عرض مشاركة واحدة
قديم 02-29-2016, 02:53 PM
المشاركة 44
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


والصحيح ان الابار كانت من اول مصادر الرعب التي عرفتها في حياتي على الاطلاق، حتى قبل ان اعي الأشياء من حولي وادرك مخاطرها...ولم يكن اول بئر عرفته وخفته حقيقيا، ولا هو محفورا في الارض، ولكنه كان بئرا في تلك القصة اللعينة التي يسقط فيها البطل، بطل القصة المشؤومة، ولا يجد من ينتشله الا فأر يمد له ذيله لينقذه حسب الرواية، وأحيانا كانت اختي تحرف القصة وتضيف لها بعض المحسنات، وتقول حمامته بدلا من ذيله لكي نضحك...

وفعلا كانت ترتسم الابتسامات على شفاهنا، وأحيانا كنا نضحك من أعماق قلوبنا وبأصوات مرتفعة، لكننا وفي حقيقة الامر كنا حين نسمع تلك الحكايات نرتعد خوفا وتتراقص قلوبنا رعبا، ولطالما ترجم ذلك الخوف الي كوابيس ليلة مرعبة عندي، منها واحد ظل يتكرر لسنوات عديدة في طفولتي ولا اعرف تحديدا متى توقف، وكنت اجد نفسي في ذلك الكابوس اسقط من على ظهر السقيفة التي كنا ننام فهيا، اهوي الي الأرض بقوة ويطول زمن سقوطي يطول وكأن الأرض غارت وابتعدت، وما البث ان أفز من نومي مرتعدا مرتجفا اتحسس رجلي استكشف ان كانت كسرت من هول السقوط، واستكشف ان كان ما رأيته حقيقيا ام هو مجرد كابوسا واضغاث أحلام مرعبة؟ واسم ذلك البئر اللعين، بئر خنيفسه وهو نفس اسم القصة اللعينة تلك...

والمصيبة ان اختي وبسبب اميتها، وضحالة ثقافتها، ومحدودية معرفتها بالقصص، والحكايات، كانت تروي لنا نفس القصص نحن الصغار مرارا وتكرار، ومنها تلك القصة، وكانت ترويها لنا في الليل والنهار...ذلك إذا كان في النهار متسعا لرواية القصص، ولم تكن هي مشغولة في الطبخ، والنفخ، والكنس، والغسل، والتنظيف، وبقية الاعمال الشاقة التي تقوم فيها بنت الريف في خدمة الاسرة...

والذي فاقم الأمور سوءا هو انها في كل مرة كانت تقول لنا تلك القصة اللعينة كانت تشير الي بئر حقيقي مملوك لعائلة سمارة يقع الى جانب ارض لنا اسمها المسمد، لتجسد الحدث لنا وتجعله أقرب الي الواقع نتلمسه نحن بأعيننا وكافة جوارحنا، وقد رأيت ذلك البئر في سنواتي اللاحقة، وقد أطلقنا عليه اسم بئر خنيفسه كما في القصة، وكان مهدوما، مهشما من أحد جوانبه وكأنه وحش كبير يرقد هناك فاغرا فاهه لضحاياه، او كأنه مصيدة ضخمة معدة للصيد، ونصبت خصيصا للأطفال مثلي...

وظل ذلك البئر في صورته المخيفة المهشمة فاغرا فاهه الواسع وكانه فاه حيوان اسطوري سنوات طويلة لاحقه، وظل فيها يشكل مصدرا للرعب عندي...وفي كل مرة كنت امر فيها من ذلك الطريق المجاورة له في سنواتي اللاحقة، كان يقتلني الفضول لكي اقترب وانظر في قعره، وظني انني كنت مدفوعا برغبة شديدة للتأكد من عدم وجود بطل قصة اختي في قعره او ربما أحد اخر سقط في غفلة من الجميع، ولم يستطع الخروج فأحاول مساعدته...فاقترب منه ببطء شديد، وحرص لا يماثله حرص ابدا...اتسلق الى هناك منحدرا قصيرا غالبا ما كان مغطى بالأعشاب واغصان شجرة زيتون برية قزمة نمت على سطحه وترك لها الحبل على الغارب، واستمر في الاقتراب لكي اصل الى تلك الفتحة المخيفة، انظر في قعر البئر بوجل وخوف، بل وانا ارتعد وتتراقص قدماي ربما خشية ان يحصل معي ما حصل مع بطل قصة بئر خنيفسه، فلا اجد ربما الا فأرا يمد لي ذيله او ربما حمامته لكي ينقذني...

ثم أصبحت الابار الحقيقة المحفورة في باطن الأرض، وليس ذلك البئر اللعين المتخيل الذي حفرت اختي له مكان في أعماق ذاكرتي، اصبحت تلك الابار الحقيقة والمنتشرة في فناء المنزل وفي المساحة الصغيرة حوله بل وفي كل مكان هي المشكلة، وكأنها فخاخ معدة للصيد أصبحت هي مصدرا للرعب الحقيقي عندي، وكنت أخاف الاقتراب منها، واتجنبها، ولا اعرف متى كسرت حاجز الخوف ذلك وكيف...

لكنني حتى حتما فعلت في سن مبكرة وفي مرحلة ما، وعندما اصبحت قادرا على العمل وانتشال الماء منها بأستخدام الدلو او (الركوة) وهي غالبا علبة حديدية تخزق من طرفين متقابلين ويوضع في الفتحات قضيب حديد او سلك مقوى على شكل نصف دائرة ويربط هذا السلك بحبل بعمق البئر والذي قد يصل الى خمسة او ستة او سبع أمتار او أكثر من ذلك في بعض الأحيان والأماكن...

وكنت إذا ما كلفت بتلك المهمة والتي طالما كلفت بها حتى وانا صغير السن، فالحياة في الريف تتطلب الكثير من الجهد والايدي العاملة...كنت دائما اشيح بوجهي وانا اسحب الحبل وادفع بالدلو الي الأعلى محملا بالماء من الأعماق التي تبدو سحيقة ومخيفة...وكنت شديد الحرص على ان اتجنب النظر في قعر البئر او في الماء خاصة إذا ما كان قريبا من السطح...وكان يلازمني شعورا مخيفا بأن في البئر قوة جذب هائلة لديها القدرة على سحب الأطفال، وكنت أكثر ما استشعر بذلك الشعور إذا ما كنت على البئر وحدي وليس برفقة أحد...

كان ذلك العمل مصدر شقاء لي في طفولتي وحتما لبقية افراد اسرتي...فقد كانت الحاجة الي الماء كبيرة جدا وملحة، لري المزروعات او سقي الحيوانات او للغسيل والتنظيف وتطهير الثياب والاشياء...وهذه وحسب طقوس والدي كانت مهمة مقدسة...تتطلب الكثير من الماء، فقد كان والدي حنبليا متطرفا في ممارسة طقوس التطهير بحرفية تامة، ويصر على ان يتم تسبيع الملابس بعد تنظيفها فالطاهرة عنده التسبيع وليس فقط النظافة، وهذا يعني ان يتم صب الماء بسخاء عليها سبعة مرات كي تطهر، ويشمل ذلك كل قطعة قماش، او ملابس او أداة يشك انها ربما تعرضت للنجاسة، ولكي تصبح طاهرة وقابلة للاستعمال من جديد...
واذكر انه كان يعتبر من يطهر الملابس بغير تلك الطقوس، أي ان يقتصر على ثلاث مرات بدل من سبعة مثلا، بانه آثم قلبه، ولم يقم بما هو واجب، ومقدس...وكان يشير بهذا الخصوص الى احدى العائلات في القرية، والتي كانت تطهر على الطريقة الشافعية، أي انها تكتفي بثلاث عدات بدل من سبعة، على انه لا يطهر لها شيء وربما اخرجها من الملة...

وظل البئر بشكل عام مصدر خوف لي أحاول ان اتجنبه، واحرص كل الحرص على ان يظل مقفلا، وانظر اليه وكأنه مسكون بالجن او بقوى خفية تترقب الناس لكي تزل اقدامهم فتسقطهم وتفترسهم...وقد تعودت لاحقا وطوال حياتي ان أقوم على تفحص مدى احكام اغلاق غطاء أي بئر اصدفه في طريقي، وان لم يكن مقفلا بصورة محكمة وبقفل حديدي او على الأقل بسلك حديد يصعب على الأطفال الصغار العبث فيه، أقوم على وضع الحجارة الثقيلة عليه كي لا يسقط فيه الأطفال الصغار...



.

يتبع...