عرض مشاركة واحدة
قديم 03-03-2012, 08:08 PM
المشاركة 294
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أعمال غالب هلسا الروائية والقصصية بوصفها سيرة ذاتية
عمر شبانة

السؤال الأول الذي نطرحه على هذا البحث, فيما يختص بروايات غالب هلسا, هو: أين يمكن أن نعثر على شخصية غالب في كتاباته? وإلى أي حد يجوز اعتبار بعض شخوص رواياته تجسيدا, أو قناعا , له? وهل نستطيع قراءة الوقائع الفنية في عمله الإبداعي بوصفها وقائع حدثت فعلا ? وهل نستطيع- إذن- أن نقرأ رواياته وقصصه بوصفها سيرة ذاتية, ليس له كشخص, بل بما تعكسه من رؤية للمجتمع الذي عاش فيه?

يسعى هذا البحث, في صورته الحالية التي هو عليها, إلى استقصاء ملامح شخصية غالب هلسا وسيرته الذاتية والاجتماعية كما نجدها في روايته سلطانة خصوصا . وإلى ذلك, فإن أعمال غالب عموما ستكون طريقنا لمعرفة ملامح اجتماعية وسياسية وثقافية من حياة الأردن في الثلاثينيات والأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين. ففي اعتقادنا أن كتابة غالب, الروائية منها والقصصية وكذلك الفكرية والسياسية, كانت سعيا لكشف حقائق وإعادة بناء عالم انهار, وتصوير عالم ينهض في مكانه. وهذا ما يجعل روايته تجمع ملامح من السيرة, فالسيرة عند أندريه موروا هي <<البحث الشجاع عن الحقيقة>> (موروا, أوجه السيرة, دار الشؤون الثقافية, بغداد, 1987).

نظريا , يتحدث الناقد د. جابرعصفور عن منطقة التماس والتقاطع بين الرواية والسيرة الذاتية, فيرى أن هناك وحدة مرنة تجمع الأنواع الكتابية, وهي وحدة <<تصل فن السيرة الذاتية بفن الرواية في منطقة التماس أو التداخل التي تتحول فيها الرواية (وبخاصة رواية التكوين أو النشأة Bilduingsroman ) إلى رواية سيرة ذاتية (autobiographical novel), أو تتحول السيرة الذاتية إلى عمل روائي لا يتردد النقاد في نسيان إطاره المرجعي الشخصي من حيث هو سيرة ذاتية, والإلحاح على إشاراته السردية إلى نفسه بوصفه قصاً تخيلياً, أعني قصاًُ يلفت الانتباه إلى علاقاته الداخلية, قبل أن يلفت الانتباه إلى مرجعياته الخارجية, وينتسب إلى عالم الرواية بما ينطوي عليه من خصائص نوعها>> (جابر عصفور, زمن الرواية, دار المدى, 1999).

وكما يرى عصفور, فالسيرة الذاتية مهما كانت متأصلة في صفاتها الأدبية, أو موغلة في الذاتية, تشير إلى عالم تاريخي يجاوز الذات التي كتبتها, ومن ثم تسمح بجمع معلومات غير أدبية حول <<واقع>> ما خارج نص كتابتها, لأنها تنبني في النهاية على الإدلاء بخبر أو إخبار عن هذا الواقع في تعين ه التاريخي وتحققه المرجعي.

ويرى الفرنسي أندريه موروا أن كاتب السيرة الجيد, هو من بوسعه رؤية الحصانين الأسود والأبيض في النفس البشرية. وأن يرينا كيف يمكن للإنسان الذي يتوجب عليه أن يسوق هذا الزوج الصعب أن ينجح مثلما يمكن أن يخفق. وأخيرا , فما يميز أشخاص السيرة أنهم ليسوا مكي فين, مثل أشخاص الرواية, لكي يعفونا من الحاجة إلى الإقدام على عمل أو اتخاذ قرار, لأنهم موجودون بالفعل.

وفي محاولة لفهم أسباب ودلالات ارتفاع نسبة رواية السيرة الذاتية, كميا وكيفيا , بالقياس إلى كتب السيرة الذاتية, يرى عصفور أن الدلالة الأولى تتصل <<بعلاقة جنس الرواية نفسه بفن السيرة الذاتية.. أما الدلالة الثانية فتتصل بعلاقة السيرة الذاتية نفسها بمساحة المسكوت عنه في المجتمع, ومن ثم تحديد درجات المباح أو المنهي عن النطق المباشر به في الكتابة الذاتية. وتنصرف الدلالة الثالثة والأخيرة إلى طبيعة أو نوع الاستجابة التي يستجيب بها المجتمع إلى أشكال الإفضاء أو الاعتراف الشخصي في الكتابة التي لا تفارق هموم الذات الفردية وهواجس رغباتها>>.

ويؤكد عصفور أن الرواية أقدر من السيرة على سبر أغوار التجليات المختلفة لانقسامات الذات في مستوياتها المتعددة, وذلك بسبب الطبيعة الحوارية للرواية, وقدرتها على الجمع بين الأصوات المتآلفة والمتنافرة. وهذا الأمر ينطبق, ربما أكثر ما ينطبق, على رواية الاعتراف التي تزايد حضورها الإبداعي في الأدب العالمي, كاشفة عن ميل الفرد المعاصر إلى الإفضاء بمكنون نفسه, والاعتراف إلى نظيره بما يدني الاعتراف من حال شعائري أقرب إلى التطهر. فرواية الاعتراف تكتب عادة بضمير المتكلم الذي تتكشف به أعماق المؤلف المضمر.

وكما يورد موروا, فقد قام سارتر بعد نشر جوانب من سيرته الذاتية في كتابه <<الكلمات: سيرتي الذاتية>>, بالتوقف ليكمل عمله في رواية, قائلا <<لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة أخيرا , لكن لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي>>. ويضيف <<نويت كتابة قصة .. أمرر فيها بطريقة غير مباشرة ما كنت أنوي قوله سابقا في نوع من الوصية السياسية... سأبدع شخصية يمكن للقارئ أن يقول عنها: هذا الإنسان هو سارتر>>.

هذه نظرات سريعة في العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية, نقاط اللقاء والافتراق.. سنعتمدها في قراءتنا هذه, وفي تحليلنا لمحتويات الأعمال الفنية التي سنتناولها, وما يمكن اعتباره مفاصل من سيرة ذاتية/ اجتماعية للمؤلف.

مقدمات أولى

بالتوقف مع كتاب غالب <<أدباء علموني.. أدباء عرفتهم>>, سنجد فيه شكلا من أشكال السيرة الذاتية, الحياتية والأدبية والنقدية, لمؤلفه. وهو شكل قد يكون نادرا , إن لم يكن جديدا , في الكتابة العربية. وفي هذا الكتاب الذي يضم معالجات غالب لعدد من الكتب والكتاب الذين قرأ لهم, نقرأ أيضا أثر هؤلاء في كتابته هو نفسه, كما نجد أصداء من سيرته كقارئ وكاتب. ومن هذا يهمنا أن نثبت قوله في فصل <<الزير سالم>>:

<<بدأت ممارسة الكتابة وأنا صغير جدا .. كانت الكتابة عاري السري, ووسيلتي للخروج من الرتابة والملل. وحين قرأت كافكا فيما بعد, انفجرت عوالم الحلم في داخلي.. لم يعلمني أحد الكتابة ولم يشجعني أحد على المضي فيها. كنت أقرأ لأكو ن أفكارا خاطئة لم يعن أحد بتصحيحها. كنت قد أعددت نفسي للبحث عن (أرسين لوبين) لأشاركه في مغامراته.. سألني إسكافي القرية الذي كان يعيرني روايات (أرسين لوبين) إن كان شخصية حقيقية.. فأقسمت له أنه حقيقي, وأن أخي الأكبر الذي يعرف اللغتين الإنجليزية والفرنسية هو الذي قال لي ذلك. لكنه لم يكن قال ذلك بالطبع..الخ>>.

وفي مقطع تال , يتحدث هلسا عن الغجر الذين كانوا يحلون في قرية ماعين, فيراهم غالب الطفل بعين من قرأ الزير سالم, وعرف من أهل القرية أن جساس- قاتل كليب- هو الجد الأكبر للغجر, فيحاول غالب- مع أطفال القرية- الانتقام من الغجر لمقتل كليب, فيروح يشتم جساس أمامهم, لكنه يلحظ أن ذلك لا يثير غضبهم. ثم يأخذ في سرد مفاصل من السيرة, وما جذبه فيها, خصوصا جليلة زوجة كليب وأخت جساس, وصراعها بينهما. وينتقل إلى مرحلة ربط حرب البسوس ببعض صراعات قبائل القرية, التي كانت <<معارك محدودة, بالحجارة والعصي, بين قبيلتين من قبائل العوازم>> (وهذه- كما يخبرنا- قبيلة من المسلمين). ولأن المعارك تلك لم تكن إلا <<مجرد احتكاكات لا أهمية لها>> راح يشحنها <<بمعطيات حرب البسوس, مما أضفى عليها أبعادا أسطورية>>.

ومع قراءته روبرت ستيفنسن, يأخذ غالب في استعادة مناخات ترتبط لديه بقراءة هذا الكاتب, فيستعيد- مثلا - ليلة باردة في بيت أخيه المنعزل في مأدبا, ثم يستعيد عواصف ثلجية تهدر حول بناء المدرسة الداخلية (يقصد المطران) وهو في سريره يحاول استجلاب الدفء.

وفي تعليقه على سؤال من شاب أردني كان يدرس معه في القاهرة, يقول إن ذلك الشاب كان <<يشكو سوء حظه وسوء حظ الأردنيين جميعا , لأنه في كل بلاد العالم تحدث أشياء غريبة ومثيرة تتيح للكتاب أن يكتبوا قصصا وروايات, أما الأردن فلا يحدث فيه شيء يستحق الكتابة, فكيف يمكن للأردني أن يكون كاتبا ?>>. ويعلن غالب اتفاقه مع الشاب مع بعض التحفظات. ومع ذلك كتب غالب كثيرا عن الأردن, عن مجتمع القرية والمدينة وتفاصيله, وقدم قراءته للمكان بعناصره وتفاصيله وجمالياته. ونجد في حوار معه قوله <<قبل فوكنر كنت أحتار كيف أصيغ من الحياة البطيئة والرتيبة في القرية فعلا دراميا , فوكنر جعلني أرى الأحداث ليس كما وقعت, ولكن عبر تحولاتها في المجتمع>>.

فيما بعد سيروي غالب كيف كتب <<وديع والقديسة ميلادة وآخرون>>, قبل أن يقرأ فوكنر, ثم كيف كتب <<زنوج وبدو وفلاحون>> بتأثير من فوكنر. ففي الفصل المخصص للكاتب الأمريكي المعروف, يتحدث غالب عن كونه ولد ونشأ في مجتمع يتحول من البداوة إلى الزراعة, ومن الزراعة إلى التجارة. ويعود ويتذكر ذلك الطالب الجامعي وشكواه, وأن رأيه كان من رأي الشاب, إلى أن قرأ فوكنر, فصار الواقع اليومي في خانة الاحتمالات, وبات يكتسب حيوية مدهشة, وتنوعا لا حد له. وفجأة <<امتلأ البشر حولي بإمكانات لانهائية>>. فثمة في الأردن, كما في غيره من دول العالم, ما يستحق الكتابة, وهذا ما فعله غالب في رواياته, بعد سنوات, وكما لم يفعله سواه.

ويشير غالب إلى نقطة هي غاية في الأهمية, حول وجوده في المدرسة الداخلية, ببنيته الجسمانية الضئيلة, وكثافة الطلبة الكبار التي كان يستحيل اختراقها, فاختار من بينها نماذج لرواياته وقصصه. ثم يتذكر أنه كان يكتب مواضيع الإنشاء لعشرة طلبة, على الأقل, لإرضائهم, ولكنهم ظلوا يحتقروه لأنه- كما يقول- <<لم أكن أصلح لشيء إلا لهذه الأمور (يقصد الكتابة) التي لا تجعل من الإنسان رجلا>>. وفي هذا توضيح لنظرة كانت سائدة حول مفهوم <<الرجولة>>, ونظرة إلى انعدام أهمية الكتابة لدى المجتمع.

زنوج وبدو وفلاحون

ما يهمنا من هذه المجموعة القصصية هو القصة التي تحمل هذا العنوان, وما سنركز عليه من هذه القصة هو ما يبرز نمط الحياة في القرية الأردنية كما يقدمه غالب. فالمقطع الأخير من القصة الذي يصور استقبال أهل الريف لزيدان المتعب وزوجته, وهما قادمان على حصان بعد قتل سحلول, يقيم تناظرا ضمنيا بين نمطين من الحياة ولهجتين وثقافتين. ففي حين تعكس لهجة البدو القاسية نمط حياتهم المغلقة: (أشوفك مربي جدايل, ما قلت والله غير انك بدوي, وأنت فلاح مقطوع الأصل), فإن لهجة الريف الشفافة تصور تسامح أهلها وطيبتهم (والله ما حد رايح الصلاة في هالسمطة, أبونا الله يسامحه ما يقطع فرض لو كانت حتى ثلج). وهذا الصراع يخفي صراع ثقافتين ونمطين من الوجود: البدوي العدواني والريفي المتسامح.

تسرد قصة <<زنوج وبدو وفلاحون>>, في فصولها الثمانية, مشاهد من سيرة حياة قبيلة بدوية, وتصور على نحو معمق مجموعة من العلاقات داخل القبيلة وبين أفرادها, من جهة, وعلاقة القبيلة بالفلاحين الذين يعملون لديها من جهة ثانية, وعلاقتها كذلك بالضابط الإنجليزي المعروف <<جون باجوت جلوب>> والملقب ب-<<أبو حنيك>> من جهة ثالثة. وهي في ذلك كله تقدم رؤية للمجتمع الأردني في حقبة تاريخية محددة, هي الفترة التي شهدت تأسيس <<إمارة شرقي الأردن>> مطلع العشرينيات من القرن العشرين, والمجتمع المحكوم بالعلاقات العشائرية.

وتظهر في القصة صورة البدوي في علاقته مع الضابط الإنجليزي, فيما يحاول شيخ العشيرة استغلال موقع الضابط لدى <<الأمير>> من أجل توظيف أبناء العشيرة في الجيش, ثمنا لوقوفهم مع الأمير لتأسيس الإمارة والدفاع عنها, فيبشرهم بوعد <<سيدنا>> أن يقدمهم على غيرهم, ف<<سيدنا ما ينسى وقفتكم معه>>. وفي هذه الشريحة من الصورة, يبدو الضابط ساذجا في اعتقاده أنه يكسب ولاء هؤلاء البدو عبر تمسكه بعاداتهم وحرصه البالغ على التقيد بها. فالراوي يعتقد أن البدو كانوا يتظاهرون أمام الضابط <<بالتعلق الشديد بتلك العادات>>, وهم يعلمون أنه <<سياسي ملعون الوالدين>> كما يهمس رجل لآخر يجلس بجواره, فيسمع <<الصاحب>>- كما يطلقون عليه- همسهما. والبدو يراقبونه <<بسخرية يجيدون إخفاءها>>. وفي الجهة الثانية يقف الضابط بطموحاته وأحلامه ومخاوفه من هذه المغامرة الفذة التي يعيشها مع <<هؤلاء البدائيين الذين هم على استعداد للقتل لأدنى سبب>>, فهو يحلم أن يسكن <<بيتا ريفيا على ضفاف إحدى البحيرات, الملك جورج السادس يستقبله في قصر بكنجهام ويمنحه لقب فارس..>>.

وديع والقديسة ميلادة

في كتابه <<أدباء علموني..>>, وفي فصل عن علاقته بروايات فوكنر, ثمة فقرة يتحدث فيها غالب عن رواية فوكنر <<الحرام>> وبطلها <<بوبي>>, فهذا البطل الذي يفقد مسدسه في لحظة, يدرك أنه فقد شيئا أساسيا في شخصيته, ويرى غالب كيف اعتقد <<بوبي>> أنه- بفقدان مسدسه- كمن أصيب بعاهة, لأن الأمير المحارب لا يجوز أن يفقد عدته, لذا يفضل الموت. ومثل بوبي هذا, يحدثنا غالب عن فارس بدوي من قريته, أصيبت ذراعه اليسرى بالغنغرينا, فقرر الطبيب قطعها, لكن الفارس البدوي قال إنه يفضل الموت! ومن هاتين الحالتين, بوبي والفارس البدوي, يخلص غالب إلى أن <<سمة الكمال العضوي صورة للأمير المحارب>>. وعليه يؤكد أن قصته <<الب ش عة>> قد كتبت بتأثير هذه الصورة.

وقصة البشعة هي عن رجل كان عليه أن ي قدم إلى <<محاكمة>> حيث يضعون النار على لسانه ليثبت براءته من تهمة العلاقة بامرأة. ولما كان يعلم أن العلاقة حقيقية, وكان على يقين بأن الجمرة ستحرق لسانه, فحين جاءت له أمه بالمرأة نفسها وأدخلتها عليه, اكتشف أن الخوف جعل منه عنينا , فقتل نفسه, ورفض أن يهرب من القرية.

بالمقاييس نفسها التي حاكم بها غالب بطولة <<بوبي>>, يمكن القول إن البطل هنا أكثر من حالة واقعية, فهو تجسيد لواقع وتقاليد معروفة في العشائر البدوية الأردنية, وربما العربية, لكنه هنا ليجسد حالة ذهنية, وليكشف زيف هذه التقاليد حين يجعل أهل البطل يحاولون بكل ما يمكنهم من الحيل أن لا يخضع ابنهم للاختبار. بل إن أمه, وهي امرأة داهية, تساعده على الالتقاء بالمرأة التي يحبها, مع أنها لا تكف عن لعنه ولعن والده الذي لم يكن يكف عن مطاردة النساء حتى وفاته. وبقدر ما تكشف القصة عوالم نفسية لشخوصها, فهي تكشف أيضا بنية ثقافة شعبية مستقرة, مستخدمة في ذلك قاموس هذه الثقافة ومفرداتها.

ويستكمل غالب الغوص في هذه الثقافة من زاوية أخرى, فيقدم في قصة <<وديع والقديسة ميلادة وآخرون>> نماذج للتخلف والخرافات التي تعشش في مجتمع الريف والبداوة. فالمكان قرية تجمع النمطين الريفي والبدوي, في لحظة توجههما إلى الاستشفاء لدى الطفلة التي باركتها السيدة العذراء, وراح أهلها يستغلونها لمعالجة أصناف المرض العضوي والنفسي.

في الطريق يبرز لنا الراوي مفارقات غريبة من أجواء القرية, ثم ينقلنا, بسرد ساخر وتفصيلي, إلى البلدة المجاورة, حيث على أهل القرية انتظار الحافلة التي ستنقلهم إلى عم ان. وفي القرية طبيب علقت على باب عيادته <<الفيلا>> لوحة سوداء كتب عليها بخط واضح <<الدكتور متى عيد>> وبخط أصغر <<اختصاصي أمراض النساء والأطفال والباطنية والعين والجلد والأنف والأذن والحنجرة والأعصاب>>. وفي هذه البلدة صراع بين الأطباء, ومنهم طبيب أشاع أن هتلر سيطلق غازات سامة تبيد جميع البشر ما عدا الألمان, وراح- الطبيب- يحقن الناس بحقن ضد الغازات, مقابل عشرة قروش للحقنة, ثم تبين أنه يحقنهم بالماء, فحوكم وسحبت رخصته!

ورغم أن الراوي يعرض ما يبدو لنا وقائع, بدءا من صراع رهبان الكاثوليك والأرثوذكس ورعاياهما, والصراع بين هذين الجناحين وبين البروتستانت, مرورا بالوعي البسيط, ولكن الخبيث والماكر للقرويين, فإن الصراع يدور حول هذا الوعي وما ينتج عنه. فأهل القرية يتوجهون للعلاج عند ميلادة, لكنهم- بعضهم على الأقل- يمتلكون وعيهم ودهاءهم الذي يمكنهم من معرفة أن الدواء الذي يقدمه والد القديسة الطفلة ليس سوى زيت زيتون, معبأ في زجاجات تباع الواحدة منها بسعر خرافي (5- 10 جنيهات), يتناسب مع حجم خرافة القديسة نفسها, لذا لن يتورع واحد منهم عن سرقة ما أمكن من هذا الزيت, ولن يتورع آخر عن قبول زجاجة <<رشوة>> من والد <<القديسة>>.

إلا أن غالب يبرّئ الطفلة من فعل والدها, فهي تلعب مع الأطفال في الحارة عند وصول <<الضيوف>>, ولدى أداء الطقس في <<الكهف المقدس>> أصيبت الطفلة بالإغماء <<سقطت على الأرض وهي تنشج وتصرخ بصوت مسرسع حاد كأنه تحطم زجاج>>. صوت ينم على الرعب, بما يؤكد عدم اشتراكها باللعبة ذات الهدف التجاري. وقد اختار غالب أن يجعل ميلادة فلسطينية, فجعل والدها يرحب بالضيوف <<بلهجته الفلسطينية التي تحول الكاف إلى شيء قريب من حرف الشين>>? كما أنه يجعل العذراء تظهر في الصورة <<بلباس فلاحة فلسطينية تحتضن يسوع الطفل>>? بما يشير, ربما, إلى وجود <<القديسة>> في فلسطين!

ثمة صراع آخر في هذه القصة الطويلة (أو الرواية القصيرة, كما يسميها غالب), هو الصراع بين القروي والمديني. وهنا نسترجع ما قاله غالب حول أثر فوكنر في كتاباته حيث يقول عن شعوره تجاه أهل المدينة <<مارست انتقامي- انتقاما لخيبة أملي- من عم ان, إذ بدا أهلها ضيقي الأفق, مفجوعين بأحلام لا تتحقق>>. (هذه الخيبة يعلن عنها في سلطانة أيضا ) فحين يذهب أهل القرية إلى المدينة, بما فيهم الطفل وديع وأمه, ينزلون عند الأستاذ إلياس- الشقيق الأكبر لوديع- الذي يتعامل معهم بازدراء, كما لو كانوا من الهمج. من هنا تأتي خيبة أمل وديع.

وهنا يظهر لنا الراوي طبيعة مشاعر القرويين بعد دخول بيت إلياس <<بعد أن كوّموا حاجياتهم قرب الباب, كان الجميع يشعرون بتأنيب وخوف غامضين, وراحت عيونهم تتجه إلى كل حركة تصدر عنهم>>. ورغم أنهم يحاولون منع كل ما يمكن أن يسبب مشكلة, فهم لا يتورعون عن تأنيب إلياس حين يقمع شقيقه الطفل وديع. ولتبرز ثنائية الريفي وازدواجية تركيبة شخصيته; فمن ناحية ثمة شعور عارم بالكرامة, يقابله- من ناحية ثانية- شعور بالدونية أمام الأستاذ, الكاتب, ابن المدينة!

ثلاثة وجوه لبغداد

سنقف عند الفصل الأول من هذه الرواية, الفصل الذي يظهر فيه غالب المؤلف هو نفسه غالب <<البطل. ففي الصفحة الثالثة من الرواية يكشف غالب هلسا اسم <<بطل<< روايته <<غالب>>, القادم للتو من القاهرة إلى بغداد, وهو يتجول في شوارعها. وبعد صفحات قليلة نجد غالب هذا في شارع الرشيد, ونقرأ على لسان الراوي أنه <<كان يود أن يعبر الشارع نحو الصيدلية. كانت المكتبة على يساره, وقد صفت أمام الباب أعداد كبيرة من الكتب. كتاب ما, غير محدد اجتذبه قبل أن يغادر الرصيف, فوقف أمام الكتب وأخذ يقرأ عناوينها. وخفق قلبه. كان هناك كتاب يحمل اسمه, بعنوان <<زنوج وبدو وفلاحون>>. أمسك بالكتاب وتفحصه. إنه من إصدار وزارة الثقافة والإعلام العراقية. الغريب أنه لم يرسل مخطوطة لتنشر في العراق. فكيف حدث هذا?<<. وهذا المشهد من أوضح المشاهد التي تربط السيرة الذاتية لغالب برواياته. فالبطل هو غالب هلسا نفسه, وهو مؤلف الكتاب المذكور كنوع من التأكيد على حضور مؤلف الرواية التي بين أيدينا. وفي وزارة الثقافة المتخيلة سيقابل غالب موظفا عجوزا يسأله عن مكافأة الكتاب, ويستغرب العجوز من اسم <<هلسا>>.. لكنه ما أن دخل الوزارة الحديثة حتى وجد كتاب قصة ورواية وشعراء يعرفهم ويعرفونه, بل يتوقعون مجيئه. ولكنهم تأدبا سألوه عما حدث كي تبعده القاهرة, فحكى لهم أن ندوة أقيمت في القاهرة عن <<المخطط الأمريكي في المنطقة العربية>>, وأنه كان يرأسها, وعندما انتهت الندوة ألقوا القبض عليه ووضعوه في الطائرة المتجهة إلى بغداد..

هذه جميعا وقائع يعرفها كل من يعرف غالب هلسا عن قرب, وكل من قرأ عن تلك الندوة المذكورة وما جرى فيها وعلى إثرها. ففي هذه الوقائع تحديدا , وفي وقائع غيرها من الرواية أيضا , نجد صورة غالب هلسا واضحة المعالم والملامح. لكن هذا لا يعني أن الرواية هي رواية وقائع أو رواية تسجيلية. فثمة الكثير من المتخيل الذي لا علاقة له بالذكريات فقط.

في <<سلطانة>>

يستطيع قارئ أعمال غالب هلسا أن يجد جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية الأردنية في عدد من رواياته, لكن العمل الأضخم, والأهم في نتاجه الإبداعي الذي خصصه للأردن هو- في اعتقادي- روايته <<سلطانة>>. ففي هذه الرواية نستطيع- ببساطة, ومن خلال معرفتنا بتفاصيل حياة غالب قبل رحيله النهائي عن الأردن منتصف الخمسينيات- اعتبار شخصية غالب متجسدة في شخصية جريس. ولذا فإن القول بأن هذه الرواية تنطوي- أكثر من سواها- على شكل ما من <<سيرة>> غالب في الأردن, يجد ما يبرره. ورغم أن الرواية- كما يقول الراوي- هي رد على سؤال عزة (حبيبة جريس في القاهرة) عن سبب رحيله عن الأردن وعدم عودته إليه, الأمر الذي جعله يستعيد هذه الحياة كلها, إلا أن القارئ سرعان ما ينسى عزة والقاهرة, ويندمج في أجواء أردنية, بدءا من قرية ماعين, وصولا إلى عمّان بكل تفاصيل الحياة فيها.

سنكتفي بعرض مفاصل أساسية من هذا العمل الضخم, وبما يكفي للكشف عما اعتبرناه <<سيرة>> غالب من جهة, وعن سيرة المجتمع كما قدمتها رواية غالب من جهة ثانية. وبما يصور لنا طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية في الأردن, خلال المرحلة التي تتناولها الرواية, وهي مرحلة تمتد من ثلاثينيات القرن العشرين حتى منتصف الخمسينيات منه. كما ستركز هذه الدراسة على التحولات العميقة التي شهدتها هذه المرحلة, من خلال نماذج وشخوص مما حشدته الرواية.

علينا هنا أن نستعيد بعض ما كتبه غالب- في كتاباته غير الروائية- عن قريته, وعن عائلته وقبيلته, وعن مدرسته الداخلية, وسواها مما يمكن أن يضيء تفاصيل هامة من هذه الرواية. ففي حديثه عن القرية, وهو غالبا ما يأتي ضمن سياقات من الحنين والتذكر, لا التأريخ والتوثيق, يكتب غالب, في دراسات ومقالات كثيرة, أشخاصا وحوادث ووقائع تتقاطع مع شخوص وحوادث ووقائع الرواية التي نحن بصددها.

نشير هنا- مثلا - إلى ما جاء عن طفولته, وعن كونه ولد واكتشف أن له أُمّيْن: واحدة يناديها <<يمَّة>> والثانية يناديها <<يمّة آمنة>>. وهذه الأم الثانية, كما نعرف من كتاباته, وكذلك من الرواية, هي أمه بالرضاعة. والمفارقة التي نتوقف عندها- ابتداء- هي أن أمه آمنة هي امرأة من قبيلة مسلمة, وظلت ابنتها أخته في الرضاعة حتى كبر وغادر الأردن. وستشكل هذه المرأة محورا هاما في حياة غالب, كما شكلت في حياة جريس الذي يقول <<حين كبرت رحت أتساءل: كيف يحدث في مجتمع متعصب دينيا , العائلة والقبيلة فيه تشكلان وحدة عضوية متماسكة ومعادية للعالم.. كيف قدرت أمي آمنة المسلمة أن تحب طفلا من عائلة غريبة, ومسيحية كمان, دون أن تسأل نفسها أنا شو بيربطني فيه?>>. هذا التساؤل يحتاج دراسة معمقة للبنية التي أنتجت هذه الحالة, رغم إمكانية القول إنها الشذوذ الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. والمرأة الأخرى التي ستشكل محطة هامة في حياة جريس, هي سلطانة, فمن <<سلطانة>> هذه?

جريس يجسد غالب, لأنه يلتقي معه في أمور عدة: نشأ في ماعين, ودرس في المطران, ثم سافر إلى بيروت ليدرس في جامعتها الأمريكية.. وكما يقول جريس نفسه <<عشت في مدن كثيرة: عم ان, دمشق, بيروت, القاهرة, بغداد, أديس أبابا, برلين, وتونس و.. أحببت نساء في كل هذه المدن, ولكنني لم أعرف قط وجها أثارني وظل يلاحقني كوجه سلطانة في تلك اللحظة>>.. أما سلطانة فهي, كما تبدو لنا في الرواية, أكثر من امرأة طبيعية أو حقيقية. ورغم كل شيء سنتعامل مع الجانب الواقعي منها, كأنثى أولا , وبوصفها عنوانا من عناوين التحول من المجتمع الريفي إلى التجارة والحياة في المدينة, وصولا إلى ما مثلته في عمليات المتاجرة والتهريب إلى إسرائيل الناشئة حديثا آنذاك, خصوصا في تهريب الماس والمتاجرة به.

منذ بداية الرواية, نتعرف على بيت سلطانة في القرية بوصفه بيت <<الحوارنة>>, وذلك عندما تعود <<أميرة>> ابنة سلطانة التي تعمل خادمة في أحد بيوت عم ان, حيث سافر مخدوموها إلى رام الله لقضاء الصيف. وإذ تعود الصبية وهي تجر معها كلبا لا يأكل سوى اللحم, فإنها تثير حفيظة أهل القرية الذين لا يجد كثيرون منهم الخبز, بل إن والدها نفسه يقول لها <<يا ست أميرة, إحنا مش لاقيين الخبز, نقوم نطعم الكلب لحمة?>>. لكن الوالد هنا ذو شخصية هزيلة أمام الشخصية الطاغية لزوجته سلطانة وابنته أميرة, التي هي بالتأكيد ابنة سلطانة, لكن لا شيء يؤكد أنها ابنته هو أيضا , فسلطانة عاشت- منذ طفولتها- ألوانا من الحرية وصلت حد الانفلات. وهي امرأة خارجة على قوانين المجتمع, لا تخضع سوى لقوانين حريتها الداخلية.

نتوقف عند نشأة سلطانة, ابنة صاحب بقالة, أمها هي المرأة الجميلة الشرسة الشهوانية المثيرة لرجال القرية, والتي تدير شؤون البقالة بنفسها, وتتعاون مع سائق شاحنة سيصبح مالكا لها فيما بعد. في بيئة كهذه, وفي قرية ذات مواضعات وتقاليد اجتماعية راسخة, نرى الطفلة سلطانة تلعب بين أولاد من جيلها, أو أكبر قليلا , في مكان يدعى <<الهربج>>, وتشارك في صيد العصافير وممارسة الطقوس الجنسية, وحين يحاول بعضهم الاعتداء على أنوثتها تتصدى لأكبرهم وتهينه في ذكورته, ثم تبدأ علاقة مع الخوري صليبا, زير النساء الذي لا يرتوي. لكن هذا كان في طفولتها, وقبل أن تكتشف إمكانات توظيف جسدها وأنوثتها وجمالها, وأصبحت- كما يقول جريس بحسرة وألم العاشق البعيد زمانا ومكانا عن معشوقته- مومسا تعرف كيف <<تبيع جسدها لتثري>> ولتغدو صاحبة تجارة مزدهرة.

كان بيت سلطانة في القرية متميزا عن بيوت القرية, بفخامته وأثاثه, بما يوحي ببعض ملامح شخصيتها, لكن انتقالها إلى عمّان سيوضح لنا المزيد من هذه الملامح, كما سيضع أمامنا عالم المدينة الذي انتقل إليه جريس. ففي عم ان, حيث مدرسة المطران التي يدرس جريس ويقيم فيها, وحيث بيت سلطانة في جبل اللويبدة, الأرقى في عمّان الأربعينيات, تتكشف لنا عوالم المدينة الصغيرة, فنرى جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية فيها.

صورة عمّان من أواخر الأربعينات إلى مطلع الخمسينيات, هي صورة مدينة صغيرة لكنها تعيش- كما يبدو- حياة تحظى بقدر من الحرية والتنوع. فعلى صعيد الحياة السياسية يشتبك جريس ومجموعة من أصدقائه بنمط من الحياة الحزبية, يتداولون النشرات في اجتماعات شبه سرية, ويسهرون في ناد ثقافي يحشد الحزبيين والمثقفين من تيارات متصارعة. ومن خلال العلاقات الحزبية والعمل السياسي, تتكشف تفاصيل كثيرة, بعضها ذو طابع سياسي بحت, وبعضها الآخر ذو سمة اجتماعية أو ثقافية. لكن الرابط بين هذه العناصر قوي جدا , بحكم أن شخصية جريس تجمع هذه الأمور كلها وتشكل محورها.

بعد انتهاء دراسة جريس في عمّان, وعودته إلى القرية, يكتشف أن الكثير قد تغير, وأن الناس لم يعودوا يفكرون إلا في النقود وفتح دكان في عمّان أو.. فتقول له أمه إن الدنيا كلها قد تغيرت <<فالناس كثرت والطلبات كثرت. أيام زمان كان الناس قلائل وكل شيء بسعر التراب..كان الناس يجتمعون في مضافة العماشنة وتدور الأحاديث الحلوة عند العصر. كان الشباب يركبون الخيول ويتسابقون والبنات يزغردن للفائز..>>. وفي مقطع آخر من الرواية, حين يكون جريس مع عزة في القاهرة, ينفجر في داخله صوت يقول له <<الأردن التي تحلم بها لم تعد موجودة حتى حين كنت فيها>>.

هذا التغير يحظى من الراوي بنصيب كبير من السرد, فهو يفسر ويحلل, من خلال شخصية سلطانة وشركائها, الكثير من الوقائع. ويهمنا هنا أن نركز على عاملين يعتقد الراوي أنهما كانا وراء التحول: الأول يتمثل في دخول التجارة كعنصر جديد إلى نمط الإنتاج, حتى أن الزراعة أصبحت خاضعة للتجارة, فاضطر الفلاحون إلى بيع أراضيهم المرهونة للتجار حين لم يستطيعوا سداد ديونهم. والعامل الثاني هو التهريب مع فلسطين قبل نكبة 1948, ومع إسرائيل بعد قيامها. فقد وجد الكثيرون في تهريب القمح والعدس والشعير, إلى فلسطين, عبر الشريعة (نهر الأردن), والعودة من هناك بالزيت والتين المجفف, (وفيما بعد راحوا يهربون الخراف والبقر والدجاج, وفي مرحلة تالية سيبدأ تهريب الماس وسواه من المعادن) مصدرا لجمع الثروات, خصوصا بعد قيام دولة إسرائيل, حيث الإسرائيليون يدفعون أضعاف الثمن الذي يدفع لمثل هذه البضاعة في الأردن. أما دور سلطانة في هذا العمل, فيتضح في حديث جريس عن التحولات التي كانت تجري في الأردن قبل خروجه منه, وذلك حين يصف سلطانة بأنها <<متعاملة مع إسرائيل, ومهربة حشيش>>. وهناك إشارات إلى شخصيات عالية المستوى في الحكم ممن يشاركون سلطانة في هذا العمل.

وعلى صعيد الحياة السياسية, ثمة نماذج لحزبيين شيوعيين, وآخرين بلا ملامح محددة. فالشيوعيون هم الأشد حضورا هنا, وهم يحضرون عبر علاقتهم بجريس, ومنهم الطالب والمعلم ومنهم الموظف الكبير في وزارة الخارجية. أما نضالهم فلا نرى له أثرا في الرواية, بل نجد اجتماعات ونقاشات. لكننا نعثر على نمط من <<النضال>> يتمثل في محاولة موسى (أحد قادة الحزب) إقناع جريس بزيارة نائب في البرلمان, للتفاهم معه على كيفية تخليصه من قصته مع <<أميرة>> ابنة, بحكم قرابته مع عشيرتها كما يظن القائد الحزبي, فأميرة ادعت أن النائب قد اغتصبها. وتأتي محاولة موسى للتدخل مقابل خدمة سيقدمها النائب للحزب, فهم يطلبون منه أن يثير في البرلمان ملف قضية من القضايا التي تهم البلد (قضية من قضايا التهريب). لكن جريس يذهب مع موسى ويسهران ويشربان مع النائب, ثم يسخر من شرب الويسكي في مكتب النائب, ويعلن بعدها تخليه عن التدخل, يقول لنفسه <<يدعوني النائب لأسهر في مكتبه الباذخ.. يستعمل ستار الوطنية لأساعده في التنصل من اغتصاب فتاة قاصر. يجب أن يعلم أنني لم أنخدع.. أنا وموسى لنا لعبتنا.. شو دخل الحزب ليحمي جريمة>>.

في هذا السياق نذكر أن مناضلا (هو طعمة) مطرودا من الحزب بتهمة العمالة لضباط في المباحث المصرية (كانوا أعضاء في الحركة التقدمية للتحرر الوطني), هو الذي قدم أميرة للنائب ليكسب رضاه. وهذا يعني أن الحزب الذي طرد طعمة دون محاكمة عادلة, وأشاع عن علاقته بالأجهزة الأمنية, ما دفعه إلى الانحراف.. يخضع هنا لمحاكمة جريس ونقده.

نشير أيضا , إلى الجنس والدعارة, فبعد أن كان الجنس عبارة عن ممارسات قائمة على اللعب والعاطفة, في صور فردية, هاهو يصبح له مؤسسة وسماسرة ومراكز لتقديم هذه الخدمة- البضاعة.. فيذهب إليه الرفاق الحزبيون الذين- يبدو أن- لا بديل أمامهم لتفريغ طاقاتهم المكبوتة سوى هذا السبيل, فنراهم في شوارع العاصمة وأزقتها يتسكعون وينتظرون لحظة حضور <<القواد>> الذي كثيرا ما كان يعترضهم ويعرض عليهم خدماته, وهاهم في أحد الأحياء البائسة, وسط العتمة, يغوصون في وحل وروائح حيوانات وسواها, ليصلوا إلى نساء بلا جمال, سمينات ومرهقات ويبدو عليهن الشقاء أكثر مما يبدو عليهن طابع المهنة. والرحلة هذه, في سريتها, تشبه رحلة في عالم الثورة السري حيث المخاطر قائمة في كل لحظة.

وفي ارتباط وثيق مع مفاصل الحياة السياسية, نكشف عن لقطات سريعة لجوانب من الحياة الثقافية, عبر وجود شخصيتين لمبدعين هما شاعر وقاص في الحزب. كما تأتي قراءات جريس المتنوعة التي تدل على وجود الكتب والصحف والمجلات, وهذا ما يشير إليه غالب هلسا نفسه في كتاباته النثرية. ففي مدرسة المطران يمكننا أن نعثر على مشاهد متعددة لجريس وهو يقرأ أو يكتب في مجلة المدرسة. وقد عثرنا فعلا على كتابات مختلفة له في المجلة الموجودة في أرشيف المدرسة, من هذه الكتابات مقالة وقصة قصيرة.

ونستطيع أن نذكر هنا, أن في الإمكان العثور على الطفل وديع, في رواية غالب القصيرة <<وديع والقديسة ميلادة..>>, في لحظة قراءة, وهي لحظة تتعلق بقراءة الصحيفة التي نشرت خبر الطفلة المقدسة <<ميلادة>>. أو بقراءة الكتاب المقدس لوالديه. وثمة إشارة متكررة, في <<سلطانة>> كما في <<وديع..>> وفي كتاب <<أدباء علموني إلى وجود المكتبة في بيت الأخ الأكبر الأستاذ إلياس. وهذا واحد من معالم حياة ثقافية ما.

خلاصة

نخلص مما سبق إلى خلاصات أسية, تتمركز حول نقطة واحدة, هي أن رواية سلطانة, وسواها ربما من روايات غالب, قد نهلت في صورة أساسية من حياته وطفولته تحديدا , وبصرف النظر عما إذا كان ممكنا اعتبار <<سلطانة>> رواية ذاتية, أو سيرة روائية, ففي الإمكان التعامل معها كرواية تنطوي على وقائع محورية في حياة الأردن في تلك الفترة التي يكتب غالب عنها, وهي رواية تكتب الأشياء بأسلوب ووعي متقدمين ليس كاعترافات أو ذكريات, بل كإعادة بناء لتلك العناصر التي تتناولها, سواء على صعيد بناء الشخصيات الروائية بناء يقع بين الواقعي والأسطوري, أو على مستوى بناء الوقائع بما يخدم رؤية فكرية وفنية في آن. فكل ما في سلطانة يشير إلى أن غالب قد أراد منها تقديم صورة عن فترة من حياة الأردن, هي مرحلة تحولات عصفت بالبلد.

ويلخص ذلك عبارة جريس وهو يتذكر الأردن من القاهرة, حيث يقول <<الأردن التي تحلم بها لم تعد موجودة حتى حين كنت فيها>>. كما يؤكده حديثه عن التحولات المختلفة, بدءا من التحول من زمن الفروسية, زمن <<آمنة.. الحلم الرومانسي..>>, إلى زمن التهريب والمتاجرة مع إسرائيل, زمن المرأة الأخرى <<سلطانة>>.. الشبق الملعون.