الموضوع: الطبيبان
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
8

المشاهدات
1910
 
ياسر السعيد الششتاوي
من آل منابر ثقافية

ياسر السعيد الششتاوي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
83

+التقييم
0.07

تاريخ التسجيل
Nov 2020

الاقامة
مصر

رقم العضوية
16316
01-18-2021, 03:05 AM
المشاركة 1
01-18-2021, 03:05 AM
المشاركة 1
افتراضي الطبيبان
(الطبيبان)
جئت إلى هذه المستشفى كي أعالج ابني، وشدني لها ما سمعت عنها في الفترة الأخيرة من حسن السمعة، فرغم أنها مستشفى خاص إلا أنها لا تتسم بالجشع كسائر المستشفيات الخاصة، ولكن ما أثار انتباهي رغم النظافة الشديدة بها، وإجراءات الأمن المشددة على المستشفى ذلك الرجل الذي يبدو أنه مجذوب أو مريض عقلياً، يدخل ويخرج من المستشفى وقتما يشاء، ولا يمنعه أحد، ولا يتعرض له رجال الأمن رغم ملابسه الرثة، ومنظره البشع، وكان هذا الأمر مما يحيرني، ولكنني لم أهتم بشأنه في بداية الأمر، فقد كنتُ في شغل بمرض ابني عن أي شيء آخر، ولكنني في إحدى مرات الزيارة، وجدت هذا الرجل يتقدم نحوي، وابني جالس على قدمي، ووجدته ينظر لابني بحنو بالغ، لم يخفْ منه ابني، بل أنا الذي خفت من هذا الرجل بشعره الأشعث، وملابسه الرثة، ولكنني لم أغضبه خوفاً من تطور الأمر من ناحيته، فمثل هؤلاء المجانين قد يجدي الرفق معهم أكثر من القسوة، فلو أبعدته أو ضربته، لا أدري ماذا سيفعل؟ وماذا ستكون النتائج؟! لكن ابني مال له، وأراد أن يلعب معه، لكنني منعته، فمسح على شعر صغيري، ثم انهار في بكاء شديد، وكأن ابني قد ذكره بشيء ما، أو ربما أنا من ذكرته بشيء في حياته، لكنه لم يكن مهتماً بي بقدر ما كان مهتماً بابني، وكان في يده رغيف من الخبز، فوقع منه، أخذ الرغيف، وصعد إلى الدور الثاني من المستشفى، وكان دور ابني في الكشف ما يزال بعيداً، فأردت أن أعرف حقيقة هذا الرجل، فأخذت ابني، وذهبت نحو رجل الأمن الذي على البوابة، وأحببت أن يكون الأمر بيني وبينه، كأنها شكوى، فعاتبته على أنهم يتركون هذا الرجل يدور، ويلف في المستشفى كما يشاء، وأنه قد أخاف ابني بمنظره هذا، فرد عليّ رجل الأمن.
ـ لا يستطيع أحد هنا أن يمنعه أو يطرده.
قلت له متعجباً:
ـ لماذا؟!
فأجاب عليّ بإجابة مذهلة:
ـ إنه صاحب المستشفى.
وفي وسط ذهولي قلت له:
ـ هذا!! هذا الرجل!! هل أنت متأكد مما تقول، أم أنت تمزح؟!!
فتبسم ثم قال:
ـ كلما أقول هذا لأحد، لا يصدق، ويظن أنني أمزح!!
وأنا أنظر ناحية الطابق الثاني حيث ذهب:
ـ إن منظره لا يدل سوى على أنه متسول، ولا يعطي منظره أكثر من هذا، لتحل لي هذه المعضلة.
ـ هذا الرجل الذي لا يعجبك، والذي تشمئز منه كان من أكثـــر النــاس أنـــاقـــة، وكـــان يرعــــب الجميـــع هنا في تلك المستشفى.
أغرقني رجل الأمن هذا في قصة هذا الرجل، وفي مأساته، وفهمت لماذا كان يبكى عندما رأى ابني؟ ولماذا كان يمسح على شعر ابني، فلقد كان لهذا الرجل ابن وحيد، تخرج من كلية الطب مثل أبيه، وبنى أبوه له تلك المستشفى الخاص على أحدث طراز بعدما قضى في دول الخليج أكثر من عشرين عاماً، كون خلالها ثروة طائلة أتاحت له بناء هذا الصرح الطبي العملاق، ولكنه كان مادياً جشعاً لا يتهاون في أي أجر، ولا يدخل أي مريض من باب المستشفى إلا بعد أن يدفـــع عشــــرة آلاف جنـيه علـــى الأقـــل كتأميـــن لأي حالة تدخـــل المستشفى، فهو يريد أن يبني مستشفى واثنتين وثلاث......الخ
وفي ذات يوم حدثت لابنه حادثة بالقرب من المستشفى، وسال الدم على وجهه، وأخفى ملامحه، فقد كان ينزف بشدة، فأخذه صاحب تاكسي، وذهب به إلى أقرب مستشفى، فكانت مستشفى والده، ولكنهم رفضوا أن يدخلوا الحالة قبل أن يدفع لهم صاحب الحالة عشرة آلاف جنيه، وهم لا يعرفون من هو الحالة أصلاً، وإن نظروا فلن يعرفوا، لكثرة الدم الذي على وجهه، فلقد تحول وجهه إلى لوحة حمراء، لوحة حمراء كأنها لوحة سريالية، فاتصل صاحب التاكسي بابنه كي يحضر المبلغ المطلوب، وأخبرهم أن الفلوس في الطريق، وأنهم يمكنهم أن يدخلوه، ولكن الاستقبال رفض استقبال الحالة رغم ذلك، فلديهم تعليمات مشددة من صاحب المستشفى بعدم التهاون في هذا الأمر، وعندما أحضر ابن صاحب التاكسي العشرة آلاف من البيت كان قد نزف ما يقارب من عشر دقائق، فقد كان بيت صاحب التاكسي ليس ببعيد عن المنطقة، كما أن ماركة السيارة التي تمت بها الحادثة أوحت لسائق التاكسي أن هذا الرجل من الأغنياء فما المانع أن يدفع العشرة آلاف ثم يأخذها من أهله بعد إنقاذه، ولكن كثرة النزف منذ الحادثة حتى دخوله حجرة العمليات وضعته في موقف حرج، فلو كان دخل بمجرد أن وصل للمستشفى لكان الأمر أيسر، ولكان الأمل في النجاة أسهل، وعندما تم مسح الدم عن وجهه في حجرة العمليات هالهم أن من يحاولون إنقاذه، هو ابن صاحب المستشفى، فجاء الأب كالمجنون، وظل يرتعش، ويرتعش، وبعدها تأكد بنفسه أن فرصة نجاة ابنه ضئيلة جدًا، ثم أعلن جهاز رسم القلب عن توقف النبض، وكانت أمه قد وصلت المستشفى، فأصيبت بسكتة قلبية بعدما سمعت الخبر، أما أبوه فقد ظل في السرير لمدة شهر لا يتكلم، وعندما تعافى بعض الشيء، اكتشف أخوه القهوجي أنه أصبح فاقداً للعقل، فآلت للقهوجي كل تركته، وأصبح أخوه الفقير بالنسبة له المدير الرسمي للمستشفى، وبعدما كان أخوه صاحب مقهى في حي "بين السرايات "أصبح صاحب مستشفى خاص في "الزمالك"، فلقد كان أخوه الطبيب يصفه دائما بالفاشل، ولا ينعته إلا بالقهوجي، إلا أن هذا القهوجي لأنه يعيش في بيئة فقيرة، كان أشد معرفة واختلاطاً بعامة الناس، وأكثر رحمة ورأفة بهم من أخيه بمراحل، وكان يعالج العديد من الحالات بدون مقابل، مما جعل لهذه المستشفى سمعة طيبة، ليس في مصر فقط، ولكن كذلك خارج مصر، وهو الذي أعطى الأوامر المشددة بعدم التعرض لأخيه في المستشفى، وألا ينهره أحد، وأنه كثيراً ما يذهب ليجلس مع أخيه في الدور الثاني، ورغم جنونه عندما يذهب لأخيه يجلسه مكانه على مكتب المدير كما كان، لا يتكلم كثيراً، وإن تكلم فإنه يتكلم كلاماً غير مفهوم، ولكنه إن دل فإنما يدل على شدة حزنه على ابنه، وإن كان في الغالب يبكي أكثر مما يتكلم، ولا يسمح لأحد أن يغير له ملابسه، وأن ينظفه، ويتحول إلى كائن شرس تجاه من يحاول ذلك، وكأنما يعاقب نفسه على ما فعله في حياته!!
كنت في حالة ذهول وأنا أسمع تلك القصة، وكان دور الكشف على ابني قد اقترب، وقبل أن ندخل رأيته نازلاً من الدور الثاني، وكنت أجلس في نفس المكان الذي رآنا فيه أول مرة، وإذ به يتجه ناحيتنا مرة أخرى، فمسح على شعر ابني، ثم بكى، فوقع الرغيف الذي كان في يده، فلم يلتقطه من على الأرض هذه المرة، وهمّ ليخرج من باب المستشفى، وهو يبكي، حتى لقد كدت أبكي على بكائه، ثم نادوا على اسم ابني ليدخل للطبيب.