عرض مشاركة واحدة
قديم 11-25-2011, 08:50 PM
المشاركة 2
عبد اللطيف غسري
شاعر ومترجـم مغـربي
  • غير موجود
افتراضي
المقدمة والاستهلال في قصائده




لقد أدرك الشاعر عبد اللطيف غسري، أن للقصيدة العمودية تقنياتها في تواصلها مع المتلقي...مع العلم أنه يضع أمام عينيه طريقة الشاعر العربي في بناء قصيدته..وكيف كان يعتمد الطرق العديدة لجلب الأسماع إليه، وشد السامعين...

وشاعرنا عبد اللطيف يعي جيدا ، أن حسن الاستهلال يصرف الأسماع والقلوب إليه..لأن:"حسن الافتتاح واعية الانشراح، ومطية النجاح"[1]...

ويدرك أن الشاعر العربي القديم كان يستهلل قصائده بالنسيب ا الوقوف على الأطلال، والدمن... وهذه الطريقة في الأداء عمل بها شاعرنا عبد اللطيف ن ولم شيد عنها.. وبالتالي جاءت قصائده متكونة من:

- مقدمة.
- موضوع.
- خاتمة.

ولكن هذا لا يصدق على كل قصائده..بل جاءت بعضها بدون مقدمات، أي جاءت بتراء...

والمقدمات التي استعملها عبد اللطيف غسري، إما مقدمات رسمية، وتشتمل على المقدمة الطللية... أو مقدمات ثانوية، وتهتم بالنسيب، ووصف الطبيعة، والبكاء على الشباب، والتأسف، والشكوى، وما إلى ذلك...

ومن القصائد التي اعتمدت المقدمات الرسمية، وتضمنت الوقوف على الأطلال، والديار والرسم...قصيدته (قلم ينز حلما)، والتي يقول فيها:

هذي رسوميَ أطياف وأشياء++++ وأوجه مستطيلات وأفياء
معشوشب قلمي سود غمائمه++++ تسوقها ألف في إثرها ياء
شعاره خطفة للضوء مبصرة++لا خطوة في دروب الظل عمياء
لا يبرح المزن في آفاقه نزلا++++ عروشها كنوايا البحر علياء

وقصيدته (أنا شبح يختلي بالمرايا)، والتي يقول فيها:

تبعثرني ولولات الصدى++++ ولغو يدك حصون المدى
فأرتد صوتا كوجه المساء++++ يلملم أنفاسه مفردا
صحوت وفي الصحو بعض قفول++++ إلى خبر ينثني أوحدا

ومن القصائد التي اعتمدت المقدمات الثانوية، والتي تضمنت استهلالا حول:
- لحظة رؤية الحبيب ومروره: مثل قصيدته (تمرين بي)، والتي يقول فيها:

تمرين بي لكأني الشجون++++ وغيماتها أو كأني السكون
أنا واقف في زوايا اشتياقي++++ تعيش بثوب ربيعي السنون
أصارعُ وجديَ في درب صمتي++ ويَصرَعُني مِن شذاكِ الفُتون


- وصف لحظة عشق، ووله. مثل قصيدته( رباعيات عاشق)، والتي تغرق في الوصف والنسيب، والتي يقول فيها:


متيمتي نور فجر أطل++++ يشد العقول ويسبي المقل
نسجت لها من دمي بردة++++ مطرزة بخيوط الغزل
خريدة حسن لها سمرة++++ بلون الغروب إذا ما اكتمل
أسيلة خد لها طله++++ تميت الشجون وتحيي الأمل

- البوح والنداء، والتباريح: كما في قصيدته( فلسطين يا منتهى شجني)، والتي يقول فيها:

فلسطين يا منتهى شجني++++ ويا مصدر السقم في بدني
ويا وهجا في الفؤاد مضيئا++++ يراود ذاكرة الزمن
يعود فيبحر في كل يوم++++ بموج الضمير بلا سفن

- وصف الطبيعة وحالة الذات الشاعرة: كما نجد في قصيدته( غربة القلب)، والتي يقول فيها:


تأوه الطيب في أعطافها نورا++ فاجتث من لينتي أفنانها الحرى
وقد من مقلة الأشواق زنبقة+++ تنفس الليل من إشراقها فجرا
فالتاع مني شغاف الوجد جندلني- والشوق حملني أثقاله الكبرى

- الشكوى، ووصف الليل: كما نجد في قصيدته(يا سيد الليل)، والتي يقول فيها:

يا سيد الليل والأفراس والمال++متى ستسمعنا من برجك العالي
اهبط إلينا نبادلك القلى مقة++فبسمة الدهر لا تبقى على حال
جدد عراك التي قدت حبائلها++ بغفلة منك في الماضي وإهمال
وساند الناس في خطب وضائقة+ واسق الورود بماء منك سيال

هكذا نجد تنوع المقدمات في شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، وبالتالي تنوعت معها المواضيع من حب ووصف للطبيعة، واهتمام بالقضايا العربية المعاصرة، وما إلى ذلك...

[1]- الحسن بن رشيق القيرواني،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق : منحيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981،ج 1، ص:217


الشكل والمضمون في شعره
عندما نتمعن جيدا في شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، نجد انه شعر واقعي في مجمله.. وبالتالي نجزم أن شاعرنا شاعر واقعي ، ملتزم...

نعم.. رب قائل : إن عبد اللطيف غسري لا ينتمي إلى الواقعية الصرفة في شيء...في تصوير تجربته الشعرية..وانه حافظ على النمط الموروث، وانفتح على مواضيع عدة، وبرؤى مختلفة...

شاعرنا آمن بالحب والحياة..والعلاقات الإنسانية...فقد كان إنسانا قبل أن يكون شاعرا.. وما زال الشاعر يحمل الإنسان.. ولذا كانت عينه على كل شيء...يلتقط المواقف، فيعبر عنها شعرا عندما تحرك سواكنه.

عشق الحياة.. والجمال...والطبيعة...والإنسان...فاستمد من هذا العشق مضامينه الشعرية....فكانت قصائده لا تخلو من قيم، ورؤى، ومبادئ...وبالتالي كانت قصائده عبارة عن تداعيات نفسية...وعبارة عن بوح شعري- إن جاز لنا ذلك- ... ولو عن غير قصد... ومن ثمة تنوعت الأغراض في شعره.. واختلفت المواضيع...فكان كالنحلة البهية، لا يمتص إلا رحيقا، ولا يمد إلا عسلا مصفى...

ففي حديثه عن الصداقة نجده يصف صديقا له في جلسة عفوية.. يصف شغفه بالكفتة، ونهمه.. تصويرا جميلا لا يخلو من صدق ، وعفوية....نشتم فيه مدى الحب الذي يكنه لهذا الصديق...ومدى الألفة والصداقة التي تجمع بينهما، ولو أن وصفه يعد من باب النميمة...

كما أننا نجده في غزلياته- إن شئنا- يصور المشاعر الإنسانية بدقة متناهية، ويصور حالة الفرح والانتعاش التي تكون عليها النفس،وهي في حالة غرام، وهيام.. أمام الحبيب.

وفي قصيدته(فلسطين يا منتهى شجني)و( بغداد يوم الكريهة) نراه يصور ألمه.. وحزنه... وما يحس به من فجيعة اتجاه بلدين عزيزين( فلسطين)و( العراق).. ومن خلال معاناته وحزنه يتمرأى لنا معاناة الشعبين العراقي والفلسطيني...

وشعر عبد اللطيف غسري، يظهر من خلاله أنه شاعر مجيد...كالشعراء الكلاسيكيين.. اهتم بالشكل واعتنى به كثيرا... من خلال اعتماده على عمودية الشعر، والصياغة اللفظية.. وجمالية العبارة الشعرية...

صحيح أن له قصائد تفعيلية ، لكن الغالب عليه هي: القصيدة العمودية، لأنه يجد فيها سواكنه، ولذته...

والجميل في شعر عبد اللطيف غسري، هو أننا نجده متعدد المواقف.. حيث نجد أن تجربته الشعرية متنوعة الاتجاهات، والمذاهب.. فهو شاعر كلاسيكي لا يختلف عن رواد الكلاسيكية(شوقي- حافظ- مطران-الرصافي- الجواهري-.....وغيرهم).


وأحيانا نجده رومانسيا متأثرا بمدرسة أبولو.. فلا نجده يختلف عن الشابي، والهمشري، وأبي شادي،والأخطل الصغير،وصالح جودت،وغيرهم...

وأحيانا نجده حداثيا، يسير في ركب شعراء الحداثة: أدونيس، والبياتي، والسياب،ودرويش، وغيرهم...

فعبد اللطيف غسري، لم يسجن نفسه في حيز معين، وبالتالي لم يتقيد بمبدإ ما .... وهذا ما وفر له نوعا من الحرية في الاختيار، والتعبير، والرؤية... وبالتالي كان شاعرا حرا، غير ملزم...أو الانطلاق من فلسفة معينة...


لذا كانت قصائده قناعات ، واختيارات، تصبو من رؤية خاصة للحياة.. ومعايشة للأحداث... ومعاناة ذاتية... فهو شاعر مطبوع.. يعرف مدى الرسالة الملقاة عليه...

وتجربته الشعرية، لا تخلو من روح المعاصرة... دون الإغراق في الحداثة والتجديد المسف...ومن ثمة لا نجد في شعره غموضا.. أو لبسا..أو ألغازا...كما نجده خاليا من الركاكة، والفظاظة، والإسفاف، والخلط بين الأجناس الأدبية...


وفي كثير من قصائدهن نجد رومانسيته ظاهرة للعيان.. تتدفق منها مشاعره وشعوره.. يغلب فيها الشكوى، والحنين، والأنين،والقلق،كما نجد في قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:


إذا حدثت شاقني صوتها
وحملني نشوة كالحزن
وعلمني كيف تحلو الحياة
وكيف يلد مذاق الشجن
وكيف يصير الهوى جنة
وكيف تهون جميع المحن
لمن حلمه أن يعيش كعنـ
ـدليب يغرد فوق فنن
++++++
إذا الليل جن علي استوى
لدي الكلام وصمت الحجر
أبيت أعد نجوم السماء
وأبحث عن وجهها في القمر
إلام أظل أسير الهموم
يعذبني حبها بالسهر
إذا الشوق زاد اكتفيت بأن
أرى سحرها في كتاب الصور

وشعره يمتاز بالوحدة العضوية:"لأن وحدة الشعور والإحساس الذي ينتظم أجزاء معظم قصائدهن نراها تكون ما تشتمل عليه القصيدة من صور وموسيقى وتعبيرات، بلون واحد نابع من الموقف النفسين المسيطر على الشاعر لحظة إبداعه القصيدة"[1]..

وبالتالي ، يلتقي الفن بالشعور عند عبد اللطيف غسري.. كما تلتقي الوحدة الفنية بالوحدة الشعورية في قصائده...لأن كليهما واحد..

قصائده لا تخلو من صور بديعة....وراقية...وهذا يبين مدى الخيال الذي يتمتع به.. وقد استعان في صياغته هذه الصور على الأساليب البيانية المعروفة ( التشبيهات، والاستعارات، والمجازات، والكنايات، والمحسنات البديعية)... وبالتالي استطاع أن يقدم لنا كثيرا من الصور الفنية.. وصبغها بعواطفه، وأحاسيسه، وجمال نفسه...دونما صنعة أو تصنع...

وقد برع كثيرا في خلق صور غير قابلة للتجزيء.. والتي حولت القصيدة إلى لوحة فنية شاملة.. ومن هذه القصائد ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:


عيناك تجترحان الرشق بالخفر
وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا
في قامة الليل أو في باحة العمر
النبض إثرهما يغفو على شغف
والقلب بينهما يصحو على سفر
سافرت كالشفق المبتل صوبهما
ما للبنفسج في عيني من أثر
أشتم رائحة الوقت المراق على
ثوب الطريق وفوق العشب والصور
وأشرئب وكلي للسنا ظمأ
ظل الأماني بساط قدَّ من شرر
يممت شطر التباريح التي غربت
في أفق خاطرة مشدودة الوتر

حيث يصف فيها عين حبيبته.. فيشبههما بالتفاح، وبالبحر.. ويبين فيها لوعته، وشوقه وحنينه إلى رؤية هاتين العينين القتالتين...وأمام جمالهما ، يطلق لنفسه العنان لتصف كما تشاء... وهي ترى فيهما الدنيا ..فنجد صورا ووصفا جميلا يرشح صبابة.. إنها تعرية للذات، وكشف للنفس، وتعرية للخواطر... وفي هذه التعرية صدق العاطفة، والأحاسيس...


ومن الصور المبتكرة والجميلة هذان البيتان.. حيث يصور فيهما الغيم والسحاب، وقد تحولا إلى كتاب، وشرع يقرأ فيه، ويتصفحه.. كما يصور حالته الشعورية، عندما انتابته الأحلام، وتحولت إلى يد تلقي في جرابه حصوات.. وما هذه الحصوات إلا الأحلام التي تلقى في خاطره.. وذهنه.....


أقرأ الغيم سطورا++++ ماثلات في كتابي
وأكف الحلم تلقي ++++ حصوات في جرابي

وقوله أيضا، وهو يصف أسنان حبيبته بالثلج لكثرة بياضها.. كما يصف فمها بالبرقع.. عندما تبتسم تظهر ثناياها البيضاء...فيشع نور يخترق ظلمة الليل... وضحكاتها، وصوتها كاللوز المتساقط.. فهو الجمال يقطر منها ضحكا، وابتساما.. ونظرا ...وعطرا...


كما أن الضوء يعشق خطواتها، ومشيتها ، ويجد فيه جمالا.. أما الورد فيأخذ لونه وحسنه منها:

يا طفلة يتعرى الثلج إن فتحت +++++ أزرار برقعها في هدأة السحر
ويسقط اللوز من شباك ضحكتها ++++++ويستجم الندى في ظلها العطر
ويرتمي الضوء مسكونا بخطوتها++++ ويشرق الورد من ألوانها الكثر


ويقول عن القصيدة، مصورا أوارها، وعراكها.. وكيف يستعد الشاعر لاصطيادها حيث يعد عدته..إنه يقدم لنا صورة معركة بينه وبين القصيدة.. وكيف يجاهد نفسه ليفوز بها.. إنه يحول قول الفرزدق:"لخلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر"، إلى قصيدة جميلة حالمة بالصور، والاستعارات:


إذا ظبي القصيدة صيد حيا +++++ فقد شبعت مروج الفكر ريا
وقد لبس الخيال رداء خصب +++++ زكي الروح مؤتلقا نديا
فهل أعددت للكلمات سهما +++++ بلا قوس وسيفا مشرفيا
فتردي شارد النجوى قتيلا +++ وتصمي في الهوى كبدا طريا
وهل أسرجت خيلك باقتدار +++++ إلى جوزاء حرفك والثريا
وقدت جحافل النبضات طرا +++++ بشعر كنت فارسه الكميا
نعم جرعات قلبي من رحيق +++++ وكم من هضبة تنمو لديا
فأقبل يا وشاح النار أقبل +++++ وأحضر كل قافية إليا
ستحملني إلى خلجان بوحي +++++زوارق كنت أرعاها مليا
يلاطمها عباب في دمائي +++++ وعاطفة تدمدم في يديا
وأصوات تولول في يراعي+++++وتعزف في المدى نغما ثريا
مقامي لا يبث النَّوْرَ إلا +++++إذا كان الضياء له سميا

ويقول في قصيدته (تمرين .. بي) مصورا حبيبته في أحسن بهاء.. وهي تمر به.. ومن أمامه، كأنها الحسن الناطق... على وجنتها الورد .. وفي شفتيها دمه.. وعندما تفتران عن ابتسام .. يظهر صفان من اللؤلؤ الناصع البياض.. وهذا ما يزيد الشاعر افتتانا.. وولعا.. وصبابة...


تمرين ... في وجنتيك الأقاحي ++ يسافر في لونهن المجون
وفي شفتيك استدارات ورد+++++يكون له الشوق أولا يكون
إذا افترتا عن بياض الأماني+++++رذاذ الرجاء تدر الجفون

ويصور سهره وأرقه، وهو يناجي نجم السماء، باحثا عن قافية، شاردا وراء صورة.. باحثا عن مدخل إلى قصيدة.. إنها لحظات المخاض والولادة.. يصورها بفنية عالية.. فلنقرأ قوله:

يا أيها القلم المصلوب في قمر ++ناءٍ على كل شلو منه أجزاء
آليت أن تركب الهمس المدوم في+ غلالة الصمت لا تثنيك أرزاء
عزَّ اقتفاء النجوم الساريات فما++ يغشي مداراتها إلا الأعزاء
فاستشرف الضوء من وجه تهيم به+كأن هامته في الحسن جوزاء


وقد أكثر عبد اللطيف غسري من استخدام التشبيهات التمثيلية، والضمنية، التي أعطت للصورة فنيتها وجماليتها.. وبعدها الدلالي المنشود.. وهذا لم يجنح به إلى الخروج عن الذوق العام، أو الإسفاف، أو الإخلال بالحياء العام...


ومن براعته في التصوير، قوله:

أنا الموج ، إن هجت فالبحر لا +++++ تؤوب قواربه ناجيهْ
كتبت تعاويذ للعشق في+++++جبيني وفي الصحن والآنيهْ
وسافرت في القوس والمستطيل+++++وبين الدوائر والزاويه
أعابث صيف المعاني فيحنو+++++وأشرق في شمسه الحاميه

ففي كل الصور التي عرضناها، نجدها لا تخلو من محسنات بديعية.. إذ تتوفر على طباق وجناس، وتورية، وكناية، ومقابلة...

[1]- د. شرف، (عبد العزيز)و ، د. خفاجي، (محمد عبد المنعم)،النغم الشعري عند العرب، دار المريخ للنشر، الرياض، طبعة 1987