عرض مشاركة واحدة
قديم 02-28-2016, 02:58 PM
المشاركة 43
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


كان الماء مصدرا للتعاسة والشقاء في الريف الفلسطيني في خمسينيات، وستينيات القرن الماضي...وكان الناس في قريتنا يعتمدون في معظمهم على مياه الامطار، التي كانوا يجمعونها بشق الانفس في الابار الرأسية المحفورة في باطن الأرض، وكانوا يسمونها بئر النجاصة لأنها بعد حفرها تكون على شكل حبة الاجاص، رفيعة من ناحية القمة والرأس وعلى سطح الارض، وواسعة من الأسفل والقاع وفي باطن الأرض...

وكانت هذه الابار منتشرة في كل مكان بعضها في البراري ومنها بئر بادي وهذا الرجل صاحب البئر واسمه بادي كان حجارا وحفار آبار استغل مهارته في حفر الابار فحفر في ارضة البعيدة بئرا كان الناس يلجؤون اليه في مواسم الشلتوني قليلة المطر، وعندما تنضب الابار القريبة، والكثير منها كانت تحفر في ساحات المنازل، وبعضها داخل البيوت...حتى ان عددها في محيط منزلنا القريب فقط، وفي مساحة لا تتجاوز الدنم الواحد او الاثنين على اقصى حد كان يتجاوز العشرين بئر...

وحتما كانت هذه الابار تتسبب في الكثير من الرعب، والخوف للناس، فقد كانت مثل فخاخ قاتلة منصوبة ومنتشرة هنا وهناك جاهزة للقتل، وكثيرا ما كانت تصطاد الناس وتقتل بعضهم...وغالبا ما كان يسقط فيها الأطفال وتؤدي ببعضهم الى الموت البشع...حيث يختنق الطفل غرقا إذا ما كانت ممتلئة بالماء الذي هو مصدر لكل حياة...ويموت بصورة أبشع إذا ما كانت فارغة...

ولقد شكلت هذه الابار مصدرا للخوف الرهيب لي اثناء طفولتي المبكرة وما تزال، ولا بد ان الابتعاد عنها كان واحدا من الوصايا العشرة، التي ظل الاهل يكررونها علينا حتى أصبح الخوف منها محفورا في الصدور والقلوب والعقول...

والبعض الاخر من الناس كان يعتمد على مياه الينابيع البعيدة عن القرية، والتي كان يتطلب احضارها الي المنازل جهدا كبيرا...وفي أحيان كثيرة كان الناس يفضلون الذهاب الي عين الماء لغسل ملابسهم بمياه الينابيع بدلا من احضار الماء الى المنازل بوسائل بدائية شاقة وذلك إما بحملها على الرأس في جرار فخارية مخصصة لذلك الغرض، وكانت هذه المهمة للنساء، او بنقلها على ظهور الحمير، والخيل، والبغال وبحيث توضع في براميل حديدية كان الجيش يستخدمها في تلك الأيام...ولكنها كانت تجد طريقها الى الناس...وكانت تنقل الي المنازل في رحلات مكوكية عديدة تستغرق وقتا طويلا من حياة الناس، وتستهلك الكثير من طاقاتهم...وكانت هذه في الغالب مهمة الرجال في التحميل والتنزيل بينما يلعب الأطفال دور السايس للحيوانات التي تستخدم للنقل...

واحد هذه الينابيع التي كان يؤمها الناس أيام الجمع والعطل الرسمية او كلما كان ذلك ممكنا...ويسمى بئر حارس وهذا النبع يبعد عن القرية ما لا يقل على ثلاثة كيلومترات، لكن الوصول اليه كان يتطلب المسير في طرق جبلية وعرة وخطيرة...يقال انها في مرة تسببت بسقوط جمل تزحلق على صخورها الملساء واضطر صاحبه لذبحه وبيع لحمه في القرية...

ولهذا النبع معي قصة محفورة في الذاكرة وهي اشبه بقصص أفلام الرعب، ففيه تعرضت لاحد الزلازل التي هي من مقياس عشر درجات على مقياس رختر...وقد مرتت فيه بتجربة مرعبة اقتربت فيها من الموت المحقق...ولم يكن يفصلني عنه الا ثواني معدودات...لينطبع أثر تلك التجربة المرعبة في أعماق ذاكرتي...وما تلبث ان تطفو على السطح في كل مرة اجد فيها نفسي في حوض ماء مثل بركة السباحة او البحر...فقد أصبح الماء بالنسبة لي بعد ذلك الزلزال بعبعا مرعبا، ومصدرا للخوف الرهيب على أثر تلك التجربة المريرة... والصحيح انه وعلى الرغم من كل محاولاتي للتخلص من ذلك الشعور المخيف الا انني فشلت فشلا ذريعا في هذا الخصوص... وظل الماء وما يزال مصدرا للخوف والموت بالنسبة لي...وسوف اعود لتفاصيل تلك القصة لاحقا وفي حينه...وضمن ذكريات فترة المراهقة والشباب...

ولم يكن أحد يدرك في تلك الأيام على ما يبدو بأننا كنا نعيش فوق بحر واسع، شاسع عميق من المياه الباطنية العذبة، على الرغم من وجود مؤشرات على ذلك، كانت تتمثل في كثرة عيون الماء والينابيع المنتشرة في منطقتنا، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى...منها عشرات الينابيع الجارية في وادي قانا، وعشرات أخرى في وادي المطوي...وكنا نعثر في مجاريها على اسماك صغيرة وهو ما يوحي بأنها كانت ممتدة ربما لتصل الي البحر الأبيض المتوسط...او ربما تأتي من بحر من لون اخر مظلم ربما، ويقبع في باطن الأرض، ويلفظ ما يزيد عن حاجته من الماء في مواسم الشتاء فتتفجر الينابيع وتتدفق ماء سلسبيلا...وتحمل معها بعضا من تلك الكائنات العجيبة التي لا بد انها تعيش في العتمة هناك في الأعماق!؟

وكانت هذه الاودية غنية بالمياه الجوفية تجري مياهها على مدار السنة...وهي لا تبعد عن قريتنا سوى ثلاثة، وخمسة كيلومترات، أحدها في الشمال، ويتبع أراضي قرية ديراستيا وهو وادي قانا، والأخر في الجنوب ويتبع أراضي قرية سلفيت وهو وادي المطوي، اما الأراضي التي تحيط بهذه الينابيع الجارية فهي من أجمل مناطق فلسطين الخضراء، وهي غنية بالبيارات وأشجار الحمضيات...حدائق بهية ذات بهجة، وكأنها جنان تسلب الالباب...

وهناك أيضا ينابيع تكون ساكنة في فصل الصيف، ولكنها ما تلبث ان تتفجر في مواسم الشتاء، وهي منتشرة في أماكن كثيرة ومنها بئر حارس والذي اختبرت فيه تجربة القرب من الموت، وبئر قرية مردا المجاورة، وعين سميتا، وغيرها الكثير من الينابيع التي كانت تتفجر، وتجرى في مواسم الخير والمطر، وما تلبث ان تختفي في بداية موسم الصيف...

وهناك ينابيع كانت تتفجر في مواسم الخير لكن أصحاب الأراضي التي كانت تتفجر فيها تلك الينابيع كانوا يحاولون إخفاء امرها حتى لا تتحول تلك الأراضي الي أملاك عامة...والمهم انه لو ان واحدا فكر في استخدام يديه لحفر الأرض في مكان مناسب حيث العيون التي كانت تتفجر منه تلك الينابيع في فصل الشتاء فلربما كان سيتفجر منها ينبوعا يجرى نهرا فياضا، رقراقا يغنى الناس ويوفر لهم حاجتهم من الماء، ويجنبهم كل تلك التعاسة، والشقاء، والجهد اللانهائي للحصول عليه...

ولقد ظل الناس على ذلك الحال يعانون شق الانفس للحصول على الماء، الي ان جاء الجراد فحفر الأرض وأستخرج الماء من باطنها بأدواته الثقيلة وادواته الحفارة فتفجر منها الماء رقراقا صافيا سلسبيلا وافرا عذبا نقيا...فشرب واسقى لكنها كانت قسمة ضيزى يحصل هو منها على تسعة اعشار وسكان الأرض الأصليين على اقل من العشر لكنهم لا يحصلون عليه الا بعد دفع ثمنه...



يتبع...