عرض مشاركة واحدة
قديم 11-04-2014, 09:48 AM
المشاركة 1247
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
n راهَنَتْ رواياتك إجمالا ورواياتك البكر تحديدا على التراث اللغوي تنهل من منابعه وتستلذّ ثماره المعتّقة وتنثر عنه غبار الزمن باعثة فيه روحا جديدة تستجيب لإشكاليات المرحلة. فهل ترى أنّ الاستفادة من الموروث هي إحدى الإمكانات المتاحة للمبدع وهو ينسج نصّه أم أن استلهام الموروث وهضمه وتجاوزه هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن ؟‍!!
oo أحتفظ بقولك "إن استلهام التراث، وتجاوزه، هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن". أضع استلهام التراث عند ركن الزاوية. فعلا، فهو حجر الأساس بالنسبة إلى كل بناء جادّ ينشد البقاء. ليس في إمكاننا بناء معلم باق إلاّ باستلهام التراث، والانطلاق منه والنسج على منواله. لكنّ شرط التجاوز من الشروط الأساسية في هذا البناء. انظر الهندسة المعمارية مثلا، تجدها تطبّق هذه المقولة تطبيقا رصينا أصيلا كاملا. لهذا فإنني أعتقد أن النصوص الجيّدة تبنى لا محالة على مزيج من النصوص القديمة المستقرّة، أما البناء من عدم، أو قل "ادّعاء البناء من عدم" فأمر مردود لا يكون أصلا.
وقد يكون من الطريف أن ألاحظ هنا أنّ تجارب الكتابة عندي قد نشأت، أول نشأتها، تراثية صرفا، وليس في ذلك أية غرابة، إن كنت تحت تأثير الكتب التراثية الكثيرة التي طالعتُ في مكتبة والدي، فانبثقت كتاباتي الأولى من قبيل المحاكاة، فـ"الأدب" بالنسبة إليّ هو ذاك ! بالإضافة إلى أنّ والدي الزيتوني لم يكن يعرف مفهوما مغايرا للأدب. أودّ هَهُنا أن توقف بعض الوقت للإلحاح على دور والدي في تكويني، خاصة في المرحلة الأولى، لقد كان معلما فعليا بالنسبة إليّ، معلما في الصرف والنحو، بل في الرياضيات والعلوم الطبيعيّة… قل إنه المعلم الشامل، وكفى. جعلت شخصيّته بقية شخصيات المدرسين في الابتدائي والثانوي تمضي غير ذات قيمة، إلا فيما ندر ! وقديما كان النقّاد حين يكتبون ترجمة أديب أو شاعر يشيرون إلى شيوخه. شيخ شيوخي كان والدي، بتكوينه التقليدي الذي كان يميل إلى النثر، ولا يحفظ من الشعر إلا شواهد قليلة دالة، بالإضافة إلى إشاراته المتكرّرة إلى المعلّقات.
في هذا الباب يمكن أن أقول إن تجربتي في الكتابة تستند إلى طبقات، بل هي طبقات متراكمة : الطبقة التقليدية التي ورثت الأدب عن بداية القرن العشرين [أو قل آخر التاسع عشر] مع جبران خليل جبران وكرم ملحم كرم خاصة، ثم عقبتها طبقات شتّى متنوّعة بدخول الفرنسية في تكويني، وإضافة عوالمها الشيّقة جدا، خاصة عالم السريالية الذي بقي عالما شيّقا جدا، إذ أتاح التعبير عن العقلاني، والتخييلي الاستيهامي في وقت واحد ! في طفولتي كنتُ أسأل نفسي كيف أعبّر عن خيالات الصبا الأول بكيفية رصينة متوازنة، ثم حدث انشطار عندي فصرتُ أميّز بين العالمين… حتى كان كافكا من ناحية، والسريالية الفرنسية من ناحية أخرى، فتمكّنتُ من قول الهجنة التي تسكنني. لذلك تعثر في كتاباتي اليوم [في تناولي لقضايا الحياة والموت والبداية والنهاية والمتعة والألم] عن مزيج غير متجانس بينها جميعا !
n قال بعضهم إنّ بنية نصّك "مدوّنة الاعترافات…" يعتريها شيء من التفكّك على ما في النص من طرافة فكرة وسلاسة لغة وثراء خطاب، بهذا المدى الفاصل بين زمن كتابة الرّواية وزمن قراءتك لها اليوم. هل ترى فيها هذا الرأي أم ترى أن كفاءة التلقّي ما تزال تنفر من الجديد الصادم وتأنس بالقديم المألوف ؟ ألا ترى معي أن الذائقة الرّوائية والإبداعية عموما تكشف عن ملامح الذهنية العربية الشرقية وعن آليات اشتغالها ؟
oo ليس القارئ مجبرا على "رأب الصدع" في البداية كنت أحمله ما لا يحتمل، فأقول إنه ينبغي أن يُسهم في كتابة الرّواية برأب الصدع، أو تصوّر النقائص وملئها. والحق أنني أميل اليوم للإلحاح على أن العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كان فعلا "عملا أول"، بما يتضمّنه ذلك من إشارات إلى البكارة والبداية واكتناز التجربة… لكنه أيضا كان عملا أول من حيث النقائص الكثيرة التي يتضمّنها. كنتُ أوحيتُ فيما سبق أنّ الاستناد إلى التراث بالنسبة إليّ يعود إلى سببين : أوّلهما تكويني وأثر والدي، وثانيهما اختيارٌ معقلن يقضي بوجوب الاستناد إلى التراث. حدث ذلك بإيجابياته وسلبياته. وهنالك مسألة يمكن أن تكون دالة هنا، وهي الاختلاف بين الثقيل المشرقي والتونسي. لقد نشرتُ في القاهرة رواية ومجموعتين قصصيّتين، ويمكن أن أقول أن القارئ المصري، أو قل المتأدب المصري، مطّلع على ما أكتب ويقبله قبولا عاديا، أمّا القارئ التونسي فيميّز بين التراثي في "المدوّنة" خاصة و"غير التراثي" مثلما ظهر في الأعمال اللاحقة.
إلى جانب خياراتي الأسلوبية أحيل على "أفق التقبّل"، أفق التقبّل في مصر – وفي المشرق عموما – يختلف عن أفق التقبل في تونس، خاصة أن أعمالي الأولى ظهرت مباشرة بعد انتشار "الأدب النضالي" الذي لا يعني بالنسبة إليّ أيّ شيء، بنضاليته الفجّة وانغماسه المبالغ فيه في الواقع اليومي المعيش.
n لنبقى مع اللاّئمين، فنذكر لك ما عابه عليك الدكتور مصطفى الكيلاني – بعدما أطنب في الإعجاب بالرّواية – من تجريد فيقول في مؤلّفه : "صلاح الدين بوجاه قد أعاد في هذه المحاولة الروائية طرح إشكالية اللغة الإبداعية في المجال الروائي والمسألة الحضارية معا في زمن نحتاج فيه إلى مثل هذا الطرح بغية إنشاء رواية عربية أصيلة حديثة، ولكنّنا نعيب على هذا الطرح طابعه التجريدي".
هل كنت قصدت ذلك التجريد حتى يكون عملك الإبداعي أفّاقا ومتحرّرا من حمولات الواقع وما يرشح به من إسفاف، أم أنّك كنت تسير في طريق كان قد بدأ تعبيدها المسعدي بأعماله الشهيرة ؟
oo هو بين هذا وذاك في الوقت نفسه. فقد سبق أن قلت إنّ ثقافتي الأولى تقليدية، مما جعل أمامي أفقا تقليديا لقول ما أريد أن أقول. قد يكون الأمر ناتجا عن توازن بين تلك الثقافة الأولى، وسعي إلى التحرر من القضايا اليومية التي تثقل الكائن. أما اليوم فأنا أميل إلى التعبير عن أوسع الرموز وأهمها وأبعدها غورا بأحداث إنسانية بسيطة تطبع الكائن. حياة الكائن مثقلة بها يُتيح الإحالة على الأبعد وأكثر ثراء والأعمق دلالة. في أدب محمود المسعدي نعثر أيضا على هذا الجوار الدال بين ما هو قريب وما هو بعيد، في أدبه يحدث وفاق عجيب بين بسائط الأمور وعظائمها. لهذا نعلن هاهنا أنه مرحلة هامة جدّا في تطوّر الأدب العربي عموما، رغم أنه لم يلقَ الشهرة العربية التي هو بها جدير. المسعدي مشهور جدا من حيث الأسهم، لكن القرّاء في المشرق قلّما اطّلعوا على أعماله. بعض النقّاد طالعوا نتفا من "السد" أو "حدّث أبو هريرة قال" والحق أنه ينبغي اليوم أن نعود إلى أدبه بالكثير من التمعّن على اعتباره مرحلة هامة جدا من مراحل تطور الأدب والفكر.
n يقول عز الدين المدني في كتابه التأسيسي "الأدب التجريبي" : "وما الأدب التجريبي إلاّ مرحلة مؤقّتة وانتقالية ستفضي إلى الأدب الكامل بعد اجتيازها". لماذا طالت هذه "المرحلة المؤقّتة" وطال انتظار هذا "الأدب الكامل "؟ وهل يمكن أن نتحدّث عن جمالية وفنية في العمل الإبداعي خارج سؤال التجريب وألعاب الإطاحة بالسائد ؟
oo مع احترامي للأديب الصديق عز الدين المدني لا أعتقد أنّ هنالك أدبا كاملا. الأدب تجريبي أبدا، أما الأدب الكامل فنسعى إليه ونتوق إليه دون أن يكون وجودا فعليا. "موريس بلانشو" يعبّر عن هذه الفكرة الرائعة للجزم بأن الأدب هو "ما نُقبل دوما على ابتداعه"، الأدب في حركته وتبدله وتطوره وتغيره. من قبيل التبسيط القول بوجود مرحلتين : مرحلة تجريبية مؤقتة، ومرحلة أخرى نهائية ودائمة. على العكس المرحلة التجريبية هي الدائمة عبر ترافد حلقاتها الكثيرة المتعاقبة. ولا أشكّ في أنّ أفضل نص ابتدعه عز الدين المدني هو قصة "الإنسان الصفر"، بمراحلها القديمة والجديدة المنشورة في "كتاب الأسئلة" لخالد النجار. لقد كانت هذه القصة القصيرة قصة رَحِمِيَّةً مكّنت الكثير من النصوص من أن تكون. لهذا أجد لها أثرا فيما أكتب وفيما يكتب إبراهيم الدرغوثي خاصة.
لقد سعت إلى تجريد الأشياء من قداستها، وإلى قول ما يعسر أن يُقال، أو قوله بطريقة أخرى مغايرة، فمثّلت منطلقا حقيقيا للكثير من عيون الأدب اللاحق، حتى "دار الباشا" لحسن نصر تتضمّن فصولا تذكّر بـ"الإنسان الصفر" لعز الدين المدني.
n وضعت عبارة "رواية تجريبية" عتبة تلقّي في "مدوّنة الاعترافات…" وغابت هذه العتبة عن بقية أعمالك الرّوائية رغم أن هاجس التجريب ظلّ يرافق النصوص. هل يعني هذا أنّ التجريب في النص الأوّل كان سؤالا مركزيا بينما تحوّل في النصوص اللاحقة إلى استراتيجية لطرح أسئلة أخرى قد تكون مضمونية ؟!!
oo إشارتك هذه ذكية جدا، إذ تلتقط سمات التجريب وتميّز الموجود منها في النص الأول لمقارنته ببقية النصوص الموالية. مثلما أشرت التجريب جزء من الاستراتيجيا المركزية في صلب النصوص الموالية، إنما لم يعد القضية الأساسية. أما الأسئلة الجديدة فمضمونية. لهذا يُمكن أن أقول إن العمل الأول أعلن إجمالا عن خيارات أسلوبية معيّنة، ثم تأتي الأعمال الموالية لتأكيدها مع تقديم فسحات غرضية مغايرة. فكأنّ الأعمال اللاحقة من قبيل دعم الأصل بإضافات جديدة. لهذا، ومن هذا المنظور أساسا، أقول أنها تنويعات جديدة تدعم الأصل وتُغنيه. أما الأسئلة الجديدة التي تتضمنها فقد سلف أن عبّر عنها محمد الغزّي إذ أعلن أنها أسئلة وجودية، في المعنى العام الواسع.
الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة. الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.
n يتواتر سؤال السبيل في روايات صلاح الدين بوجاه، هل يعيش المؤلّف أزمة الاتّجاه في زمن اندثرت فيه معالم الطريق أم هو سؤال المثقف في كل الأزمنة باعتباره توأم الاغتراب ونزيل غربة دائما وتلك ضريبة "الوعي الشقيّ" ؟!
oo أقول هو "سؤال الإنسان"، فعلا لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.
فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا !
n قرأنا في روايتك "السيرك" عن ظاهرة أكل لحم الكلب أو "غزال السطح" التي تنتشر في إحدى مناطق الجنوب التونسي والتي يُنكرها أهلها، رغم أن التيجاني سبق إلى تدوينها منذ قرون في رحلته الشهيرة. هل في ما ارتكبته شيء من نيّة فضح المسكوت عنه وما يجري في المناطق الخلفية لوجاهة الإنسان المتمدّن وما يعيشه من وحشية ونزعة إلى ارتكاب الممنوع والمحرّم ؟!
oo هي نزعة أثيرة عندي. أهدف إلى كشف المستور وإزاحة القداسة عن الواجهات الهشة التي كثيرا ما تخفي ممارسات شتى خفية، وعادة أكل الكلب من قبل الأفّاقين والمجرمين والسكارى عادة منتشرة في أكثر من جهة، لكن الناس يتستّرون عليها، على أنها من العادات المكروهة. وكم من عادات مكروهة تخفي الباقات المنشّاة والأفعال الموزونة. عادة أكل الكلب يشيع أنها كانت منتشرة في حي "الرحبة" في مدينة القيروان. وهذا الحي قد جمع الأفّاقين وباعة الحشيش والخمر منذ عصور… حتى أصبح أنموذجا واسعا للمسكوت عنه بكل أنواعه. المسكوت عنه، الجنسي والديني والسياسي أيضا من المسائل التي أصبو إلى الكشف عنها ويهتك أستارها. من هذا المنظور يبدو الروائي دارسا أنثروبولوجيا كاشفا منقّبا يُعرّي العورة ويهنك السرّ ويُفضي إلى النقيصة.
الكشف عن النقائص أيضا هدف أسمى يسعى إليه الكاتب، لأنّ وضع الإنسان إزاء ذاته، إزاء حقائقه الأولى البسيطة، هو من أهداف الرّوائي التي ينبغي أن يحتفظ بها ويقدّمها. هذه هي الأهداف التي أتشبّث بها ويعنيني أن أواصل العناية بها بكيفيات مختلفة فيما أكتب. الكتابة في ذاتها تنبع من نزعة نحو إتيان المحرّم، نزعة قصية في أعماق الكائن البشري عموما ! وهل أعتى من الكتابة في مجتمعاتنا هذه التي تعتبرها نسيا منسيا، بل عادة سرية مرذولة مكروهة !
n قرأنا في "السيرك" إصرارا على إقحام العامية التونسية من خلال مجموعة من الأسماء والأفعال عمدت إلى تفسيرها في ملحق/ذيل، هل كنت تختبر لغة المتداول اليومي أم كنت تريد الإيهام بالواقعيّة أم كان دافعك البحث عن تلك الأسلبة التي أعلنها باختين في تناوله للخطاب الرّوائي ؟!!
oo تلك هي الرّواية التي هتف بعد قراءتها الأستاذ بكار : "هذا أسلوب بوجاه !". أقول هذا لأنني فعلا سعيت إلى ترصيعها بألفاظ عامية لخدمة وظائفها السردية أولا، ولاستحضار معجم واقعي تونسي يتماشى خاصة ومعمار الرّواية. الرّواية تُبنى عبر الزقاق والسقيفة والمجالس والمقاصير والمستراقات، وهي جميعا تحيل على المعمار العربي القديم في البيوت القيروانية، وبيوت تونس بصورة عامة، وقد رغبت في اعتماد الكثير من "الأشياء" في تسمياتها العامية الدارجة بيننا تماديا في تصوير الواقع اليومي. ورغم ذلك انتبه "عُتاةُ القرّاء" إلى الأسلوب الخاص بي الكامن في تجاويفها والنابع من بنيتها السردية والملابس لأحداثها. أما مسألة إدراج ثبت يُفسّر العامية فمن اقتراح الأستاذ بكار. ذلك أن النص كان سيصدر ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" مثل نص "النخّاس"، ووضع مقدمة له الأستاذ الصحبي العلاني، وطلب الأستاذ بكار بوضع "معجم" في آخره يشرح الألفاظ التونسية للقرّاء في المشرق العربي. لكن ظروف النشر شاءت بعد ذلك أن يصدر النص ضمن "منشورات دار الأدب" ببيروت، قبل أن أعيد نشره – على كاهل المؤلف – سنة 2002.
n لاحظنا غلبة الجمل الاسمية في روايتك "السيرك" والتي تفيد عادة السكون وانحسار الحركة وهو ما يتناقض مع دلالة العنوان الذي يحملنا إلى عوالم الحركة بامتياز. هل هذه المفارقة بين اللغة والمتخيّل من ناحية وبين العنوان والمتن من جهة أخرى من قبيل المراوغة أم المصادفة ؟
oo غلبة الجمل الاسمية… مجرّد صدفة غير مقصودة، إلى حدّ اللحظة لم أعد إلى النص للقيام بإحصاء غلبة هذا النوع أو ذاك من الجمل عليه. والحق أنني لا أحفل كثيرا بمثل هذه الملاحظات الأسلوبية أو أن الكتابة، لأنها مما يُرهق الرّوائي ويضع الأغلال في أقدامه. قد يكون من مهام النقاد أن ينتبهوا إلى مثل هذا، لكن حركة النص، ودلالات الشخصيات داخله، وأبعاده المعنوية تبقى حرة متحركة بعيدة عن هذا أو ذاك من التفسيرات التي تبقى مجرّد تأويلات.
n تمرّ بنا فصول روايتك من خلال عناوينها من الزقاق إلى السقيفة الأولى فالثانية ثم وسط الدار فالمجلس الكبير ثم المستراق مرورا بالمقصورة لتخرجنا من الخوخة. في هذه العنونة مبرّرات كثيرة لقراءات مختلفة ففيها إشارة إلى وعي الرّوائي بشعرية العنونة، وفيها معنى الاستضافة : استضافة القارئ، وفيها ما يحيل على جمالية المكان، فكأنك تؤثّث فصول الرّواية كما يؤثّث بيت عتيق، فأيّ هذه الدلالات كانت حاضرة في ذهن بوجاه وهو يضع عناوين الفصول ؟
oo الدلالة الأولى نابعة من إعجابي بـ"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف. كنتُ أعتقدُ – ولا أزال – أنه قد تمكّن من ابتداع بنية رائعة بتقسيم روايته إلى شماريخ وعراجين، فرغبتُ في محاكاته بكيفية أخرى إذ عملتُ على استحضار بنية "البيت العربي" القديم بمختلف عناصر عمارته. وأعتقد أنني قد نجحت في لفت انتباه القارئ التونسي والمشرقي. فكثيرون هم الأصدقاء الذين لاحظوا ذلك وتساءلوا عن دلالاته ! لهذا أجزم معك أنها غاية جمالية تلك التي دفعتني إلى استحضار المعمار القديم المساوق للمضامين.