عرض مشاركة واحدة
قديم 03-13-2016, 02:58 PM
المشاركة 53
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



تخيلوا معي كيف لو ان كائنا أشعثا، اغبرا، يبدو ما ورائيا، بمظهر اقل ما يقال عنه انه مخيف، ظهر فجأة لأحدهم في ليلة صماء، بكماء كالحة الظلام، وكأنه برز من تحت الأرض، او هبط من السماء، في مثل تلك الأجواء المرعبة التي كانت تعصف بالمكان، وتنغل فيها حكايات العفاريت والجان؟!...هذا ما قيل لي انه حصل مع والدتي، قبل ان أتي الي هذه الدنيا ربما بسنوات...وربما كنت حينها اتشكل ملتصقا بها وفي رحمها...

وما ذلك الكائن الاشعث، الاغبر، الا تلك العجوز التي كنت قد حدثتكم عنها، آكلة الجراد ذي الاجنحة، والذي هاجم قريتنا في احدى السنين، ووجدت من دون الناس في هجومه فرصة لتعويض النقص في البروتين...

ويبدو انه في أحدى الليالي كالحة الظلام، كانت تلك العجوز قد وضعت على وجهها سخام القدور، مثل ذلك الذي يضعه هذه الأيام الجنود على وجوههم قبل دخول المعارك، ليصبحوا بمظهر بشع واشد شراسه مما هم فعلا عليه... ولعلهم بذلك يلقون الرعب في قلوب الاعداء...كما وشقت ثيابها، وعفرت على رأسها من تراب الطابون، والذي يسمونه محليا (السكن) وهو الرماد الذي تتحول اليه الأشياء عند احتراقها، وربما اضافت اليه القليل من الطحين...وحلت غطاء رأسها وبعثرت شعرها او ما تبقى منه في تلك الاثناء، وبدت في مظهرها وكأنها كائن ما ورائي...او كأنها خرجت من تحت انقاض ركام زلزال مدمر فشوه منظرها، وبدت في منظرها مرعبة، انسانة في صورة كائن خرافي...

وربما ان صورتها كانت اشد سوء وبشاعة مما أستطيع ان أصف هنا في هذه العبارات ...إذا كانت في تلك اللحظة غاضبة، مزمجره لأمر لا بد أصابها، ودفعها لتتصرف بمثل ذلك الجنون...

وتلك الطقوس البائسة من العادات المرعبة التي كانت تفعلها النساء في حالات الحزن والحداد والغضب... فبدت وكأنها خرجت لتوها من أحد القبور، دفنوها فيه بعد ان فقدت وعيها، ظنا منهم انها ماتت وانقلت الي الدار الاخرة...فاستيقظت في ساعة متأخرة من الليل فوجدت نفسها فيه فنبشت التراب من حولها بأظافر يديها...وخرجت بعد جهد جهيد بوجهها الشاحب ومنظرها المرعب تسير على غير هدى...

وبدلا من ان تعود تلك العجوز الي منزلها وهي على ذلك الحال، اتجهت لغرض في نفسها، صوب بيتنا، الذي لا يبعد عن مكان سكناها سوى أمتار قليلة، مسافة قصيرة قد لا تتجاوز الثلاثون مترا...ودخلت على امي الباب مسرعة، دون اذن، او احم، او دستور...وكأنها عفريت من الجان، خرج لتوه بصورته المخيفة من الحكايات...وداهمتها على حين غرة في فناء الدار...فكان الذي كان...

وكأن زلزالا من قياس عشر درجات على مقياس رختر قد ضرب الأرض وحرك الاشياء...فاهتزت اركان المكان...واهتز قلب امي بشدة غير مسبوقة...وقفز نبضه على سلم الدرجات...وتسارع الى ارقام فلكية...وكاد ان يحدث فيه انفجار بركاني عنيف...

حاولت امي الهرب وهي فزعة وقد ظنتها عفريت من الجان...لكن تلك العجوز الشمطاء وبدلا من ان تتراجع الي الوراء...سارعت الي الامام باتجاه امي الخائفة، المفزعة، المرتجفة...لتضمها الى صدرها...ولكم ان تتخيلوا وقع تلك الضمة القاتلة...ووقع ذلك الزلزال العنيف على قلب امي، وعقلها، وقد أصابها الفزع والذهول لما جرى...حينما تمثلت لها تلك العجوز عفريت من الجان...

زلزال مدمر لا بد انه ساهم في موتها ولو بعد حين...لا بل إن لم يكن هو السبب الذي أدى الي قتلها في نهاية المطاف...وان كتبوا في شهادة الوفاة بأنها ماتت بالسكتة القلبية...او ربما لأسباب أخرى طبيعية...

زلزال عنيف لا بد ان تبعه تسونامي من الاثار والاحداث...ستظل حتما باقية، وقد انطبع في البصمة الوراثية...ما بقي الزمان والمكان...

يتبع..