عرض مشاركة واحدة
قديم 02-23-2016, 02:38 PM
المشاركة 42
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ويمكن الجزم بأنه أينما وجد القمل وجد أيضا البق والبراغيث، فهذه الحشرات تشارك الناس في مساكنهم...صحيح اننا قليلا ما نراها لكننا نحس بها، ونستشعر بوجودها...احيانا من خلال حركتها المتسللة على اجسدنا...حيث تترك احمرارا، وأثرا لامعا ومؤلما ولو كان بسيطا...فتتحرك على أثره أصابع ايدينا بصورة غريزية، وتلقائية لحك المنطقة المصابة او المقروصة والتي تكون قد تعرضت للعض، والقرص والحفر، بحيث تتمكن تلك الكائنات من امتصاص ما تستطيع سحبه من الدماء...

وأحيانا نعرف بوجودها من خلال قفزها امام ناظرينا، إذا أمعنا النظر ودقننا في تفاصيل ما يدور حولنا...والقفز طريقة بعضها في الانتقال من مكان الي مكان...ولولا هذه القدرة العجيبة التي وضعت فيها لاحتاجت ربما لسنوات حتى تتمكن من الانتقال من مكان الي آخر ...

وأحيانا أخرى كنا نعرف بوجودها من خلال الحركات البهلوانية التي تقوم بها القطط في محاولة للتخلص منها...حيث تأخذ تتلوى وهي تحاول الوصول اليها بمخالبها ولسانها وكأنها أصيبت بحالة صرع...او شي من هذا القبيل...

والمخيف ان أجهزة الميكروسكوب الدقيقة أظهرت حديثا بأن تلك الحشرات الدقيقة ونقصد هنا البق، والبراغيث ليست سوى بعض المخلوقات العديدة غير المرئية التي تشارك الناس في مساكنهم...فهناك العشرات من المخلوقات الأخرى التي تم رصدها حديثا بالنواظير قد يصل عددها الي الخمسين حسب ما نشر من معلومات حولها موثقة بالصور والادلة القطعية...وهي أيضا تشارك الناس مساكنهم وتتخذ منها بيوتا لها...وهذه كائنات دقيقة جدا وصغيرة في حجومها...لكنها كبيرة حتما في حضورها وضخمه في مفعولها وأثرها المؤذي، والمخيف، والمزعج، فهي أيضا من مصاصات الدماء، وتتغذى على دمائنا...وتنقل لنا حتما الكثير من الامراض...وتتسبب بالعدوى وانتشار الامراض...

واذكر تماما اننا كنا في تلك السنوات نعاني من الدمامل، وهي أكياس من الدم والقيح الصديد، والتي كانت تظهر بكثرة على ارجلنا...وأحيانا على وجوهنا وباقي نواحي اجسادنا...وبعضها كان يتسبب لنا بشديد الألم خاصة إذا ما ظهر في أماكن حساسة...وكانت هذه الأورام والانتفاخات تعالج بصورة شعبية وذلك بتغطيتها بدهون أسود، او بالبصل المشوي قليلا والذي كان يوضع على الدمل حتى ينضج وينفجر ثم تبدأ عملية تفريغ الدمل من محتوياته القذرة بالشد والعصر بالأيدي وما الي ذلك من طقوس...وحتى يختفي محتواها ويندمل مكانها تماما...لكن اثرها يظل قائما لسنوات عديدة قادمة، وكأنها اصبحت وشما يميز صاحبه... لكنه حتما وشم يذكر صاحبه بماضي مؤلم ورهيب...وما تزال بعض الوشوم من هذا الصنف ظاهرة عندي، وابرزها هذا الذي في وجهي وعلى مسافة قصيرة جدا من عيني اليسرى...ولا بد انني كنت محظوظا انها ظلت سليمة...

والحمد لله ان الله مسخ تلك المخلوقات بتلك الحجوم الضئيلة جدا، حتى ان بعضها لا يتجاوز حجمه حجم الذرة، ولا يرى بالعين المجردة، وبذلك جلعنا لا نرى منها اية ملامح او تفاصيل...بينما جعلنا نرى بعضها وكأنها مجرد نقطة سوداء...بينما حجب أخرى عنا تماما...ولولا ما حدث من تطور في وسائل الرصد والتصوير والمناظير ربما لم نعرف بوجودها بعضها ابدا...

فقد تبين اليوم...وبعد كل تلك الطفرات التي حدثت في أدوات التصوير والمناظير، بأنها كائنات بشعة في شكلها، وبعضها شديد البشاعة، وبغيظة ومخيفة، ولها خراطيم مرعبة، وهي اشبه بأبطال مشهد من مشاهد أفلام حرب النجوم التي ما ان نراها حتى ترتعد فرائصنا ونرتجف من شدة الخوف...

كما تبين انها متعدد الالوان وبعضها مزركش، وجميل، وحتما مثير للاهتمام والدهشة...فهي بمنتهى الاعجاز، والدقة في الخلق والتركيب... وذلك ما أظهرته الصور التي تمكن العلماء من تصويرها لهذه المخلوقات والتي احتاجت لتكنولوجيا متطورة بشكل كبير لرصدها ...وتطلبت عملا لعدة ساعات حتى يتمكن المصور من تصويرها واظهرها على حقيقتها وتجسيد ملامحها...

ولو ان هذه المخلوقات كانت بحجم أكبر قليلا، أي بحجم الفأر او الارنب مثلا ...وبانت لنا على حقيقتها وبحيث تبرز لنا اشكالها المخيفة، وملامحها، وافواهها، وانيابها، وقواطعها، وخراطيمها وعيونها التي يبرز بعضها بشكل مرعب على اجسادها لتسبب لنا كل ذلك بذعر شديد ربما لا مثيل له الأرض حتما، وتعجز عن ان تتسبب به حتى اي واحدة من الحشرات السامة والحيوانات المفترسة المخيفة....

والصحيح انه كان لي تجربة مريرة مع حشرات البراغيث المرعبة، لكن ذلك لم يحدث في طفولتي ولا في الريف الفلسطيني، وانما حدث في وقت لاحق من حياتي وفي اجواء صحراوية، ولو ان تلك التجربة المريرة وفي مفارقة عجيبة ساهمت بشكل إيجابي في تغيير موقفي من الزواج، ودفعتني اليه دفعا للتخلص من حياة العزوبية الاشد مرارة والتي اختبرت مرارتها واكتويت بلهيبها في الكويت...في ثمانينيات القرن الماضي ....حيث كنت حينها اسكن مع مجموعة من شباب العزوبية، في شقة جميلة في مظهرها الخارجي، وكانت تلك الشقة الحلم بالنسبة لحياة الشباب قريبة من الشاطيء ومطلة على مياه الخليج العربي، وفي واحدة من أجمل مناطق الكويت، وهي منطقة السالمية، وكان لا يفصلها عن شاطئ البحر سوى اذرع قليلة هي عرض شارع البحر الذي يعتبر واحد من أجمل شوارع الكويت واحد اهم المعالم الرئيسية فيها...

وكانت تلك البراغيث التي روعتني بحجوم كبيرة جدا مقارنة مع اختبرته في طفولتي، وحين اكتشفتها فجأة تشاركني السرير اصبت بصدمة ورعب، ولا بد ان حجومها الكبيرة تعود الي الأجواء شديدة الحرارة في الاراضي الصحراوية...وصدق المثل بحق ذلك السكن اذ يقول "من برا رخام ومن جوا سخام"...وقد كان كذلك فعلا...ولحياة العزوبية شديدة المرارة في الكويت معي قصة مريرة وربما اشد مرارة من قصة العزوبية التي راواها السعدون في روايته ساق البامبو وسأرويها لكم في حينه...ولا شك ان السنوات القليلة التي قضيتها في الكويت كانت عاصفة، ومؤلمة احيانا، وحتما شديدة الدرامية في جوانب منها...وقد لا تصدقون ان الذي حسم امري وجلعني اغادر الكويت رغم حبي لها وتمسكي بالبقاء فيها رغم الزلزال بمقياس عشر درجات الذي هزها وزلزلني وزلزل الكون معها كان لذباب...ولكن تلك قصة اخرى سارويها في حينه...

ولا يمكنني ان انسى الذباب في ريف فلسطين ايضا، تلك الحشرة المنزلية، البغيضة، والمزعجة، والمسببة بالاذى والعدوى بامتياز...ففي طفولتي كان الذباب في ريفنا جزء من حياتنا اليومية، وكان له حضور كبير...وهو بعدة الوان اشرسها الذباب الازرق الذي اكتسب شهرته بانه يستطيع الوصول الي اماكن يصعب على المرء تخيلها، ومن هنا كان الناس يضربون بقدرته المثل بقولهم انه مكان لا يستطيع حتى الذباب الازرق الوصول اليه...والصحيح ان الذباب بكل الوانه واحجامه كان ينغص علينا عيشتنا ويتسبب لنا باذى كبير وقد يكون هو المسؤول عن العدوى التي كانت تصيبنا وليس تلك الحشرات المنزلية الصغيرة...وكان اذا وقع على طعام كنا نرفع ايدينا عنه ولو كان قليلا ولذيذا وشهيا...ولا اظن ان احدا منا لم يكن يحفظ بيت الشعر القائل :
اذا وقع الذباب على طعام........ رفعت يدي ونفسي تشتهه .

ولا زلت اذكر ان والدي كان قد طور وسيلة لطرد الذباب وقتله اذا امكن، وتلك الوسيلة عبارة عن ادة اشبه بتلك التي كنا نستخدمها لقتل الدبابير مصنوعة من الخشب وهي اشبه بمضرب كرة التنس...ولكنه كثيرا ما كان يفضل استخدام اغصان الشجر في طردها من خلال التلويح بها كلما اقترب الذباب...واحب اغصان الاشجار اليه كان شجرة الكينيا ذات الرائحة العطرية، وكان كثيرا ما يحث الناس على زراعة هذه الشجرة الحرجية، نظرا لغنى ازهارها بريحق العسل...وهي تتفتح في موسم الصيف، مما يوفر للنحل رحيقا على مدرا اشهر الصيف التي تجف فيه الازهار الجبلية والبرية...واظنه كان يفضل عسل تلك الفترة والذي كان يسميه عسل الصليب وهو خلاصة رحيق عدد من الازهار التي تتفتح في موسم الصيف مثل الكينيا والصبر والرمان ....

وكان اكثر ما يمارس تلك الطقوس المتمثلة في طرد الذباب، والتي هي اسلوب دفاع عن النفس اكثر منها هواية ، في اشهر الصيف وهو يجلس وقت القيلولة الي جوار ركن من اركان البيت القديم، وبجانب الحديقة المنزلية...في زاوية تلتقي فيها الرياح الشمالية والغربية المنعشه...حيث كنا كثيرا ما نلتقي معه هناك نتسامر ونشرب الشاي...

ولا شك ان اسباب انتشار تلك الحشرات بكثرة ...في تلك السنوات وعلى راسها الذباب يعود الي الاجواء الريفية وكثرة الاشجار المثمرة وروث الحيوانات وندرة المبيدات الحشرية، وقلة النظافة العامة في ظل شح الماء... الذي هو مصدر لكل حياة... لكنه في الريف الفلسطين في تلك الايام كان مصدرا رئيسيا للتعاسة والشقاء...


يتبع ... ذكريات الطفولة المبكرة :