عرض مشاركة واحدة
قديم 12-30-2015, 02:25 PM
المشاركة 57
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
راية كانون
قلم/ ندى إبراهيم

هناك في (برلين), وفي أقاصي الغرب والغربة, حيث سحيق الهوّة، وعربدة الطريق الباهض كُلفة, وحيث مدنية التطور وشهرة العلاج, والنأي عن صخب الحياة العربية وما آلت إليه من فظائع وعصف!
يتمطّى - وفوقه اللحية الكثّة- فوق بياض كأسمال ما بارحها الهذي والنياح, حتى بدد البياض وجعله واجما, وأنّى لمن حوله أن يستريح!
"متى سنخرج من هنا؟ ليتني متّ قبل هذا" قالها أبو حامد بحشرجة متعالية وصوت بدا يتهدّل رويدا.
"عن قريب يا أبتاه, ريثما تهدأ أعصابك وتتماثل للشفاء" ردّ حامد في أسىً عميم ودمعة شاردة كالمعتاد!
"حسنًا سأنتظر ذلك اليوم الموؤدة ساعته،المكلومة دقائقه, قم وناولني الماء" قال الوالد. عندما امتدّت يد البرّ والإحسان تشظّت من أنّات والده زفرات جارحة, يصحبها أخاديد مسرية من حدّة العَرَق و جفاف الشفه!
" لا أشتهي حتى الماء .. أريده! " هكذا ترنّحَ وأَعْجَب.
وكأنها لكمة جديدة وعارض هزّ أوداج المرافقة, جاءت لحامد عن غير استحياء لينفرط منه عِقد الرعاية, فيتجه فورًا لمناداة الطبيب المشرف على الحالة والنوبة المتكررة مع تجدد فتنها اللعينة. يثور وينتفض غبار المقاومة من على وجه الابن المسكين، بل ويذوب بسيلين من دمع! مرددا محتسبا : لطفك يالله.
وإلى حديقة مشفى( فيفانتيس هومبولت) لا يدري أتحمله الخُطى أم لا؟! وهل عمر الثالثة والعشرين كافٍ لاقتضاب (الاكتئاب) في بوتقة صبره؟ وتحمّل أمواس العذاب التي باتت تجرّح صدره وكأنها نكاية به عن جرم اقترفه؟! هل نحافة جسمه مع سواد فوق الناصية المتدلي على حنطية جسده ستجعل منه أكثر مراسًا وحركةً وتصديةً لواقعه المُعاش؟!
يُرهف سمعه وكأنه عابئ بما يدور حوله, يتقصّى بطرف عينيه المارّة والواقفين, بل وحتى المرضى والمراجعين, علّه ينجح في لعب دور الهدأة والإرتياح! توصله حدّة الألم إلى منتهى المكان فيقبع غير آبهٍ ببرودة الجو ولا بضوار الجوع في معدتهّ!
وحالٌ كهذا لم يخفَ على(شريف) المشرف على حركة الترجمة للمرضى العرب, فقد ظلل على رأس حامد كفراشة ترفرف بجنح المواساة, " ما بك، كيف حال والدك الآن؟ " قالها شريف مسترعيا مزاجية شريف في البوح, وفاغرا منه فاه الإفصاح عمّا يدور في خلده الحزين, " الحمد لله, عاودته النوبة من جديد وأخشى أن يأتي اليوم الذي يرفض فيه مرافقتي " قال حامد.
ليست مهمّة شريف معرفة تاريخ المرضى, ولا حتى أسباب المرض، بل عمله محصور في الترجمة من أجل العلاج من اللغة الألمانية إلى العربية وبالعكس.
وقسرًا يحاول شريف أن ينتج من مدونة عقله الفارغ شيئًا يسلي به خاطر حامد, لكنه لم يجد سوى دحرجات الواقع الأمرّ الذي يعزو إليه انتشال صاحبه مما هو فيه، " لا تخف سيُشفى والدك قريبا بإذن الله، ما رأيك أن أخبرك عن بطولاتي ذات صيف؟!" قالها وثقة عارمة تنتشيه بأنه سينجح في أن يدلي دلو السرور, ليتعاطاه مع صاحبه, فيسكران ويبتعدان، حتى يحييان معا - وبلا هوادة - في عالم آخر!
شريف الذي لم يمضِ على عمله في ألمانيا سوى شهر واحد , لم يبرح يكررعبارة جده المتكهن المُرّ الآني)، وكذا يدّعي أنه نجى من موت محتّم, فلم يفهم أحد البتّة مرامه، إلى حين لُقيا حاتم.
" هل سمعت يا صديقي عن تنظيم الدولة الإسلامية الجديد؟! حتى كأننا لم نكن لنعش في مهد الإسلام الأًصيل، ما زالت هذه الدولة تجرّ أذيال الويلات وتحصد شعير الاغتراب، وهل تصدّق أنني ذات يوم كنت في أحد صفوفها جنديّا؟! " قال شريف.
تنتفض جوارح حامد، وتزهق مفاصله، حتى تكاد تتفصّد، وبخطّيّ بَسْمة، انحدرا على وجهه المواري، أخفى رعبه المكتظّ بين قلبه ورأسه قائلًا : " أردت فتح أسارير نفسي، وقلب صفحة ألمي، وتغيير جوّي، ففعلت ونجحت وها أنا ذا أبتسم، شكرا شريف".
" لا لا إنما قصدت فعلًا ما قلته، وحيث أني شريد في بلاد بعيد, أرى نفسي خفيفة البوح عمّا أحلكها من سوادٍ واضطراب لم يبرحه النعيق, ولعلك تجد في جرأتي شيئا من السلوى، وفي حكايتي نبيذ سكون!
ذات ليلة كنت أوشوش على أحلامي بغيمة حُبلى، خلتها ستمطر عليّ نُدفا ثلجية، لكنها لم تسقني سوى حمّى الموت!
كنتُ أنوي مساعدة قريب لي، انضمّ مؤخراً لجماعة هذه الدولة المزعومة، الدخيلة. فكان السبيل هو الانتماء الغبي الساذج, وفي لحظة خدر الحواس أراني أقبل بالشروط وأنضم لإحدى الكتائب عنوة، إلى حين تمّت تزكيتي من قبل أحد عناصر الدولة، فشكلت رقما وزدت الفتيل أوارً, كنت حينها طالبًا في جامعة الأزهر حين قررت الانضمام لأخطر جماعة متشدّدة في العالم، وكنت قبلها فتيّا عصيّا متمرّدا على حكّام مصر، وشاركت في الاحتجاجات ضدهم، وكان طموحي الأكبر يتمثل في الإطاحة بطواغيت العرب وإقامة دولة الخلافة، هكذا كنت سبّاقًا ولم أكن مبتدئًا في العهر السياسي. اخترت سوريا على وجه التحديد لأن الشام كانت المكان الذي يجتمع فيه المجاهدون- أتباع التنظيم الجديد – ويتفقون على مآربهم، ويتأهبون لإعادة فتح بلاد المسلمين(كما يزعمون)!
هذه الدولة فيها من الوزارات والدواويين ما يكفي، وكذ الجيش جزء من أركانها، هناك كتائب وسرايا كأي جيش في العالم.
في كل يوم كانت لي محاولة جاهدة مع ابن عمي(مدحت) في أن يرتدع عن هذا الطريق وأن لا يسقط في جرف هلكتها، لكنه يتبجح رافضًا، معللا بإيمانه الكبير بمبدئهم العقيم، وأن رايتهم السوداء العجفاء ستنبت سنيّ النصر!
كنت على ثقة أنه لم يمسّني بأذى وبيننا صهر ورحم(فأنا زوج لأخته)،
سنحت لي فرصة المكث بين صفوفهم في التّعرّف على الكثير من خططهم المستقبلية، وكذا بعض اعترافاتهم عن سوابقهم المخزية، فقد انتشر هذا التنظيم بشكل ملحوظ في كانون الثاني تحت قيادة زعيمهم الأكبر(أبو السويداء)، الملقب ب(المُرّ الآني).
أخبرني قريبي ذات مرة عن أنه لن يموت أبدًا بسبب هذا التنظيم رغم خطورة الحركات التي يعملها، وذلك لأنها يحمل( قنّينة النجاة)، صغيرة الحجم، زرقاء المحتوى، ما إن يصيب بللها الجلد حتى تتكثّف هالة حول الجسم تقاوم الطلق والنار.
علمت من رئيسي المصري أن هذ التنظيم يسيطر على مساحات كبيرة من مدينة الفلوجة العراقية، ومما لمسته بعد التعايش أن هذا التنظيم وحشي أرقط دميم، يحارب كل من يخالف آرائه، وتفسيراته الشّاذة، سواء من المدنيين أو العسكريين، ويصفهم بالرّدة والشرك والنفاق ويستحلّ دماءهم الزكيّة!
بعد يأسي من مناصحة قريبي، قررت الفرار، فدخلت خلسة إلى غرفة موصودة، أفتّش عن مفتاح للهروب بإحدى السيارات المتوافرة، ولكن! عبثًا أحاول، إلى أن وجدتني ألمس إسطوانة ورقية طويلة، فتحتها وإذا هي خارطة لخطة قادمة، قذفتها بذهول وانهيار، وإذا بجانبها سجل موصود فيه كل الجرائم السابقة، مما استرقه نظري في عجالة:
(في البداية قمنا بعملية تفجير انتحارية لمساجد يحضرها الشيعة أثناء آداء صلاة الجمعة في كل من مدينة الأحساء، الدمام، القطيف، الكويت.
كما وقمنا بعملية تفجير أخرى في نقطة تفتيش بالسعودية، إضافة لقتل السائحين في تونس، وبعض الأسواق في العراق، نتج عن هذه العمليات مقتل ما يزيد عن 190 مدني، وتم تفجير ست مساجد في اليمن أثناء صلاة الجمعة، في شهر إبريل ومارس، نتج عنه مقتل ما يزيد عن 170 مصلٍّ.)
ما كان منّي إلا أن استحال لوني أزرقًا، واندلع من رأسي – كشرار - التفكير الجاد بالفرار، ولكن أنّى الطريق!
ارتباط قريبي بهذه المجموعة مجنونًا، والهبات التي مُنّي بها قد أزاحت وأطاحت بالقُربى، حتى نسي تماما " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض" ، هكذا ربّاه التنظيم بين مخلبي فتنة وانقلاب، وأوأده في مهد الخسران.
صدّقته حينما احتضنني ذات صباح ليسري إلي خبرًا خلته صادقا فيه، " فكرتُ مليّا بما جئت هنا من أجله، وأني لأرفض الظلم، وسأتجه معك غدًا صباحا إلى حيث عراقة مصر" هكذا قال.
وفي سيارة الهرب، وظنّا منه أنه سيقضي على مرتد، استدار إلي ليقول:" انطق الشهادتين، فسيارتنا مفخخة!!"
لحظات .. وأنا على بُعد أمتار أرى أدخنة متراصّة – غير هامدة - وتحتها جثّة!
حوقلتها: لا حول ولا قوة إلا بالله، سجدتها: حمدًا لله.
عدت لموطني مع بقعٌ داكنة تبللني، من أزرق النجاة الذي اختلسته من حقيبة قريبي ذات يوم،
عدت أزفُّ نبأ أختي الأرمل! وأحتقن جرحها بقبلات اعتذار، وهيهات أن تعذر، سرتُ للخلاص فخلُص بهِ العمر! "
يربّت حامد على كتف شريف الذي لم يتمّ حكايته، بل غرق في لجّة التخيل، حتى غفى وتوسّد الطاولة بينهما!
" شريف، أيها العزيز يبدو أنك مرهق جدا من أعمالك بالمشفى اليوم، قم لترتاح" قال حامد.
"ما رأيك بحكايتي؟" قال شريف. " وأية حكاية؟ بتَرَها الكَرَى الذي غالبك، فقد وصلت لقولك لي بأني سأنال منها نبيذ سكون فسكن صوتك" قال حامد.
معذرة كبرى يا عزيزي، كنت أود القول : بلادنا العربية كانت وما زالت تعتريها أنظمة وعداوات غاشمة ، وقد زارنا بالمشفى أحد سفراء بلدكم وقد كان دكتورا، للاطمئنان على صحة بعض المصابين في تفجير القديح، واللذان نُقلا هنا مؤخرا، هذه فاجعة كبرى حملت ورائها يتامى وأرامل، تأملها تجدها أمضّ مما أنت فيه مع والدك. ردّ حامد: نعم أمضّ(قالها مستنكرا لها في قرارة نفسه).
توكّأ على قدميه مرة أخرى، متعللا بمرافقة والده، مخفيًا علّته، مختنقًا بسموم التنظيم الجديد الذي أدّى لحروب (نفسية) صار ضحيتها والده!
ما فتئ شريف يستغفرعن ذنبه، وما برح فكره يندحي تحت أبواب الخلاص، وعزيمة الانتقام متغربلة جادّة في بتْرِ قرون ذاك التنظيم المعاند. بعد مرور عام، يباغته اتصال ينبأه بموت جده وتحاتّ ورقته، يُسرع وثقل الأسى مقيد لرجليه، فيسقط مرة وينهض أخرى، هو يعلم أن في عروج تلك الروح ستنمو حقيقة! لطالما تعدّت حدود تفكيره المبعثر كلما حاول التنبؤ بها، لكنه لا يفلح. يصل لموطنه، تقام مراسيم العزاء، فيقفز - متذكرا وصية جده - إلى صندق أسود صغير، كان مما جاء في وصية الجد أن يفتح بعد موته، أنفاس شريف بين محبس يهزّ رهافة العظام وبين زفر كنفخ بالون أو خمد فتيل شمعة!
يفتح الصندوق ويعثر على ورقة مكتوب فيها: [اقصد أرض السلطة والحق بركب المخلّص، فهو يقضي على (المُرّ الآني)، ستتجافى مضاجع الظلمة، سيزهر الكون!]
يُحكم قبضة كفيه للأعلى: نعم سيزهر الكون من جديد!
سديم يتكثّف حول نور، حول وسامة المخلّص، يخترقه وبيده لواء نُقشت عليه شهادة وأخرى، قيامة صغرى، وصيحة كبرى، شمس تشرق من مغربها، ونفس زكية تُزهق! رايات وبيارق ثلاث في قبال رايته، ينهيهم عن بكرة أبيهم، أبابيل تساهم بها السماء، وزلازل تقدمها الأرض، تخرج الطبيعة من صمتها، يتفتق الحجر، ينهمر الدم من قصورهم، تسيل أودية فتغرقهم، توأدهم أتربة لطالما حمتهم، أبو السويداء يفرّ كفرعون، لكنه بعين واحدة! وسحابة مدد مُنتظرة تعانق السماء تمطر البساط تلو الآخر، كل منها مطيّة للأنصار، فيهم من استحق البعث لينتقم، ومنهم من لم يمت بعد، شريف مُختار لأن يثأر، على البساط المجاور يسبح حامد، وبصوت واحد من فوق البساطات: المُرّ الآني. كشيطان مرجوم تهاوى. انتهى