عرض مشاركة واحدة
قديم 05-31-2012, 08:29 AM
المشاركة 749
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
صياغة الفكر روائياً


* الاحد// 29 / 4 / 2007/ د . علي القاسمي / المغرب


قراءة عاشقة في" شرقية في باريس " للأستاذ عبد الكريم غلاب



صياغة الفكر روائياً:
سعدتُ بمطالعة هذه الرواية الفذّة وهي مخطوطة قبل أن تُطبَع وتُنشر؛ إذ حمل المخطوطةَ إليَّ السيد أحمد غلاب، ابن المؤلِّف البار بأبيه والذي أشرف على أعداد الرواية للنشر. حملها إليَّ كما يحمل المرء هدية فاخرة إلى صديقه. وضعتُها بجانب فراشي لأقرأ شيئاً منها قبيل النوم وأنا مستلقٍ في سريري، ظناً مني أنها مجرّد عمل سرديّ يساعد على جلب الخدر والنعاس إلى عينيّ. ما إن شرعت بقراءتها حتى وجدتني أعدّل وضعيّتي في الفراش لأواصل القراءة قاعداً وبعينين متسعتين اتساع الفضاءات الرحبة التي تحرّكت فيها شخوص الرواية الاستثنائيين، وجرت فيها أحداثها المشوّقة، ودارت فيها حواراتها الفكرية السامقة. ولم أضع الكتاب جانباً حتى أتيتُ على آخره قبيل الفجر.

لقد سيطرت هذه الرواية تماماً على جميع حواسي ومشاعري وفكري وقلبي، بفضل عنصرين توافرا لها, وهما لا يجتمعان عادة في رواياتنا العربية. وهذان العنصران هما: أولاً، الحكاية الشائقة المرويّة بأسلوب مشرق سهل ممتنع مطرّز بتقنيات سردية رفيعة المستوى شديدة التنوع، وثانياً، المضامين الفلسفية والسياسية والاجتماعية والنفسية المثيرة للخلاف الفكري والتي تجعل من القارئ، دون أن يدري، طرفاً في حوار ثقافي راقٍ يتطلّب منه التأمُّل العميق، بل الشكّ في مسلماته وبديهياته ومعتقداته، قبل أن يتقدم بإجاباته بكثير من التردد والوجل وبشيء من الأمل في أن إحساسه يصيب الهدف. إنها عمل إبداعي يرمي إلى صياغة الفكر صياغة روائية، والقارئ يستل منها نفسه بصعوبة شخصاً مختلفاً لا كما دخل رحابها.

سهرتُ ليلة كاملة مع تلك الرواية، لا لأنني كنتُ أتلذذ بحلاوتها العسلية فحسب، بل لأنني كذلك كنتُ أتعلّم منها أشياء كثيرة أجهلها، ومَن طلب العِلم سهرَ الليالي. لقد حملتني هذه الرواية على بساط سحري إلى باريس وجالت بي في ساحاتها الفسيحة، وشوارعها المشجرة المليئة بالتماثيل الفنيّة البديعة والمقاهي الزاهية والمطاعم الفاخرة، وفي حدائقها الغنّاء ومنتزهاتها الفارهة، وفي معالمها السياحية، ومتاحفها الشهيرة، وجسورها التاريخية، ومسارحها النابضة بالحياة؛ لتقودني، بعد ذلك كله، منوّماً تنويماً مغناطيسياً إلى مدرّجات جامعة السوربون، لأتعلّم من جديد فيها على يد أستاذ بقامة عبد الكريم غلاب، وأشارك في حوارات فكرّية هادفة يناظرني فيها عدد من طلاب الدراسات العليا القادمين من أقطار مختلفة وذوي ثقافات متباينة.
ولا يكتفي المؤلِّف بمرافقتك إلى أشهر متاحف العالم في باريس، وهو اللوفر، بل يدلّك على أعظم الأعمال الفنية فيه ويسلط عليها ضوءاً يجعلك تراها بعينين جديدتين. وقفتُ مرات عديدة أمام لوحة الموناليزيا في ذلك المتحف، ولكن لم أشعر بابتسامتها تنساب برقة ونعومة إلى شغاف القلب كما شعرتُ بذلك وأنا أقرأ رواية " شرقية في باريس ". تقول سامية، بطلة الرواية، بعد أن ذهبت حزينة إلى "اللوفر" وشاهدت ابتسامة الموناليزا:

" توقفت قدماي أمام " ليوناردو دافنشي" قادم من إيطاليا ليتربع على عرش الفنانين العالميين وهو يقدّم " الموناليزا"، توقّف تاريخ الفن بعد الموناليزا، ابتسامة تحدّت كل ابتسامة، ارتسمت على وجه امرأة، ارتسمت على الوجه الصبوح في صباه وفتوته، لتعلّم العالم الباكي كيف يبتسم، انتظرتُ طويلاً حتى يخفّ الازدحام، أريد أن تمنحني ابتسامتها لتطرد أحزاني في صفاء وهدوء. تحرّك الركب وما أدري كيف يستمتع متذوق وسط ركب من الزائرين، ما أظن أحداً منهم رحل وفي قلبه الجوكاندة، تصلبت في مكاني لحظات أحسبها طالت محاولة أن أستشف مصدر الابتسامة الخالدة: من العينين المتفتحتين في براءة الطفولة وسحر الجمال؟ من الشفتين المضمومتين المتفتحتين في طهارة مَلَك تدعو إلى قبلة برئية؟ من الخدين الأسيلين في نعومتهما الهادئة؟ من كل ذلك، من غير ذلك، كانت الابتسامة الخالدة.
" وقفت مذهولة كأني أشاهدها لأول مرة، ما أدري كم طال وقوفي؟ لا أدري ما كنتُ أفعل بنفسي؟ كنتُ مأخوذة، حتى مرّت بجانب جميلة لعوب ابتسمت في وجهي ضاحكة:
ـ تحاولين تقليدها بابتسامتك؟ يمكن أن تنجحي...مع الأسف ليوناردو رحل. رنّت ضحكتها. غيبها الزحام، أسعدتني بمعابثتها، أشعرتني أن ابتسامة الجوكندة طبعت ظلالها على وجهي.
" مدينة لك يا جوكاندة، منحت وجهي ظلاً من وجهك.
" منذ متى لم تبتسم شفتاي وعيناي وخداي وقلبي في مرارة الوحدة والعزلة، إلا مع وجه متفتح بابتسامة خالدة..."(ص 112ـ113).

ويستمر عبد الكريم غلاب في رسم ابتسامته الأخاذة بالكلمات، بالحروف، بالأصوات، بإيقاع اللغة، بأنغامها العميقة، مشكّلاً عبارات رشيقة، سريعة، مرحة، تضاهي ضربات ريشة ليوناردو الناعمة على وجه الموناليزا ليمنحها لوناً ومعنىً. ثم يتحول بك ليقدّمك إلى رائعة بكاسو " آنسات أفنيون" , ويمشي معك قليلاً ليقف أمام لوحة " الحاضرة" للرسام الهولندي الشهير "فان كوخ" , وعندما تخرجان من متحف اللوفر تجد أن شهيتك للفن قد تفتحت مثل زهرة عباد الشمس بعد أن يغمرها الضوء، فيدعوك إلى وليمة دسمة في متحف الشمع، أو في معارض الرسامين المنبثة في شوارع باريس.