عرض مشاركة واحدة
قديم 03-06-2016, 04:05 PM
المشاركة 48
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


ولا تقل القصص المرتبطة ببئر حارس، الذي لا يبعد عن بئر النخرور سوى خمسمائة متر فقط، لا تقل اسطورية عن تلك التي تتحدث عن بئر النخرور...

فهذا البئر النبع، بئر حارس، عميق ومخيف، ولكن قاعه معروفا لكل من نزل اليه، ويحتاج الانسان ان يهبط عدد 42 درجة مصنوعة من الحجارة الملساء في معظمها حتى يصل الى قعره حيث يوجد حوض الماء مصدر النبع، والذي تظل مياهه راكدة على مدى الأيام التي لا يكون النبع قد تفجر فيها، ويضطر الذي يبحث عن الماء وعلى رأسهم رعاة الماشية الباحثين عن سقيا لماشيتهم أيام الصيف ان يحملوا الماء من تلك المسافة العميقة المنخفضة الي السطح...

وما تلبث ان تتفجر عين الماء الساكنة في الأعماق تلك، ومن ثم تصعد المياه الى الأعلى في مواسم المطر، وتجرى بعد ان يمتلئ البئر الذي هو بشكل بركة سباحة، طولها عشرة أمتار وعرضا لا يزيد عن خمسة أمتار، لكن جدرانها مصنوعة من الحجارة والصخور، وتظل المياه كذلك الى ان تعود نسبة المياه المتفجرة من باطن الأرض الى الانخفاض فيهبط الماء من جديد الى تلك النقطة وهي عين النبع في قعر البئر...

وبئر حارس هذا مخيف وهو فارغ وانا شخصيا لم اجرؤ ابدا على نزول تلك الدرجات الي قعره لأرى مصدر النبع على الرغم من شدة فضولي وشوقي لفعل ذلك، ورغم انني لطالما مررت بالمكان وشاهدت البئر وهو فارغ...

ولكنه يصبح مرعبا أكثر وهو ممتلئ بالماء، ذلك لان الناس ارتبط في ذاكراتهم وساد بينهم قصة اسطورية بأن رصدا يسكن الماء، وهذا الرصد الذي يعتقد الناس انه على شكل خاروف ولا اظن ان أحدا شاهده ابدا، لكنه ليس خاروف كما يدعون، اعتاد ان يأخذ في مواسم عديدة ضحايا له من بين الأطفال الذين يقصدون النبع للسباحة والاستجمام...وكان هذا هو تفسيرهم الوحيد لحوادث الغرق المتكررة للأطفال الذين كانوا يقفزون للسباحة في ذلك البئر المخيف دون رقيب او منقذ كما هو الحال في برك السباحة هذه الأيام...

كما ان الطريقة غير المنسقة او المستوية التي حفر فيها البئر كانت تتسبب في احتجاز بعض من يقصدونه للسباحة حتى يختنقوا...وفي مرة كنت هناك وشاهدت بأم عيني حينما قام أبو زياد وهو من السبيحة المهرة بالقفز الى أعماق البركة، النبع، وكانت قفزة راسية وكان مثل تلك القفزة الأكثر شعبيه ومجال للمنافسة عند زوار النبع...وصرنا نعد له الثواني انتظارا لخروجه من الاعماق، ولكنه وهو السباح الماهر لم يخرج وطال غيابه عن المعتاد...فقفز يومها الى البئر سبيح اخر معروف بمهارته، وهو حسن الصدقي ليبحث عنه في الأعماق في محاولة لإنقاذه... وما لبث ان ظهر وهو يمسك به، ويدفع فيه الى الأعلى، وقد امتقع وجه أبو زياد وصارا ازرقا، داكنا، في مؤشر انه كان على وشك الاختناق، ولولا تدخل حسن الصدقي يومها في اللحظة المناسبة، لاختنق ومات ولربما ظن الناس ان الرصد هو الذي اخذه الى حيث يسكن في الأعماق كما اخذ غيره من قبل...ليتبين بعد ذلك ان أبو زياد المذكور كان قد وصل الى نقطة مظلمة، في الجهة الغربية من البئر، النبع، والتي هي عبارة عن تجويف على شكل مغارة داخلية، ممتدة اسفل صخره كبيرة تظهر بارزة في صدر البئر وهو فارغ، وفقد قدرته على تحديد الاتجاه عندما وجد نفسه في ذلك المكان المظلم، فارتبك ولم يعرف طريق الخلاص من ذلك المأزق وقد اوشك الاكسجين على النفاذ فامتقع وجهه وكاد ان يستسلم للموت المحتم...

وعلى الرغم من كل تلك المخاوف والمخاطر وتلك القصص الأسطورية عن البئر وما يحتويه ويحيط به، كنا إذا ما شاع الخبر بأن نبع بئر حارس قد تفجر، وجرت مياهه...نندفع اليه نحن الصغار مثل جيش أعلن حالة الاستنفار، ونجري اليه بدون رقيب او حسيب او حتى تفكير...وكان الأطفال ما أن يصلوا النبع حتى يأخذون بالقفز في الماء متناسين خطر الغرق والموت حتى ان بعضهم كان يبدأ بخلع ملابسه في الطريق وقبل وصوله للمكان...وقد كانت الحوادث التي اقترب فيها العديد من الأطفال من الموت في ذلك النبع عديدة لا تكاد تعد ولا تحصى...وكان الخطر يظل ماثلا الا إذا ما صدف وجود شخص كبير في السن اتقن مع الأيام والسنوات مهارة السباحة، فيكون هو المنقذ لنا نحن الصغار، ويعمل دون اجر على ذلك ما دام موجودا في المكان...فما كان لطفل ان يستطيع ان يتخلف عن المجموع او مقاومة المشاركة في تلك الطقوس الموسمية السنوية التي هي غاية في الاثارة والمتعة، في أجواء غاية في الروعة والجمال رغم المخاطر المتعددة والكثيرة ...وكانت تتم تلك الطقوس تتم في أجواء احتفالية، بهيجة، وكأن الأطفال في رحلة مدرسية ممتعة وممتدة، تدوم على مدى أيام الموسم الذي يظل فيه النبع جاريا وتظل الامكانية للسباحة في حوض الماء ذلك قائمة...

وما كان والدي ليمنعني من المشاركة في تلك الطقوس رغم حرصه الشديد بأن لا يصيبني الاذى...فما كنت لاحتمل سخرية اقراني وقد اخترت ان اكون من الخوالف...لكنه كان قد صنع لي قربة مثل تلك التي يستخدمها البدو في حمل الماء او الحليب وكان يصر على ان استخدمها في كل مرة انزل فيها الي البئر الى حين اتقان مهارة السباحة...وكنت إذا ما نزلت الماء اضعها بعد نفخها واحكام ربط فمها، كنت اضعها على ظهري واربطها بحبل على بطني، حبل قصير ورفيع ربطه والدي خصيصا لذلك الغرض...وكنت الوحيد من بين الاطفال الذي يستخدم مثل تلك الوسيلة العجيبة المصنوعة من جلد الشاة والتي كانت تشعرني بالامان من الغرق....ولكني وكما اذكر كنت في كل مرة انزل فيها الماء أتصور انها ربما تكون هذه اخر مرة...فماذا عساني ان افعل إذا ما اختارني ذلك الرصد اللعين الساكن في أعماق البئر لكي أكون ضحيته لذلك العام كي يشبع جوعه ويملأ بجسدي النحيل بطنه؟؟؟

وكنت إذا ما ارتطمت صدفة اثناء السباحة بقدم أحدهم، او ربما ببعض الأعشاب التي كان بعض الأطفال يلقونها في الماء، او تلك التي تنبت على جدران البئر وحواف حوض النبع، كنت إذا ما شعرت بشيء يرتطم بقدمي، ارتعب خوفا واصير اقفز في المكان مثل الحبة في المقلى، كما يقول المثل الشعبي، من شدة الخوف والارتباك طبعا، ويذهب ذهني بعيدا بأنني لا بد أصبحت فريسة ذلك الحيوان الأسطوري اللعين الذي يسكن عقولنا ويثر فيها الفزع وان لم يكن يسكن الماء حقا...

كنت اخشى ان أكون ضحيته لذلك العام كما تقول الأسطورة المحلية...ولطالما فزعت لأتفه الاسباب فالمكان ضيق بالنسبة لعدد الأطفال الذين كانوا يحتشدون فيه في لحظة واحدة، واظنهم كانوا يفعلون ذلك بدافع الخوف، لان لا احد كان يجرؤ ربما على النزول الي الحوض لوحده...وبحيث يصبح المكان وكأنه على ضيقه عشا لصغار طير ترتطم ببعضها البعض حينما تتحرك وهي تحاول الانتقال من الجهة الشرقية من الحوض الي الجهة الغربية او من الجهة الشمالية الي الجنوبية، الأطول، والتي تنتهي بصخرة ممتدة يمكن للطفل ان يقف عليها ليستريح قليلا ثم ما يلبث ان ينطلق في مغامرته من جديد...

يتبع...