عرض مشاركة واحدة
قديم 01-29-2013, 10:03 PM
المشاركة 6
عبدالله باسودان
أديـب وشاعـر

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي الأديب الإنجليزي
الأديب الإنجليزي - 4 -

وكان الحديث جديدا بالنسبة إلينا عن حقيقة عمل "الرجل الذي يعرف كل شيء" , إذ لم يسبق أن ذكر لنا أي شيء عن عمله , وإن كنا قد عرفنا أنه ذاهب إلى اليابان في مهمة تجارية.
ودار "كلادا" بعينيه يتفحص وجوه الحاضرين , وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ظافرة , ومضت لحظة صمت ثم أضاف يقول :
يتحدث السيد "الدكتور" عن أن صناعة الجواهر الزائفة سوف تؤثر في قيمة الجواهر الحقيقية ولكني أستطيع أن أؤكد لكم العكس..
وصمت لحظة قصيرة كأنما يريد أن يتبين وقع كلامه في نفوس الحاضرين , ثم استطرد يقول:
- وأؤكد لكِ يا سيدة "رمزاي" أن هذه الجوهرة التي في عنقك لن تفقد مليمـًا واحدًا من الثمن الذي دفعته فيها.
وما إن سمعت السيدة "رمزاي" عبارته الأخيرة حتى انتفضت انتفاضة مفاجئة , وسرعان ما تمالكت نفسها وأمسكت بالسلسلة في بساطة, ووضعتها في صدرها تحت الثوب في أمان , وكأنها تشعر بقلق شديد من ناحيتها!!
ومال السيد " رمزاي" قليلا إلى الأمام بعد أن أغمض إحدى عينيه , وغمز لنا بطريقة ذات مغزى خاص:
- إن هذه السلسلة التي تلبسها زوجتي جميلة ولا شك يا سيد "كلادا".
- نعم , وقد عرفتها من أول نظرة , فهي من أحسن أنواع الماس.
فهزَّ السيد "رمزاي" كتفيه العريضتين وهو يقول:
- الواقع أني لم أدفع فيها شيئـًا ويهمني أن أعرف ثمنها!
فظهرت إمارات الاهتمام على وجه السيد "كلادا" وقال بلهجة من يدلي بنبأ بالغ الخطورة :
- أؤكد لكَ أن ثمنها لا يقل بحال من الأحوال عن خمسة عشر ألف دولار , وإن كان من اشتراها قد ابتاعها من "الشارع الخامس", فلا يدهشني أن يكون الثمن قد ارتفع إلى ثلاثين ألفـًا!
وارتسمت على شفتي القنصل ابتسامة ساخرة وهو يقول:
- قد تكو مفاجأة لكَ يا عزيزي السيد "كلادا" أن تعلم أن زوجتي قد ابتاعت هذه الحلية من أحد المحال التجارية بثمانية عشر دولارًا فقط يوم أن غادرنا نيويورك!
فانتفض السيد "كلادا" في مقعده كمن لدغه عقرب , وصرخ قائلا بصوت تفيض نبراته بالمعارضة والاحتجاج:
- كلا , أبدًا . هذا غير ممكن. إنك تسخر مني يا سيد "رمزاي"!
- أتراهنني ؟ أتراهن بمائة دولار على أنها جواهر زائفة ؟
- نعم أراهنك !
وهنا تدخلت السيدة "رمزاي" في المناقشة التي قامت بين الرجلين , فقالت تخاطب زوجها في صوت هادئ النبرات :
- ولكنك لن تراهن يا عزيزي على شيء تعرف أنت حقيقته من قبل , وإلا ... فإن السيد "كلادا" يكون مغبونـًا في هذا الرهان!!
- كيف تتاح لي فرصة سانحة للحصول على مائة دولار من أسهل طريق , ثم أتركها تمر دون أن اغتنمها ؟ لا شك في أنني لو فعلت ذلك لكنتُ غبيـًّا أحمق !
- ولكن , كيف يمكنك أن تثبت ما تقول , وليس معي ما يدل على الثمن الذي دفعته , إن المسألة كلها لا تعدو أن تكون مسألة أقوال فحسب!
- لست أريد إثباتـًا من أي نوع , وكل ما أطلبه هو أن أفحص هذه الماسات , وسوف أخبركم بسرعة عن حقيقة أمرها , حتى لو خسرت الرهان, فإني رجل شريف.
فأسرع السيد "رمزاي" يقول لزوجته:
- انزعيها إذًا من صدرك يا عزيزتي , واتركيها للسيد "كلادا" ليفحصها كما يشاء.
فترددت الزوجة لحظة قصيرة ثم أسقطت يديها إلى جانبيها , وهي تقول:
- لست مستطيعة أن أفتح هذا القفل , وآمل أن يكون السيد " كلادا" على ثقة مما أقول.
وخطر لي في تلك اللحظة أن مأساة توشك أن تقع , وأخذت أدعو الله في سري أن تتوقف المناقشة عند هذا الحد, غير أن القنصل قفز من مقعده فجأة وهو يقول:
- لا بأس . أستطيع أنا أن أفتحه بنفسي.
وقرن القول بالعمل , فمد يديه إلى عنق زوجته وسرعان ما انتزع السلسلة الماسية التي تزينه , وقدمها إلى السيد "كلادا" الذي أخذ منظارًا مكبرًا, وأخذ يفحص الماسات في صمت , وفجأة بدت على وجهه علامات الانتصار , وأعاد الحلية إلى السيدة "رمزاي" وقد بدا عليه أنه يهمُّ بأن يقول شيئـًا .. ولكن نظره وقع على وجه الزوجة مصادفة في تلك اللحظة , فلاحظ أنه قد صار أبيضَ كالثلج , وبدا له كأنها توشك أن تفقد الوعي !.. كانت تنظر إلى وجهه بعينين يطل منهما الفزع وتنطقان بالتوسل والرجاء , وكأنها تتوسل إليه ألا يتكلم .والحق أني دهشت شخصيـًّا لأن زوجها نفسه لم يلحظ شيئـًا من هذا كله مع أنه كان ظاهرًا للعيان!
وأطبق السيد "كلادا فمه ولزم الصمت , وبدا لي لحظتها أنه يبذل جهدًا كبيرًا ليسيطر على أعصابه . وران الصمت على الحاضرين لحظة , وأخيرًا قال السيد "كلادا":
- إنني آسف فقد أخطأت ! إذ الواقع أنها ماسات زيفت بمهارة فائقة , وأعتقد أن ثمانية عشر دولارًا تعد ثمنا مناسبا لا غبن فيه.
ثم أخرج السيد "كلادا" من حافظة نقوده ورقة من فئة المائة دولار , وقدمها إلى السيد "رمزاي " معتذرًا عن الجدل الذي أثاره. ومضت لحظة صمت قصيرة قال بعدها القنصل وهو يدس ورقة النقد في حافظة نقوده :
- أعتقد يا صديقي العزيز أن هذا الدرس يكفي , فلا تجادل مرة أخرى فيما ليس لك به علم.
وشعرت في تلك اللحظة أن السيد "كلادا" كان يعاني موقفـًا لا يحسد عليه , إذ لاحظت أن يديه كانتا ترتعدان. غير أنه جاهد كي يتمالك زمام نفسه ولم يعقب بكلمة واحدة.

وانتشرت القصة بسرعة البرق في كل أنحاء السفينة . وكانت أضحوكة طريفة حقًّـا أن الرجل الذي يعرف كل شيء قد أخطأه التوفيق في أمر يزعم أنه حجة فيه . ومن الغريب أن السيدة "رمزاي" قد لزمت " مقصورتها " عقب هذا الحادث فلم تبرحها طوال المساء , بل إنها لم تُشاهد وقت العشاء في غرفة الطعام , ولم تحضر السهرة التي أعقبته بحجة أنها مصابة بصداع شديد
واستيقظت مبكرًا في صباح اليوم التالي , ووقفت أحلق لحيتي أمام المرآة , وكان السيد "كلادا" لا يزال مستلقيـًّا في فراشه يدخن سجائره , وفجأة رأيت خطابا صغير الحجم يدفع من تحت الباب , فقرأت على غلافه هذه الكلمات مكتوبة بأحرف كبيرة :"إلى السيد ماكس كلادا" . وفتحت الباب بسرعة لأعرف من يكون مرسل الخطاب أو حامله على الأقل , غير أني وجدت أن الممر الضيق كان خاليـًّا تمامـا !
وناولت الخطاب إلى السيد "كلادا" , وكان لا يزال مستلقيـًّا في الفراش . ومرت لحظة قصيرة أحسست بعدها بأنه يمزق قطعة من الورق , وعندما أدرت وجهي نحوه , مد يده بقطع صغيرة ممزقة من الورق وهو يقول:
- هلا قذفتَ بهذه القصاصات من الكوة إلى البحر الواسع ؟
ولما أجبته إلى طلبه واستدرت نحوه ثانية طالعتني ابتسامة ساخرة كانت قد ارتسمت على شفتيه, ومرت لحظة صمت قصيرة قبل أن يقول :
- ليس من السهل على المرء أن يدعي الجهل !
فقلت له في لهجة شاع في نبراتها مزيد من اللهفة والفضول :
- وهل كانت الماسات حقيقية ؟
ولم يجب الرجل الذي يعرف كل شيء عن سؤالي مباشرة , وإنما نظر في عيني طويلا ثم قال:
- لو كانت لي زوجة صغيرة جميلة لما تركتها تقضي في "نيويورك" عامـًا بأكمله في حين أكون أنا في "كوبا" ! إذ لا شك في أنها ستكون عندئذٍ معرضة لإغراء الهدايا الغالية الثمن !
وشعرت في تلك اللحظة شعورًا واضحـًا بأنني أصبحت لا أكره السيد "كلادا" , الذي كان مشغولا بإعادة ورقة نقد من فئة المائة دولار إلى حافظة نقوده.