عرض مشاركة واحدة
قديم 05-31-2014, 05:45 AM
المشاركة 1171
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ....العناصر التي شكلت الروعة في رواية 54- فردوس الجنون احمد يوسف داوود سوريا

- إذا كانت الرواية تبتدئ العلاقة مع المتلقي ببيان مباشر ، يشكل استهلالاً ومدخلاً، يتيح فهم المنهجية الأسلوبية، ويقدم مفاتيح أولية للدخول في متن النص، فإن هذا الاستهلال يصبح جزءاً لا يتجزأ من النص، ويبنى عليه ما بعده، وتصبح العناوين الفرعية التالية مدخلاً لفهم التنويعات على مستوى التشكيل الخارجي، لكنها تتعلق بالداخل، من حيث أن هذه العناوين تبدو مدروسة على مستوى الإيحاء،

- وعنوان (بليغ ينزلق على قشرة موز)، يوحي بضمير الغائب، بينما نجد أن بليغ نفسه هو المتكلم، ويقدم رؤيته في هذه المسألة (بليغ الحمود ؟ يا إلهي كم يثير قرفي هذا الاسم .....وها أنذا أتأمل فيه كما لو أنه ليس اسمي....قال بليغ الحمود قال )...ويكرر الكاتب الطريقة ذاتها في الفصل التالي ( بليغ في لعبة المطاردة )

- ليؤكد بقاء النص تحت نظره، لا خوفاً من انفلاته، بل ربما لاستمرار لعبة التواصل مع المتلقي، وتذكيره بأن الأمر لا يعدو كونه حكاية، بتقديمه للراوي بنفسه،ثم يتركه يتوجه بالخطاب على طريقته، وبلسانه،

- وتأتي العناوين ( زواريب إمبراطورية الظلال) و(احتفال في شبكة مثقوبة) ثم ( بليغ يبيع الشيطان) ليبين رأي الكاتب بما يحدث، لا كشاهد فقط، بل كصاحب موقف، وليؤكد انفصال النص عن منشئه، وبقاءه على الحياد فيما يتعلق بالسيرورة الروائية،

- فهو يوصّف فقط، وقد يعطي رأيه من الخارج، ساخراً أو ممتعضا،أو مستنكراً ،

- وحتى عناوين ( نفق للدخول إلى متاهة القاتل والمقتول).. و( الفصول والغايات في إعمار العواصم بالقبضايات ) و(أقصر المسالك بين حطام الشرف الهالك)...فإنها تحيل إلى تبعيض الوتيرة الحكائية، وتقديم الفصل بطريقته-أي الكاتب-

- ويحمل العنوان أيضاً إحالة تراثية في ما يتعلق بالسجع، على طريقة واضعي السير في العصور السابقة،

- أما عنوان (طوق الحمامة ) الذي يستعيره من عنوان كتاب تراثي له وجود فعلي، فالغاية منه على الأرجح ، تقديم روح ذلك الكتاب المشهور، بالتماهي مع مجريات الحدث الروائي، وربما البعد الدرامي للعشق في ماهيته، وفي الرواية، وليبين فهمه الخاص للتراث بإسقاط العناوين ذاتها على المستجد من الحوادث الحكائية،

- ويندرج عنوان ( سورة العنكبوت) في ذات الإطار من الفهم ( أن يختطف زمنك منك أو أن يسرق بعضه وأنت ترى وتعجز عن أن تفعل شيئاً فهذا أمر مغيظ إن لم يكن أمراً مذلاً ومع ذلك فأنا الذي مررت في مثل تلك التجربة تقبلتها أخيراًراضياً أو مكرهاً، لكن أن يدخلوك في لعبة تذكر لماضيك الذي لا تتمنى شيئاً قدر ما تتمنى أن تنجح في استمرار الهرب منه...فهذا استخفاف مهين بكرامة الحياة الإنسانية كلها مهما تكن تبريرات ذلك الاستخفاف...)

- ويأتي عنوان ( الزوابع والتوابع في بدء استراحة اليوم السابع) ليعلن من جانبه –أي الكاتب- أن المسائل المشكو منها أساساً ، منذ اليوم الأول لخلق الحكاية، حكاية التاريخ على طريقته، أو حكاية الخلق، وهي على كل حال من التاريخ، مستمرة، ولن تنتهي في اليوم السابع ، يوم الانتهاء من خلق الكون، ويوم راحة الخالق، فهنا ... ستستمر الزوابع والعواصف، كما في الأيام التي ستأتي، ولن ننعم بالراحة على طريقة الإله، أو من كتب ذلك عنه على مسؤوليته،

- أما عنوان ( رسالة الغفران)...المأخوذ بصيغته من التاريخ الأدبي والفكري، فهو تقديم ساخر، لكن ممن ؟ إنه من النفس، فهل هناك أبلغ من طلب الغفران لتاريخ صنعناه بأيدينا؟، وطلب الغفران في حد ذاته، هو إعلان صريح عن العجز، واعتراف بالخطايا، وأيضاً بعدم القدرة على استمرار تحملها، لعل المغفرة تخفف شيئاً من ثقل الأوزار، وربما كان يحمل الاحتمال المقابل، وهو مشروعية...أو ضرورة المساجلة في طبيعة عملية التصفية والحساب الأخير، وهل من المؤكد نزول العقاب بمستحقه في وقت من الأوقات؟، أو وصول الثواب إلى مستأهله؟ وحتى طريقة تناول الحسنات والسيئات في الموازين والمكاييل، وأشكال العقاب والثواب...كما تمت الإشارة إليها في رسالة المعري الخالدة، والتي يحيل إليها الكاتب بالقطع،

- ثم ينهي الكاتب فصوله بعنونة الفصل الأخير ب (بقايا من سيماء الجنون)...ليقرر أن الجنون لم تنته فصوله، وإن مجمل التحولات الدرامية في النص ،لم يكن لها أن تنتهي بحالة مختلفة عما بدأت به، وأن الحكاية ليس من شأنها أن توصل القارئ، أو حتى الكاتب، إلى ما يرغب به، فهذا هو الواقع، ولا نستطيع من جهتنا التدخل لتغيير الصيرورة، من حيث هي نتائج لمقدمات ربما .

- فردوس الجنون للروائي الأستاذ أحمد يوسف داؤود ، علامة متميزة في مسيرته الإبداعية ، خصوصاً على مستوى التكنيك الذي أسس له في ما سبق من أعمال روائية ، واستكمل بناءه في هذه الرواية ،

- فابتعد عن السرد الملازم لإيقاع الزمن، واعتمد التقطيع، والانتقال من الراهن المضارع ، إلى الزمن المفترض أو المضمر، في حركة توحي بعدم التحديد ، وتشي بتقلقل الحياة، وعدم يقينيتها، وتبرر قراءة الداخل بواسطة الخارج،بدلاً من العكس، بافتراض الحلول في الذوات المختلفة ،

- وتقويل الشخصيات ما يجول في فكره هو بأسلوب مزج السرد بالمونولوج، مع الاعتماد على الضمير المنفصل عنه، والمشتق من الأنا الداخلية للذوات، فلا ينكرها ولا يؤكدها، ويكتفي بمساواتها مع الضمائر المخاطبة، مما يحيل إلى الحيادية التي تشي بمصداقية المقول المفترض...

- لا الحدث بحد ذاته، بل كإمكانية حدوث، في محاولة لتعميم الرؤية الجمعية ( أنا الذي أتفرج عليّ من فوق ) وأيضاً ( ضحك أنا الذي يمشي ) و ( رأى أنا المقيد المتفرج ) ...فهل هناك أكثر حيادية في تناول الأنا ؟

- إنها حالة من حالات التشخصن التام، لأن استقراء الجنون ، هو بحد ذاته عقلانية تحيل إلى الواقع، وإن كان تعميم حالة الجنون يوحي بالسلب، إلا أنه يفيد الإيجاب من حيث الإحالة، وهو وإن كان يحمل على الاعتقاد بعدمية الواقع أو عبثيته، إلا أنه يعمق الشعور بأهمية الواقع المعقلن الذي يستمد منه الفكر عقلانيته.

- فردوس الجنون، هي في الواقع أكثر من رواية، ولعلها الشكل الذي يمثل إرهاصاً بمستويات فنية وإبداعية مستقبلية،

- أسس لها الكاتب على مستوى الشكل والموضوع...الداخل والخارج، وروايتنا هي اختزال للعالم في فكر كاتبها، وموقف منه أيضاً،

- ويتضايف كل من التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم النفس واللغةواللاهوت... بالإضافة لحضور السياسي والاجتماعي والثقافي بشكل لافت ، في تشكيل جديد ومستحدث،

- والكاتب إذ يقدم كل ذلك في عمله ، فإنما يقدم نفسه...أو بعضاً منها. وربما كانت هذه هي فلسفة الكاتب الحياتية التي يريد منا التعرف إليها، أو ما يريد الكاتب أن يوصله، وبهذا تظهر الرواية كخط دفاع عن الوجود ...وجود الكاتب في نفسه وفي الآخرين الذين يحيا بهم ومعهم .
اللوحة من أعمال : غيث العبد لله