عرض مشاركة واحدة
قديم 10-13-2010, 10:20 AM
المشاركة 3
سحر الناجي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


* القيمة الفعلية للفلسفة
إن الإشكالية التي تضعها الفلسفة من خلال تنوعها، تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما قيمة الفلسفة؟
يجب أولا أن نعلم أن الفلسفة لا تهتم بالقضايا التي تدخل ضمن اهتمامات العلم، بل – كما يقول برتراند راسل B. Russel –
"إن موضوعا ما يكف عن الانتماء إلى الفلسفة ويصبح موضوع علم قائم بذاته، بمجرد ما يكون تحقيق معرفة مضبوطة ومحددة عنه أمرا ممكنا."
لكن، هل فسر العلم كل شيء ؟ هل وصلت المعرفة العلمية إلى أوجها؟
إن استقلال العلم عن الفلسفة مكنه من أن يحقق تطورا سريعا؛ لكن، ابتداء من القرن التاسع عشر ظهرت في العلم قضايا، وإشكاليات، وأزمات (كأزمة البداهة، وأزمة التجربة مثلا)،
أضحى العلم إثرها في حاجة إلى الفلسفة قصد القيام بدراسة نقدية لمبادئه، ومناهجه واستباق نتائجه. وهذا ما أدى إلى ظهور نوع جديد من فلسفة العلوم يسمى "الإبستيمولوجيا".
قديما كانت المواضيع التقليدية تنحصر في دراسة الوجود (الأنطولوجيا)، ودراسة القيم (الأكسيولوجيا)، ودراسة المعرفة (الغنوسيولوجيا).
وهذا لا يعني أن هذه المواضيع أصبحت متجاوزة، لأن العلم لم يقدم كل الحلول، ولأن العالم سيظل لغزا محيرا للإنسان.
قيمة الفلسفة تكمن - إذن - في كونها تستطيع أن تدرس قضايا يعجز العلم عن حلها، بل قد يحتاج إليها العلم لتفسير تحولاته وأزماته.
كما أن القضايا الفلسفية قضايا أكثر عمومية كالقضايا المصيرية المرتبطة بالوجود الإنساني، كالموت والحرية ..إلخ. وتكمن قيمة الفلسفة كذلك، في كونها فكر إشكالي يرفض ويحارب الاستسلام للأفكار القبلية والاعتيادية؛ لأنها تخضع كل شيء للنقد، وتضع كل شيء موضع تساؤل. ومن ثمة يتبين أن قيمة الفلسفة لا يمكن حصرها في جانب معين، إنها تظهر بقدر ما تنجح في تحويل الموضوعات إلى قضايا إشكالية.
إذا كانت قيمة الفلسفة كذلك، فمن أين نبدأ التفلسف؟ يؤكد إدموند هوسرل E. Husserl أن التفلسف يبدأ بالرجوع إلى الذات قصد تحطيم المعارف المسلم بها والجاهزة، والتي يمكنها أن تكون عائقا إببستيمولوجيا في بلوغ الحقيقة. فعلى الفيلسوف أن ينشئ فلسفة خاصة، قائمة على حدوسه المطلقة، وعلى أسس حجاجية وبرهانية ومنهجية.
وعليه كذلك أن ينزع بفلسفته نحو الكونية. لكن عليه أن يتحلى دائما بالتواضع المعرفي، وأن يؤمن باستمرار بحاجته إلى طلب المزيد من المعرفة. من هذا المنطلق يكون الشك المنهجي – الذي أسسه ديكارت – أسوة لكل فيلسوف مبتدئ، وبهذه الطريقة وحدها تولد الفلسفة.
من خلال ما تقدم، يمكن أن نستشف، أن صعوبة تعريف الفلسفة لا تعني بالضرورة، أن الفلسفة فكر متعال عن الواقع، أو فكر يصعب إدراكه وتمثله. إنما يعني ذلك فقط أن للفلسفة بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها،وهذه الخصوصيات يمكن اعتبارها في ذات الوقت آليات مشتركة بين سائر الفلاسفة. ويمكن تلخيص بعضها إجمالا في ما يلي:
النسقية: إن مفهوم النسق يفيد النظام والتأليف، ويشير إلى وجود منظومة من العناصر. ومن هذا المنطلق، نقول إن الفلسفة ليست فكرا مرتجلا، وليست شطحات فكرية لا يعرف مصدرها، وليست شذرات من الآراء من هنا وهنالك؛ وإنما هي تفكير منظم، وبنية من الأفكار والنظريات. فقد يتناول الفيلسوف موضوعات متعددة، كالوجود، والمعرفة، والقيم، لكن هذا لا يمنع من اتسام فلسفته بالنظام والتدرج، ولاحتكام إلى صرامة منطقية.
العقلانية والتأمل: إن الفلسفة فكر عقلاني تأملي باعتبارها فكرا بعيدا عن الارتجال، وخصوصا لأن العقل وحده يستطيع أن يبحث في القضايا ذات الطبيعة الفلسفية. كما أن الفلسفة تفكير عميق يبتعد عن العواطف الوجدانية حيث يقول هيدغر Heidegger: "فالعواطف، لا تنتمي إلى الفلسفة، والعواطف، كما يقال، هي شيء لا عقلي. والفلسفة، على العكس من ذلك، ليست شيئا عقليا فحسب، بل المدبر الحقيقي للعقل."
الشمولية: إن الفلسفة - على خلاف العلم – تترفع عن الجزئيات، حيث لا تهتم إلا بالقضايا الأكثر عمومية، وتتسم بالتناول الكلي للموضوعات..
التجريد: قد تكون الفلسفة وليدة واقع معين، لكنها تحتفظ لنفسها بالمقاربة التجريدية،لأنها ابتعاد عن الارتباط العضوي والمباشر بالمحسوس والجزئي، خصوصا وأنها تسعى إلى بناء معارف ذات طابع شمولي وعام.
النقد: إن الفلسفة فكر نقدي لأنها إعادة نظر متواصلة، خصوصا وأنها لا تؤمن بوجود معارف ثابتة ومطلقة. كما أنها تجاوز للاعتقادات الساذجة والبديهية. لذا تتسم بالشك القبلي في وجود معرفة نهائية.
التساؤل: إن الفلسفة فكر تساؤلي باعتبارها فكرا إشكاليا نقديا. فالتفكير الفلسفي يجعل من كل شيء موضوع تساؤل ومناقشة وسجال. لذا قال كارل ياسبرس Jaspers : "الأسئلة في الفلسفة أهم من الإجابات عليها، وكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا".
إن الخاصية الأخيرة تدفعنا إلى أن نتساءل : ما هي طبيعة السؤال الفلسفي؟ وما هي خصوصياته؟
( يتبع ...)