى الطُّهْرُ
فياربُّ جَلَّتْ هذه الحربُ محنة ً
على الناس لا الإيمانُ منها ولا الكفرُ
ففى كل نفس غُصَّة ٌ ما تُسٍيغها
وفى كلِّ قلبٍ كَسْرَة ٌ ما لها جَبْرُ
ـ انتظر .
ـ ألن أكمل ؟
ـ لقد ذكرتنى أنت الآن بشيء مهم ، فأنا تنبأت بأشياء ، لعلها وقعت .
ـ ماذا تقصد ؟
ـ إننى أقول فى الكذبة الغربية والأمريكية الكبرى شعرا ، الكذبة التى كانوا يخدعون بها الشرق ، ولقد تنبأتُ أنها مؤامرة كبرى لها مابعدها .
ـ أكاد أفهم .
ـ هل ضحكوا عليكم وقالوا إنهم جاءوابأكياس الحرية وصناديق الديمقراطية وكراتين حقوق الإنسان ومعلبات حقوق المرأة والطفل وما إلى ذلك ؟
ـ نعم ولازالت طائراتهم تقصف العراق وأفغانستان بقنابل الحرية وصواريخ الرخاء وقنابل أخرى تنفجر تمرا وحليبا فى رمضان ولحم الضأن فى عيد الأضحى .... الحمد لله .
ـ أوقد فعلوها ؟!
وماذا فعل حكامكم ؟
ـ .................... .................... .................... .................... .
ـ فلا تخدعوا الإنسان عن نزعاته
فما الناس إلا ما أساءوا وما سَرُّوا
وكم قيل : إنسانية ٌ ومحبة ٌ
وعلمٌ وتمْدِينٌ وأشباهُها الكثْرُ
فيا قدرا يجرى دماء ويلتظى
سعيرا أذاك الحب أنت أم الهجرُ ؟!
ـ سيدى أنت فى هذا الكتاب تنظر بعين صوفى متحقق واصل إلى عمق نواة اليقين فى صدر العارف الذى يتجاوز الطبيعة إلى ماوراءها ما دام يمتلك هذه الحاسة .
ـ كنت أريد أن أبين شيئا من حكمة الله فى شيء من أغلاط الناس .
ـ هذا الكتاب لا يجمعه موضوع واحد مع أن الباعث عليه معروف وهو الحرب . الحرب فقط .
ـ يا ولدى وهل الحرب موضوع واحد بكل ماتخلفه من آثار ؟
ولكن قل لى : هل تذكر كيف وصف ابننا محمد سعيد العريان هذا الكتاب ؟
ـ إنه "يقول: صورٌ من آلام الإنسانية كثيرة الألوان ، متعددة الظلال ، تلتقى عندها أنة المريض وزفرة العاشق ودمعة الجائع وصرخة اللهفان المستغيث ، فهنا صورة الشيخ على .. "
ـ توقف يابنى .
ـ سيدى إنك تبكى .
ـوكيف لا أبكى وقد ذكرتنى بالشيخ على .
ـ وكيف كان الشيخ على ؟ لقد قرأتُ عنه ولكن السماع منك أبلغُ فى البيان .
ـ أتقول البيان ؟ إنه مذهبى فى الفن وفى نقد الفن .
ـ قل أولا عن الشيخ على ثم نتطرق إلى البيان .
ـ إيييه .. الشيخ على رحم الله الشيخ على وجعلنا من بركاته .
هو حليم لنفسه ، غضوب لنفسه ، وكذلك هو فى الخفه والوقار ، والضحك والعبوس الزهو والانقباض ، وفى كل ضدين لذة وألم ، كأنه جزيرة قائمة فى بحر لا يحيط بها إلا الماء ، فلا صلة بينهما فى المادة وإن كانت هى فيه ، فالناس كما هم وهو كما هو ، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى ، ويتحاشونه رأفة ورحمة ، ويتحاماهم أنفة واستغناء ، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه ، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعى ، ولا فرق عنده فى هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ....! وهو والدنيا خصمان فى ميدان الحياة ، غير أن أمرهما مختلف جدا ، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها ، وقهرها هو لأنها لم تظفر به.
هذا هو الشيخ علىٌّ فى عبارة قصيرة وليعد إلى الكتاب من شاء المزيد .
- سيدى .. لقد بدأت حياتك الأدبية شاعرا وفقط ثم ابتعدت عن الشعر
- لا.. ليس صحيحا .. بل قل : شغلتنى قضايا أدبية استهلكت وقتا غير قليل ولكنى كنت أعالجه بين الحين والحين ..
- نعم ، ممارستك الكتابة النثرية لاتعنى هجرانك الشعر.
- هذا صحيح .
- أعرف أن لك وقفة مع الجامعة المصرية وبسببها أخرجت للناس كتابك " تاريخ آداب العرب "
- هل تقرأونه الآن ؟
- ليس كثيرا .
- هل تذكر عنه شيئا ؟ فلعلى أذكر أشياء .
- أذكر أنك سلكت فى درسك الأدب العربى مسلكا محتلفا عن كل من كتبوا فيه .
- وهل كتب فيه أحد من قبلى ؟
- أما على نحو ماكتبتَ وعلى حذو ما صنَّفْتَ فلا ، وكنت َ .. كنت تطمح إلى أن يعهد إليك بتدريسه فى الجامعة .
- ذكرتنى ، الجامعة، بدأت الجامعة المصرية فى 1907 وانتظرت سنتين فلم أجد فيها شيئا عن تاريخ الأدب العربى ، فحملت على الجامعة فى الجريدة فنظمت الجامعة المسابقة للكتابة فىأدبيات اللغة العربية وبقية الخبر معروفة .
- ولكن لماذا لم تعترف بالعصور الأدبية بداية من الأدب الجاهلى ثم عصر صدر الإسلام ثم الأموى فالعباسى ثم المملوكى وغيره كما فعل الآخرون ؟
- شوف يا بنى ، إذا كان المستشرقون قد قسموا الأدب العربى إلى هذه الأقسام حسب سننهم فى درس أداب أممهم ، وإذا كان كتابنا العرب قد أخذوا بهذه الطريقة ، فإن المستشرقين لا لوم عليهم ، إذ إنهم ليسوا بالضرورة على علم بما للعربية من خصوصية تفارق بها آداب سائر الأمم ، أما العتب واللوم فعلى كتابنا الذين لم ينتبهوا لهذه الحقيقة ، فإذا كانت لغات الأمم تتطور بقرار فإن العربية كائن من كائنات الطبيعة كالليل والنهار ، لغة صَنعت وتصنع تاريخها وليس العكس ، ولهذا فقد تحملتُ المشقة والعنتَ فى انتهاج طريقتى التى لم يسبقنى اليها أحد ... وهل حدث بعدى أن تابعنى أحد ؟
- لا والله .
- تتبعت فى كتابى الظواهر والقضايا اللغوية ظاهرة ظاهرة وقضية قضية منذ بدء نشوئها ، ولم يكن التاريخ بسنواته وأيامه ولياليه إلا ماهو تاريخ ووعاء ، ظرف لكائن نابض بالحياة لأمة براعتها الشعر والبيان ، بيد أنى لم أهمل التاريخ كما قد يتوهم، بل كنت أعزو كل حادثه إلى تاريخها ، ولكنى لم أزد التاريخ عن رتبته وكانت اللغة والأدب همى الأول وهوما يصل بطالب العلم إلى بغيته من أقرب طريق . كما أنى أرحت القارئ من الإحالة إلى المراجع ومن العنعنات التى تمثل عبئا على وقته وعينيه .
وأصدرت الجزء الأول بعد سنة ونصف من العناء ( فى 1911)
- وهل تقدمت به للمسابقة ؟ طبعا لا .. فلماذا ؟
- أية مسابقة ؟ ومن ذا الذى يقيم الرافعى ؟ طبعا لم أتقدم به ، بل تعمدت نشره قبل حلول الأجل ؛ لأنى علمت أنهم سيعهدون بتدريسه لآخر فلا يكون الأستاذ بين تلاميذه إلا كالتلميذ الأكبر بين زملائه .
- طبعا جاء الكتاب فى ثلاثة أجزاء .
- نعم ولكنى طبعت الجزء الأول فى 1911م والثانى فى 1912م وحالت الأعباء المعيشية بينى وبين طبع الجزء الثالث .
- لا ياسيدى .. اطمئن .. لقد نشر بعد وفاتك .
ولكن كيف تضيق يدك عن الجزء الثالث وهو الخاص بالشعر؟
- تعلم أننى كنت موظفا صغيرا فى محكمة طنطا ، وأن راتبى بعد ثمان وثلاثين سنة لم يتجاوز بضعة وعشرين جنيها ولى عشرة من الولد أعولهم ، دعك من هذا فقد شغلتنى أمور لا أحسبها هينة ، كنت أتقاضى أجرى عن مقالاتى لرعاية الأسرة وإصدار ما يتوازى مع الأحداث السياسية والاجتماعية وبالأخص قضايا النقد الأدبى ومعاركى الشهيرة مع الآخرين .
- يالها من معارك ، هل تصدقنى القول ؟
- زه زه يا ابن نوح .
- عفوك يا شيخى لا تؤاخذنى بما نسيت ، أقصد أننا ننجرف إلى ساحة يكثر فيها القيل والقال وكثرة السؤال .
- ماذا تقصد ؟
- معاركك الأدبية، أو قل أهم هذه المعارك ..
- لم تكن لى خصومات شخصية اللهم إلا فى بعض المواقف مع الأستاذ العقاد كتبت فيها كتاب على السفود وليتنى ما كتبته .
- ولكنه أى العقاد آذاك فأغضبك .
- نعم ولكن الصفح كان أوْلى .
- كيف كانت طبيعة معاركك الأدبية ؟
- ألم تقرأ مبدئى ومذهبى فى الفن .
- بلى وبأكثر من صياغة فى جميع كتبك .
- قل ما هو؟
- إنك تدافع عن كل ماهو إسلامى أو عربى وتضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع كما كان يفعل ابن شداد .
- سأقول لك مبدئى كما سطرته فى كتابى " تحت راية القرآن " ولكن هل أتكلم بالمضارع كيوم كتبتها أم أحولها للماضى ؟
- كما ترى .
- إذن بالماضى ،لأننى فى دار الحق ولا أقول غير الحق فأنا لم أكن أعبأ بالمظاهر التى يأتى عليها يوم وينسخها يوم آخر ، والقبلة التى كنت أتجه إليها فى الأدب إنما هى النفس الشرقية فى دينها وفضائلها ،فما كتبت إلا ما يبعثها حية ويزيد فى حياتها وسموها ، ويمكن لفضائلها ولخصائصها فى الحياة ولذا لم أمسس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا ، ثم إنه كان يخيل إلى دائما أنى رسول لغوى بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه .
- ولكن ما الذى جعل أحمد ذكى باشا شيخ العروبة يقول لك: لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وجوته كما للألمان جوته وهوجو كما للفرنسيين هوجو ؟
- إنه كتاب المساكين لما فيه من فلسفة الحياة والموت ، والقول المريح للخاطر، والمطمْئِن للقلب فى أعضل المعضلات الفلسفية ، ولم آتِ فيه بشئ من عند نفسى ، إنها تعاليم هذا الدين الحنيف علمنى الله من أسرارها ووهبنى القدرة على بيانها البيان المناسب .
- ها أنت تقول البيان ، إذن فماذا تقصد بالبيان فيما عالجت من مسائل الأدب والنقد ؟
- قبل أن نتكلم عن البيان ، كيف يرى الناس كتبى ؟ وكيف يرون قبرى بعد اثنتين وسبعين سنة ؟
- قبرك سيدى ككتبك وكتبك كقبرك ، لم آت إلى هنا مرة بعد صلاة الجمعة إلا رأيتنى وحدى ، ولم أتلمس كتبك إلا كنتُ فى غربة حتى وأنا فى أهلى ..
- لا حول ولا قوة إلا بالله .
- ولكن الأحياء يا سيدى كتبوا على قبرك هذه العبارة التى حيرتنى وأرجو منك البيان بشأنها .
- يالكلمة البيان ، إنها تطاردنى حيا وميتا .. ولكن ما أحلاها كلمة .
- أما المكتوب على واجهة القبر وكأنهم يستشفعون بها لى عند الله، جازاهم الله خيرا ولكن متى كان الأدب طائفيا إسلاميا أو مسيحيا أو غيره ، موضوعات الدنيا بأسرها موضوعات لكل أديب ، فالأدب جهاز الأعصاب الموحد للبشرية كلها .
- سبحان الله أنت الآن تقول ما أشعر به دائما .
- لقد كتب العلامة جورج زيدان فى التاريخ الإسلامى وهو مسيحى فبم يصفونه ؟
- نعم .
- أما البيان فأنا أول من واءم بين نحت الكلمة وبين الأدب إبداعا ونقدا
وأنا أول من استخدمها ونظر لها ومع ذلك لى عتاب على الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة الأسبق .
- عليه رحمة الله .
- أو قد انتقل ؟
- نعم .
- سامحه الله وغفر له ، تعلم أن كتابه من أهم الكتب التى أرخت للأدب فى عصرى وانظر إلى عنوان الكتاب وهو : "تطور الأدب الحديث فى مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية " ومدة عمرى كاملة واقعة فى هذه الحقبة فقد ولدت 1880وتوفيت1937م .
وبرغم ذلك بلغنى من أحد الأحباب أنه لم يذكر اسمى إلا عرضا ، فلو كان عندك بيان لهذا الأمر فا مددنى به ولك الأجر .
- نعم يا سيدى .. لقد درستُ هذا الكتاب فى كلية دار العلوم ، ولما قرأت عنوانه رجوت أن أراك على ثلاثة أرباع الصفحات أو نصفها أو ربعها أو عشرها ، ولكن.. أهذه نميمة أو غيبة يا سيدى ؟
- لا يا ولدى ، إنك لا تحدث بشخص الدكتور هيكل ولا شخص الرافعى ، إن قضيتنا الأدب والحق والحقيقة ، ولئن كان بيانها منقبة أو مثلبة فإن التاريخ لايجامل ، ولم تعد لأيٍّ منا مصلحة .
- ثمة إشارة خافتة ص253 من هذا الكتاب عن زعامتكم للتيار المحافظ فى مواجهة التيار الغربى الذى يتزعمه هيكل (صاحب رواية زينب ) وطه حسين والعقاد ثم ترجمة لك ولعبد الوهاب عزام وأحمد حسن الزيات فى الهامش وبإيجاز ، وفى ص 262 يرد اسمك وكتابك على السفود الذى صدر عام 1930 فى الرد على العقاد ، ويشعر المرء أنه لولا العقاد وطه حسين ما ذكر للرافعى ، عفوا ما ذكِرَ لك اسم !
- وما تعليقك ؟
- ظللت لسنوات كلما تذكرت ذلك تساءلت : أهذا هو كل ما يمكن أن يقال عن الرافعى بين جمهرة الأدباء المعاصرين له ؟ ,الذين اعتنيت يا دكتور هيكل بتقديم الصفحات الطوال عن أخبارهم والنماذج المطولة من أعمالهم وإن كان بعضها لم يرق عن مستوى الكلام العادى وصحف الاستهلاك اليومية !
أهذا كل ما يمكن أن يقال عن الرافعى ؟!
ـ هذا تعليق لايفترض وجهة نظر محددة ، لقد علقت على السؤال بسؤال .
أريد بيان وجهة النظر الأدبية التى أشعر أنك تتمتع بقسط منها
- تريد البيان ؟ سلطان البيان يريد البيان سبحان الله .
-لا تثرثر.
ـ ذات مساء وقد حزبنى شئ من الحزن الغامض الذى لا يعرف المرء له سببا رحت أدفعه بقراءة كتاب لك – كما هى عادتى – فاكتشفتُ أنك كنتَ السببَ وراء هذا الإغفال .
- كيف؟
- إنه مجرد افتراض ، يدفعنى إليه ما قرأته لك فى كتاب وحى القلم الجزء الثالث ص225 فى الهامش شرحا لعبارة :"فليس يتبع طريقة أحد ، بل هو طريقة نفسه " وهذا هو مقالك بالنص منقول من الهامش المذكور :
" لا وجه عندنا لما استعمله بعض الكتاب فى الأدب من قولهم مدرسة امرئ القيس ومدرسة النابغة ونحو ذلك ، ترجمة حرفية لقول الأوربيين مدرسة فلان ومدرسة فلان ؛ فإن الأدب إن كان تقليدا فهو أدب منحط لا يجعل مدرسة يحتذى عليها ويتخرج بها ، وإن كان إبداعا فليس الإبداع مدرسة تكون بالتعليم والتلقين ويتخرج بها الواحد والمائة والألف على طراز لا يختلف ، إنما تنطبق هذه الكلمة على المذاهب المستقرة فى الفنون التعليمية ، وفى هذا لاتطلق فى الأدب العربى إلا على فئتين فقط ، هما البصريون والكوفيون ، على أن كلمة مذهب هى المستعملة فى هذا ، وهى أسدُّ منها ، إذ يدل المذهب على منحى اختاره الرأى وذهب إليه ، فكأنه عن تحقيق فى صاحبه وتابعيه ، أما تسمية الإلهامات التى مرت فى ذهن نابغة من النوابغ بالمدرسة فتسمية مضحكة باردة ، إذ الإلهام بصيرة محضة ، وما هو مما يقلد ، وقلما تشابه ذهنان على الأرض فى عناصر التكوين التى يأتى منها النبوغ ، وقد قال علماؤنا طريقة فلان وطريقة فلان ، فالطريقة هى الكلمة الصحيحة لأن عليها ظاهر العمل وأسلوبه ، يتوجه بها من يتوجه ، ويقلد فيها من يقلد ، أما سر العمل فهو سر العامل أيضا ، وهو شئ فى الروح والبصيرة ، وهو فى العبقري أمر لا يستطيعه إنسان وشذ فى إنسان بخصوصه"
انتهى كلامك يا سيدى .. ولكأنما كنتَ تصف نفسك ، ولكأنك بهذا القول تُخْرِجُ نفسك من كل المدارس والتيارات التي تفرَّقتْ بهم سبلا ، وأنت تحفر لنفسك قناة خاصة هى دستورك فى الأدب يتفق من يتفق ويختلف من يختلف ... سيدى هل فى هذا الاستنتاج الذى أذهب إليه بيان من الحقيقة .
- نعم .. وأنت فى استنتاجك الصائب هذا قد طبقت مذهبى البيانى فى النقد وأعتقد أن البيان قد آن أوانه يابنى ولكن بعد أن تستريح استراحة تتخيل فيها أنك ترشف فنجان القهوة معى ، هل تتصور كيف يكون فنجان القهوة من يد أم محمود ؟
- نعم وأعرف أنها سيدة فاضلة من قرية جناج التابعة لدسوق وأنها وأهل بيتك كان يهيئون لك المناخ الملائم للفكر والكتابة ، أعرف يا سيدى أنك كنت تعيش فى بيتك كالملك فى الحكومة الدستورية ، تملك ولا تحكم ، وتعلو على كل نزاع ، والكل يرعى لك حقك لما عرفوا من خصوصية مكانتك ، وأن السيدة الفاضلة هى أذنت لك حين استأذنتها فى كتابة رسائل كتابك أوراق الورد لمَّا رأت بينك وبين الخيانة ربَّكَ وضميرك ، لأنها –رحمها الله –كانت لاتريد من الحب إلا الفن – مثلك- فإن جاء من الهجر فن فهوالحب . وهى من أسرة ميسورة ومتدينة وأخت صديقك الودود عبد الرحمن البرقوقى صاحب مجلة البيان .
- عدت تقول البيان إذن فالبيان ..
- والراحة التى وعدتنى بها .
- لا راحة – يبدو – إلا فى الأبدية .
- ليكن .. هات يا سيدى ما عندك ، فما حقيقة البيان ؟
- أول شرط الكتابة البيانية فى معانيها ، ألا ترانى أقول فى صدر كتاب وحى القلم الجزء الأول ص9 ما نصه : لا وجود للمقالة البيانية إلا فى المعانى التى اشتملت عليها ، يقيمها الكاتب على حدود ويديرها على طريقة ،
- (وتأمل ) مصيبا بألفاظه مواضع الشعور ، مثيرا بها مكامن الخيال ، آخذا بوزن تاركا بوزن لتأخذ النفس بما تشاء وتترك .
- وأقول أيضا : ونقل حقائق الدنيا نقلا صحيحا إلى الكتابة أوالشعر ، هو انتزاعها من الحياة فى أسلوب وإظهارها للحياة فى أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل ، ماذا ترى فيها ؟
- أرى أن الكلمات الثلاث أوفى وأدق وأجمل هن أركان البيان التى لا بيان إلا بها .
- بخ بخ ثم ماذا ؟
- أما أجمل فالبلاغة والخيال وأما أدق فالعقل والمنطق وأما أوفى فاللغة بكل تكاليفها التلقائية أو قل صناعة طبيعية محيرة فيها القصد والإلهام فيها الحضور والغياب فيها المطلق مقيد والمقيد مطلق حسب الأثر المطلوب إحداثه وحجم ونوع هذا الأثر ، فيها القاسم الإنسانى المشترك الذى تتلمس شعرته الرفيعة ريشة كل فنان وقلم كل أديب ، فيها مايشبه الروح ينفخها الملك فى النطفة فتنبض بالحياة.
- من علمك هذ ا ؟
- كلماتك يا سيدى .
- أحسنت ، وما الفرق بين كتابة تتحقق فيها هذه الأركان وكتابة تنقل الحدث معتمدة على الركن الثانى ( أدق ) وبين المستوفاة للأركان الثلاثة ؟
- أنت قلت يا سيدى عن الأولى أن البيان فيها كوخز الخضرة فى الشجرة اليابسة هنا وهنا ولكن الفن البيانى يرتفع عن ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة ، وسمو التعبير مع الدقة ، وإبداع الصورة زائدا جمال الصورة .
- قلنا من قبل أوفى وأدق وأجمل وهى أركان البيان وهنا بيان البيان . فقوة الأداء مع الصحة تجدها فى أوفى ، وسمو التعبير مع الدقة تجدها فى أدق وإبداع الصورة زائدا جمال الصورة تجدها فى أجمل ، وهذه المرامى الثلاثة هى غاية الفن ، انظر كيف لا تجد الأدب إلا فى البيان !
- حتى لو كان المعنى مؤلما يجب أن يساق فى الأدب جميلا مستلذ ا للنفس .
- واعلم أن دورة العبارة فى نفس الكاتب الملهم تخرج بها الأ لفاظ أكبر مما هى وأقوى وأدل .
- لماذا يعيبون السمو الأدبى بأنه قليل ؟
- لأنه الخير كذلك
- لماذا يعيبون عليه بأنه مخالف ؟
- لأن الحق كذلك
- لماذا يعيبون عليه بأنه كثير التكاليف ؟
- لأن الحريه كذلك .. ثم قل لى يا ابن نوح ماذا إن لم يكن البحر ؟
- فلا تنتظر اللؤلؤ .
- أحسنت ، فماذا إن لم يكن النجم ؟
- فلا تنتظر الشعاع .
- صدقت .. فماذا لو لم تكن شجرة الورد ؟
- فلا تنتظر الورد
- صدقت .
- فماذا لو لم يكن الكاتب البيانى؟
- فلا تنتظر الأدب .
- سرت مقالة بين الأدباء الذين ادَّعَوْا الحرية بأن الفن للفن ليس غير ، وهم بذلك يعزلونه عن قضايا الناس فما قول سيدى ؟
- أنت ماذا فهمت من مقالاتى فى وحى القلم وخصوصا فى مقال بعنوان الأدب والأديب هل تتذكر شيئا منه ؟
- نعم .. وأستطيع أن أوجز وجهة نظرك ، ولكن كنت أريد منك وقفة وبيانا .. وعلى أية حال هذه الأغراض الستة للأدب كما فهمت من أستاذى
1- أن يخلق للنفس دنيا المعانى الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة .
-2- أن يلقى الأسرار فى الأمور المكشوفة بما يتخيل منها .
-3- أن يرد القليل كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه .
-4- أن يترك الماضى منها ثابتا قارا بما يخلد من وصفه .
_5_ أن يجعل المؤلم منها لذا خفيفا بما يبث فيه من العاطفة .
- 6- أن يحعل المملول منه حلوا بما يكشف فيه من الجمال والحكمة .
- أحسنت يابني ، واعلم أيضا أن مدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهول التى هى مجهولة أيضا ؛ فإن هذه النفس طُلَعَة ٌ متقلبة لاتبتغى مجهولا صرفا ولا معلوما صرفا ، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس فى الكون صريح مطلق ولا خفى مطلق ، وإنما تبتغى حالة ملائمة بين هذين ، يثور فيها قلق ، أو يسكن منها قلق .
- أنت يا سيدى تربط الأدب بأسمى وأدق بل وأعقد ما يمكن أن يشغل الإنسان ، بالوجود والعدم .
- أخطأت خطأ فادحا ، فما تطلق عليه الوجود أسميه الفناء وما تطلق
عليه العدم إنما هو الخلود فالموت أو الغيب يعنى الخلود أما الدنيا فدار فناء بما عليها ومن عليها ومن ثم يكون المنطق الذى نستطيع أن نقرره مطمئنين هو أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد فى الإنسان على الفانى فيه ، وأن تصوير هذه الثورة فى أوهامها وحقائقها – بمثل اجتلائها فى الشعور والتأثير – هو معنى الأدب وأسلوبه .
- الأديب إذن إنسان غير عادى .
- نعم .. وفيما يرى الناس الحياة كلا قائما بحقائقه وأوصافه يراها الأديب العبقرى أجزاء .. كأن القوة الأزلية تقول لهذ ا الأديب الملهم : أنت كلمتى فقل كلمتك .
- يالها من مسئولية !
- واعلم يابنى أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة فى حياة أمة من الناس ... قالها ابن عربى بشكل هَزَّنِى حين قال " الحروف أمة من الأمم يتخاطبون "
- أنت التقيت معه إذن .
- لا شك كما نلتقى أنا وأنت الآن .
- دعنى أشكو إليك كثرة شعراء هذا العصر وكثير منهم...
- أعرف يا ولدى، وليتهم يعرفون ما هى التركيبة النفسية للشاعر
- إذن لأراحوا واستراحوا .
- شوف.. للشاعر بصرٌ شعرىٌّ من وراء الحواس ، فقد يكون الشاعر أعمى كهوميروس وملتون وبشار والمعرى فيأتى بما يقصر عنه المبصرون، وإن شاعرية الشاعر هى تنطق الصامتَ وتبعثُ الحياةَ فى الجوامد بما يلقى عليها من ذات نفسه خيالا وبصيرة ودقة وجمالا ، واعلم أن نفس الشاعر العظيم تكاد تكون حاسة من حواس الكون .
- وماذا تقول فى الشعر الحديث .
- لا حديث ولا قديم ، الشعر شعر ومتى نزلت الحقائق فى الشعر وجب أن تكون موزونة فى شكلها كوزنه ، فلا تأتى على سردها ولا تؤخذ هونا كالكلام بلا عمل ولا صناعة ، فإنها إن لم يجعل الشاعر لها جمالا يكون لها شبيها بالوزن ، ويضع فيها روحا موسيقية بحيث يجيئ الشعر وله وزنان فى شكله وروحه فتلك حقائق مكسورة تلوح فى الذوق كالنظم الذى دخلته العلل فجاء مختلا قد زاغ أو فسد .
- لكأنك تتكلم عن قصيدة النثر وموسيقاها الداخلية .
- هل تقول شيئا ؟
- كلمنى عن الشاعر الذى تتوفر فيه كل هذه الإمكانات ، إنك تعلو به إلى درجة هائلة.
- الشاعر فى رأيى بهذه الملكة يرفع الطبيعة درجة إنسانية ، ويرفع الإنسانية درجة سماوية وكل بدائع العلماء والمخترعين هى منه بهذا المعنى ، فالخيال فى أصله هو ذكاء العلم ثم يسمو فيكون بصيرة الفلسفة ، ثم يزيد سموه فيكون روح الشعر ، وإذا قلبت هذا النسق فانقلبت به نازلا كما صعدت به حصل معك أن الخيال روح الشعر ثم ينحط شيئا فيكون بصيرة الفلسفة ، ثم يزيد انحطاطا فيكون ذكاء العلم ، فالشاعر كما ترى هو الأول إن ارتفعت الدنيا وهو الأول إن انحطت ؛ وكأنما إنسانية الإنسان تبدأ منه .
- فماذا عن النقد ؟
- أحدثك عن النقد فى أيامنا ، وبخاصة نقد الشعر ، الذى أصبح أكثره مما لا قيمة له ، وساء التصرف به ووقع الخلط فيه ، وتناوله أكثر أهله بعلم ناقص ، وطبع ضعيف وذوق فاسد ، وطمع فيه من لم يحصل مذهبا صحيحا ، ولا يتجه لرأى جيد ، حتى جاء كلامهم وإن فى اللغو والتخليط ماهو خير منه وأخف محملا .
- ياه ... فماذا تقول عن النقد فى أيامنا هذه .
- لن تطيقوا ما سأقوله .
- ومعاركك الأدبية ألن نتكلم عنها ؟
- يا ولدى أنا مشفق عليك .. قم الآن وعد لزيارتى الجمعة المقبلة .
- أستودعك الله .
- ألن تترحم على ؟
- ـ يرحمك الله