عرض مشاركة واحدة
قديم 12-30-2015, 02:29 PM
المشاركة 61
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
القلوب البيضاء
القاص ياسر علي

ها قد وجد نفسه على عتبة عرين غريمه و صديقه معا ، كان يسير شاردا ، إزميل المصائب حفر عميقا في صلابة تركيزه ، و سهم الخذلان اخترق قلب عزمه . يومه مليء بالحركة كما الأيام قبله ، تفقد الساعة ، الليل يدبّ نحو ثلثه الأخير، في لحظات ضعف و وحشة كهذه ، لا أجدى و لا أنفع من الغفران فمخزون التحمّل تلاشى و سبل رد الاعتبار غير سالكة . فما أسهل أن يرمي الفرد نفسه لوما ، قاذفا إياها بالخطأ و التقصير و الوافي لن يردّها في وجهه ، سيفتح له قلبه الأبيض ليعيدا قطار صحبتهما التي دامت أربعة عقود كاملة إلى سكته الطبيعية .
بخطى ثابتة تقدم نحو الركن الأيسر القصي من مكتب الاقتراع حين انتصف النهار، وراء الستارة استفرد بورقة التصويت في خلوة شرعية ، شعّ اسمه على اللائحة ، أشّر عليه ، سرت رعشة جسده ، تساءل إن كان من سبقوه إلى هذا المخدع صباحا قد استمالهم رمزه و حظي بنظرة إكبار منهم ؟ تطلّع نحو الذين سيتشرفون بالخلوة بعده ، هل ستعانق علاماتهم صورته ؟ أم سيغضّون عنها أبصارهم و تفر منها قلوبهم . مسح على شعره ، تمنى لو أن مرآة تعلو هذه المنضدة ليتأكد من صمود دماء وجهه . في هذا المتر المربع الواحد سيتحدد مصير شعبيته التي كانت جارفة ، يومئذ لم يتجرّأ أحد على منازعته ، بل خرّ خصومه صرعى ، تذكر اللحظة ذاتها قبل ستّ سنوات ، كان حينئذ مقداما صلبا ، لم يستعن طيلة حملاته الانتخابية تلك ، لا بحسب و لا بنسب ، لم يعزف على لحن العشيرة و لم يرقص على أماني الغلابة ، لم يتوكأ على عكازة المال و ضؤل في عينيه كيد السماسرة ، كان نجمه وقّادا يعانق علياء السماء و الجمع يدفع به إلى كرسي قيادة البلدة . لم يكن من هوّاة المناصب والجاه والمال ، كان بسيطا تستوي روحه على تراتيل الإيخاء والمساواة و العدالة ، لم يحكم يوما قبضة يده اليسرى مشهرا حدّ لسانه ولاء للشرق ، و يده اليمنى ما انبسطت ملوّحة للغرب ، حافظ على براءة دقنه الحليق و لم يتغلغل في أوحال العصبية. يحب هذه الحيادية التي جبل عليها الأفراد ، هذه الحرية التي تعمق الإحساس بالمسؤولية .
" خذ بطاقتك الوطنية ، و حظّا موفقا." هكذا نطق رئيس الصندوق عندما صبغ ظفر إبهام الصافي بمداد لا تمحى آثاره كما وقع سياط الغدر التي اكتوى بها ظهره ، فصديقه الوافي الذي لازمه منذ الطفولة ، و كانا يشربان من نبع الوفاء و الصفاء والإخلاص طوال مدة صحبتها سدد له طعنة غائرة أربكت كل خططه ، تساءل لم تكالب عليه الجميع لاقتلاعه من جذوره ؟ أهكذا السياسة؟ أهي كلها مكر وخداع و نفاق ؟
رجع إلى بيته غضبان آسفا و رجلاه لا تقويان على الوقوف و قد هدهما السهر و العياء ، رحبت به أميرة طالبة الهدوء من أبنائها و التوقف عن إزعاج والدهم ، شعرها الناعم متدفق على كتفيها ، تمطط على سرير غرفته و الرغبة في ضمها إلى صدره تخامره ، بياض بشرتها اللؤلئي و بريق عينيها يوقظان جموح الشهوة في جوفه ، لا تزال محافظة على بهائها الأصيل ، بل تزداد أنوثتها إشراقا و سطوعا بعد كل مولود . رنّ الجرس فقطع عليه نشوة هذه اللحظة التي همّت فيها روحه بالانتعاش . زغرد لسانها بلطف :" قم إلى أنصارك ، ولا تجعلهم ينتظرون أكثر، فلربما زفّوا إليك نبأ سارّا ، أو يحتاجون منك لخدمة ، لا تتهاون حبيبي فسيف الزمن بتار و الحظ حليف المثابر حتى النفس الأخير." ردّ و الدّمع يكاد يغالبه : " ماذا أنا فاعل لولا تضحياتك يا أميرتي ، ما كان مصير بيتي و أبنائي لولا اجتهادك ؟ دمت سندا و ملاذا آمنا لروعاتي .
لم يكن هاجسه الأوحد الحفاظ على مقعده في مجلس قيادة البلدة وحده ، فلربّما يظفر بالعضوية رغم كيد الناقمين ، لكن تراه يحافظ على منصبه كرئيس للبلدة و قد انهالت عليه سياط الدعاية من كل جانب ، الشباب الهائج لم يعد يملأ عيونهم أحد منذ أن أزهرت حقول السياسة فرحا بالربيع ، و لم تعد لطموحاتهم التدميرية حدود ، لسانهم يلهج بالتغيير و الرحيل صبحا و مساء . الأعيان ازداد جشعهم و غلظت أمانيهم و قد بزغت فصول القوانين تقض راحتهم. السلطة و ما أدراك ما رجال السلطة ، كانت له معهم صولات طوال مدة انتدابه ، جوعهم لا يُسكت ، و مكائدهم لا تنتهي . كانت حربا ضروسا تلك التي خاضها لأعوام ، فهبّ الجميع لإبعاده عن الميدان.
في بيت مطلّ على الشارع العام ، مكوّن من طابقين سيستقبل عند المغيب من تكمن من اجتياز الاختبار بنجاح ، هناك ينتظره رفاقه ، يزيّنون له خططه ، يبصمون على أمانيه بالعشر ، يشيّدون له أبراج المجد والسلطان: " تمالك نفسك ، فكل من رشّحتهم في الدوائر رابحون لا محالة ، دائرتك ستهزم فيها الوافي شرّ هزيمة ، ستنال الزعامة بأغلبية مريحة ، فأنت الفتى الأول في البلدة ، ثقافة هائلة ، قدرة على التدبير عالية ، وجه بشوش حازم يشدّ العيون و تطمئن إليه القلوب ، اصمد يا بطل ، و استعدّ للاحتفال."
عكس المتوقع كانت الدقائق تمر مرّ السحاب ، و موعد إغلاق المكاتب يدنو، في يده اليمنى هاتف و في أذنه اليسرى آخر ، بلغت السمسرة مداها عند اصفرار الشمس ، رهانه على أحدهم كان خاسرا ، فهاتفه لا يستجيب منذ أن صاح في وجهه أن البرصة ارتفعت مؤشراتها والأسهم لم يسبق أن حقّقت هذه القفزات ، اشتعلت العلامات الحمراء في وجهه ، ففوز منافسي مرشّحيه كفيل بسحب بساط القيادة من تحت قدميه . صعد إلى سطح المبنى يتأمل البلدة و هي تودّع آخر خيوط الشمس أحس بانقباض أنفاسه فهذا ليس وقت التأمل و الاستمتاع بلحظة الغروب فكلما اختلى بنفسه عظمت عليه الخطوب ، هرول نازلا فارّا من هواجسه و المئذنات تودّع صخب النهار بابتهالاتها الرخيمة ، والمصابيح تقاوم زحف ظلمة الليل . دق الرّعب باب قلبه حين سيطر الوجوم على رفاقه ، بعضهم يؤدي الصلاة ، و الآخرون يتطلعون إلى هواتفهم متى تريحهم من طول هذا اليوم الثقيل ، فالصناديق ألقت ما بجوفها و طاولات الفرز ستكشف أسرارها ، تسمع الأنفاس الحارة و بعض الهمهمات الخافتة في الغرف بينما الرؤوس مطرقة والعيون خاشعة . أخيرا جاء أول الغيث فانشرح الجميع ، واحد من زملائه في الحزب أصبح عضوا بمجلس البلدة ، ثان فثالث فرابع ليغمر الهتاف البيت و العناقات متوالية و السلالم مائجة بين صعود وهبوط بين الدورين . توقف الخبر السّار فاسحا المجال لقصف الرعود و دقّ الطبول فسكن البيت سكونا رهيبا ، وبدأ تسلّل متفقدي الأخبار ، حصد الحلف المضاد تسعة مقاعد كاملة ، أصبحت قيادة البلدة في مهب الريح ، جاءت نتيجة حصوله على مقعد دائرته المتأخرة فاترة ، انتصار بطعم الهزيمة ، أصبح البيت مستوحشا إلا من بعض رفاقه ، حتى ثلاثة من زملائه في الحزب فرّوا منه ليعقدوا صفقة مع الناجحين .
قدماه ممتدتان أمامه ، و ظهره مسنود بحائط سطح المبنى ، يحاوره جليسه بين الفينة والأخرى ، كلام ممزّق لا يصله إلا بعضه ، فالأهازيج تملأ الشارع ، والزغاريد تطنّ في أذنيه طنينا مزعجا ، لم يكن يخطر بباله أن هذه الأفواه المليحة الرقيقة وهذه النغمات الشجية قد تصبح مؤذية إلى هذا الحدّ ، همّ بغلق أذنيه لو لم تخنه يداه المشلولتان ، كل شيء تحول إلى سراب في لحظة واحدة ، يبحث عن نفسه في خضم هذه الفوضى فلا يحس إلا ببقايا حطام آدمي بأجزاء متناثرة عزّ عليها الالتئام .
هدأ الشارع و سكن بعد ساعات طويلة كان فيها بين الحياة والموت ، لم يفلح حتى في عيش لحظة تشييعه و رؤية نعشه و هو يوارى التراب ، كانت مسرحية ساخرة أنتجها أباطرة البلدة و أخرجها صاحب السلطة و شخّصها فتية الربيع . قام من مكانه و قد تحررت أطرافه من أغلالها ، تدحرج عبر السلالم غير عابئ بصوت خفيف ينبعث من مكان ما في البيت فعقله لا يزال مخدرا .
الشارع أجرد من صحراء ، اختار الانعراج مع أول طريق تفضي به إلى الضاحية الجنوبية . " غارق أنت أيها الوافي في لجة خسائرك ، خسرتني صديقا ، خسرت الانتخابات ، خسرت سمعتك الطيبة ، لوثتتك السياسة ، أهبل أنت ياصديقي حين ظننت أنك ستهزمني بسهولة ، كيف فتحت ذراعيك مرحّبا بلعنة الكراسي ، من كان يظن أنني سأستميت مدافعا عن منصبي ؟ من كان يظن أنني سأستمرئ السباحة في هذه البرك الآسنة ، بئس ما تفعل بنا السياسة ، لكن ذكي أنا يا صديقي ، من سيعزّيك غيري ، لن أجعل هذه اللعبة تمزق روابط الحب السّامية بيننا ، لن أنسى حين تنمّر عليّ أطفال الكتّاب ، أنت من انتشلني من مخالبهم ، كنا ثنائيا رائعا على الدوام ، هكذا سنبقى دوما .
لمح شبحا يقترب من بيت الوافي متنقلا عبر الظلال ، اندلف في خفة ، كاد لسان الصافي ينطلق مناديا ، لولا أن ألجمه الخوف ، أصبح مرعوبا من كل خطوة ، رجلاه تقتربان من باب الحديقة همس يتسسل إلى أذنيه :
ـ تأخرت كثيرا حتى كاد النعاس يغلبني .
ـ أنت تعلمين أن منظمي الرهان يتأكدون من النتئج قبل إعلانها .
ـ هل جاءت توقعاتي في محلها .
ـ ورقتك هي الرابحة ، وهذه حصتك .
ـ كل هذا لي ، كم أنا محظوظة ، ادخل لنحتفل .
ـ و زوجك ؟
ـ هه ، ذاك المهزوم ، لن تجد له أثرا و سيتجرع خيباته وحيدا وبعيدا .
ارتجفت أوصال الصافي و كادت الصدمة توقعه أرضا ، كيف أصبح بيت الوافي مستباحا إلى هذا الحدّ؟؟؟.. رهانات على نتائج الاقتراع !!!؟.. استوطنه غبن شديد و هو يرى ما آلت إليه أحوال البلدة . واصل مسيره إلى بيته و المرارة تمزّق آخر أربطة رشده . دون إزعاج أهله و أبنائه تسلل إلى البيت كاللّصّ ، استوت جثّته على وثاب ، أغمض عينيه في سكينة ، وشوشة تنبعث من غرفة نومه ، أميرة تضيئ مصباح الفناء ، الوافي يشكرها على مؤانسته في ساعة الشدّة . تنطلق صيحة هستيرية من غرفة الجلوس .
انتهى،،،