عرض مشاركة واحدة
قديم 09-22-2010, 12:51 PM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ثانيا : الغافلون عن الفريضة الغائبة ..


لو أن الأمر اقتصر على ضياع الإدراك والفهم من العامة لكان أمرا هينا ! .. غير أن المصيبة فى أمتنا أعظم وأشد بلاء بكثير ,
فليس العامة وحدهم هم من يحتاجون ـ كما هى سنة الحياة ـ إلى التوعية من المثقفين والكتاب والمفكرين والعلماء , بل أصبح هؤلاء الزمرة التى تتولى قيادة المجتمع تحمل وصف الخاصة من باب الوصف اللفظى فقط بينما عقلية بعضهم واقعة تحت التغييب بما يفوق أى عامى بسيط ,
وهذه الكارثة التى تعانى منها الأمة اليوم هى كارثة لم تسبق أن مرت بها فى تاريخها قط , لذا فهذا الأمر هو لب التخلف والإستضعاف والتدهور الذى أصاب بلادنا فى عالمنا المعاصر ,
ويخطئ كثيرا من يظن أن تخلفنا تخلفا تكنولوجيا أو عسكريا أو حضاريا أو سياسيا ,
بل هو تخلف فكرى فى المقام الأول وما كانت معاناة الأمة فى جوانب الحياة الأخرى إلا نتيجة مباشرة لهذا التخلف ,
والدليل على ذلك أن باستعراض سريع لتاريخنا البالغ عمره أربعة عشر قرنا نجد أنه تاريخ بدأ ذو خط بيانى متسارع إلى القمة حتى كسر حاجز القمم التى وصلت إليها الأمم السابقة قاطبة وذلك خلال فترة الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية فى عصرها الأول وقسط كبير من عهدها الثانى بالإضافة إلى دولة عبد الرحمن الداخل فى الأندلس
فعبر هذه الفترة الطويلة ملكت دولة الإسلام مشارق الأرض ومغاربها ونجحت منفردة فيما لم تحققه أمة من الأمم حيث أصبحت القوة العظمى الوحيدة فى العالم زهاء ثمانية قرون رغم أن التاريخ الإنسانى المدون لم يعهد انفراد دولة واحدة بمقدرات العالم أبدا بل كانت تسود العالم قوتان أو أكثر فى الغالب
وهى السنة التى استمرت فيما بعد عصر السقوط للدولة الإسلامية حين عادت رياسة العالم للغرب بعد عصر النهضة واستمرت القوى العظمى فى العالم تتوازن بين قوتين فى المعتاد
ثم جاء عصر الدول المستقلة المتحدة أو المتناحرة وهبط الخط البيانى قليلا وإن ظلت الدولة الإسلامية قوية وقادرة برغم تعدد أمرائها
ثم جاء عصر الإنهيار الأول حين انهارت الخلافة العباسية على يد المغول
ووصل العالم الإسلامى من سائر النواحى إلى الدرك الأسفل من التخلف تبعا لأفاعيل المغول التى أطبقت على تراث الأمة ببغداد فأهلكته ثم استيقاظ مصر فى عهد قطز وبيبرس إلا أن الخط البيانى عاد للسقوط بالتناحر
ثم قامت الخلافة العثمانية كقطعة نور فى قلب الظلمة وسيطرت على أوربا وأبادت عمالقتها وفتحت الشمال الإفريقي كله عدا دولة الأشراف الأدارسة بالمغرب والتى مثلت شقيقة صغري للخلافة العثمانية رغم اختلافهما
واستمرت الدولة العثمانية فى فترة الستة قرون التالية على إنشائها عبارة عن مجد جديد أعاد ذكرى سلطان المسلمين على بقاع الأرض حتى بدأ مسلسل الإنهيار والضعف والتفكك وتحالفت القوى الأوربية لا سيما البرتغاليين مع الدولة الصفوية بإيران ووقعت الخلافة العثمانية بينهما من الناحية الخارجية وبين عوامل الضعف الداخلية حتى وقعت الحرب العالمية الأولى وبدأت سيطرة الأوربيين على مقادير العالم

من هذا العرض السريع يتبين لنا عدد من المعلومات التى يجب أن نصححها كمثقفين
لأنها معلومات مغلوطة تسببت فى أن يصبح المثقفون أداة هدم على غير إرادة منهم عندما بادروا إلى اليأس تارة أو الإندفاع تارة أخرى أو دخلوا كما دخل غيرهم فى نطاق الإحتلال الفكرى الغربي الذى سلخهم من حضارتهم بينما ازداد هو تشبثا بحضارته الغاربة ,
وأول هذه المعلومات : هو أن السائد فى فكر البعض أن الأوربيين والغرب بعمومه قد امتلكوا موازين القوى منذ فترة طويلة وهذا غير صحيح فقد سقط الغرب أسيرا للتخلف والإنهيار منذ انهيار الرومان والفرس على يد المسلمين ولم تقم لهم قائمة حتى القرن السابع عشر الهجرى رغم أنهم حاولوا استعادة السيطرة فى فترات ضعف المسلمين إلا أن المسلمين كانوا يعودون من كل فترة انهيار كالعنقاء من بين تلال الرماد فتقوم الدولة وراء الدولة حتى انتهى الأمر للعثمانيين الذين سحقوا أوربا تماما ودمروا كل البناء الذى اعتمد عليه الأوربيون لمواصلة المحاولة لاستعادة حضارتهم
نستنتج من هذا أن العالم الإسلامى الذى ننظر إليه اليوم بنظرة اليأس أفضل ألف مرة فى فترته تلك من حالة التدمير التى عانى منها الغرب لمدة 12 قرن كاملة فى حين أن الإنهيار المعاصر فى الحضارة الإسلامية لم يمر عليه بعد إلا قرنين من الزمان
وإن الدهشة لها محلها فى الواقع من صور اليأس التى نراها بينما أمامنا تجربة الغرب الذى لم ييأس من محاولة النهوض التى فشل فيها فى كل مرة حتى نجح فى المرة الأخيرة
وثانى هذه المعلومات : هى أننا نكتشف من خلال التأمل التاريخى الموضوعى أن المسلمين عبر عمر دولتهم مروا بظروف سياسية واجتماعية وعسكرية أشد ألف مرة مما يمرون به اليوم ورغم هذا كانت لهم الهمة والعزيمة التى تعود فى كل مرة لتنزع الفشل فتقلبه نجاحا مبهرا
فمثلا ,
فى فترة من فترات التاريخ الإسلامى سقط الحجاز تحت سيطرة القرامطة الباطنيين إحدى فرق الشيعة الغلاة وقتلوا بالحرم حجاجه جميعا وتبعوا من فر وانتزعوا الحجر الأسود من مكانه فلبث عندهم مدة ثمانين عاما تقريبا ,
وهذا الهوان الذى عانى منه المسلمون فى ظل تلك الحادثة يفوق كثيرا ما نمر به اليوم , ورغم ذلك جاءت بعده الصحوة والسيطرة
وفى فترة أخرى سقطت بغداد فى أيدى المغول وقتلوا منها مئات الألوف وتركوا الجثث تتعفن فى الطرقات حتى تسببت الأمراض فى قتل من تبقي من أهلها , وبغداد آنذاك عاصمة الخلافة ومستودع هيبتها وقتل الخليفة المستعصم وسائر أهل بيته , هذا خلافا لخزانة كتب بغداد التى أغرقوها فى النهر وعبرت عليها خيولهم
أى أنها كانت حادثة من الممكن أن تتسبب فى تدمير أى معنى من معانى العزة والحماسة ورغم ذلك جاءت فى إثرها الصحوة

فإذا تأملنا هذه الأمثلة وتأملنا واقعنا المعاصر سنجد أننا أفضل حالا كثيرا فلم يبلغ بنا الهوان هذه الدرجة بعد ,
ورغم ذلك لم نستطع أن نقوم بصحوة متوقعة كما هى العادة فى تاريخنا ,
فما هو السبب يا ترى ,
ولماذا عجزنا طيلة قرنين على النهوض رغم أننا نمتلك القدم العرجاء التى افتقدها أجدادنا وهم ينهضون بأرجل قُطعت من منبتها
وبمعنى أكثر وضوحا لماذا مرت بالأمة الإسلامية نوازل عدة تتابعت منذ حركة الردة وحتى انهيار الخلافة العثمانية وكانت كل حادثة منها تكفي وزيادة لتدمير أمة الإسلام واقتلاعها من على وجه الأرض ومع ذلك كان الصمود وكانت الصحوة ,
ونحن اليوم أغنياء بالقوة ومبادئ القدرة ولدينا العدة ولدينا العتاد ولدينا وفرة وافرة وكثرة كاثرة فى المواهب من شتى المجالات ورغم ذلك نمضي من انهيار لآخر !
السبب كما بينا سابقا , ليس من قبيل الأسباب السياسية ولا الإجتماعية ولا الإقتصادية بل هو من نتاج الأزمة الفكرية وحدها والمتمثلة فى عدة نقاط
الأولى : تزعزع الإيمان ووقوع الوهن الذى أخبر به رسول الله عليه الصلاة والسلام فى أحداث آخر الزمان وهو يصف حالنا اليوم وكيف أن الأمم ستتداعى ـ أى ستتهافت ـ علينا كتداعى الأكلة على قصعتها أى كوثوب الجياع على أطباق الطعام ,
فلما سأله الصحابة رضوان الله عليهم أو من قلة يا رسول الله , قال عليه الصلاة والسلام " بل أنتم يومها كثير ولكن كغثاء السيل " أو كما قال عليه السلام
وها نحن نمثل مليار ومائتى مليون مسلم عبر أنحاء العالم وليس لنا أثر ولا مآثر , وتحقق فينا الوهن وهو حب الدنيا وكراهية الموت , والوهن لا يتحقق إلا بتزعزع الإيمان فى عامة الناس ومن ثم فى كبرائهم من المفكرين الذين يقودون تربية الرأى العام
ولولا الإيمان لما نهضت الأمة سابقا فى أزماتها أبدا ,
فالصديق رضي الله عنه عندما نهض لمواجهة الردة وفى نفس الوقت أرسل جيش أسامة بن زيد رضي الله لمواجهة الروم فى تبوك ـ كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام ـ رغم شدة الحاجة إليه فى المدينة فى ظروف اشتعال فتنة الردة والخشية على قلب عاصمة الدولة , كان يعمل وفى ذهنه الإيمان ولم يقدم عقله مع النص الذى أمر به النبي عليه السلام وكان أن مرت الأزمة وعادت الدولة أقوى مما كانت
فتخيلوا معى لو أن حادثة شبيهة بالردة حدثت اليوم بأى دولة إسلامية ولتكن فتنة انقلاب قوية مثلا على نظام الحكم , هل يمكن لحاكم هذه البلد أن يقوم بصد اعتداء خارجى متوقع عليها وهو يعانى انقلابا فى الداخل ! كلا بالطبع ,
فهذا هو الفارق , فارق الإيمان وتقديم وعد الله الذى دفع المسلمين فى أزماتهم جميعا أن يقدموا النص القرآنى والحكمة النبوية ويعملوا بقوله تعالى
" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة "
فلم يقل لنا الله عز وجل أعدوا لهم القوة المكافئة بل قال أعدوا ما استطعتم , ففعلها عمر رضي الله عنه فهز أركان فارس والروم فى نفس الوقت دون أن يلقي بالا لتعدد جبهات الحرب التى هى فى عرف العسكريين مصيدة هلاك لأى جيش مهما بلغت قوته , لكنه الإيمان
وفعلها عثمان رضي الله عنه فى معركة ذات الصوارى عندما أنشأ الأسطول البحري وواجه به الروم رغم أن العرب آخر قوم من الممكن أن نتخيل فيهم خبرة أو معرفة بتكتيك الحرب البحرية وهم فى مواجهة الروم الذين خبروا هذا اللون من المعارك على مدى قرون , لكنه الإيمان
وفعلها العشرات من بعدهم كالمعتصم عندما هاجم عمورية وهى أحصن حصون الروم على الإطلاق , وفعلها قطز فى مواجهة المغول الذين كانوا كالشياطين فى قتالهم , وفعلها بيبرس مع الصليبيين والمغول فى وقت واحد وجبهات متعددة وفعلها المنصور قلاوون فى مواجهة المغول حتى فر جيشه من حوله فبقي وحده فى لفيف من أصحابه لم يتحرك من مكانه سنتيمترا واحدا , فلما رآه الجند على ثباته عادوا لمواقعهم فكتب الله لهم النصر
وفعلها العثمانيون فى القسطنطينية , وفعلتها الشعوب العربية فى معاركها التحريرية من الإحتلال الغربي وحاربت بالعصي فى مواجهة البنادق والمدافع حتى نالت حريتها ,
وفعلتها جيوش الإسلام بمصر وسوريا فى حرب رمضان وأنزلوا بالجيش الإسرائيلي رعبا لم يذقه أحدهم فى أبشع كوابيسه , لأن السلاح الأعظم الذى حمله الجنود فى ذلك اليوم كان سلاح الله أكبر
فعندما تخلينا طواعية بلا إكراه عن مبادئ الإيمان العميق وتراثنا الذى بذل فيها أجدادنا دماءهم ليحافظوا عليه فى مواجهة التغريب أنزل الله بأسنا بيننا فصرنا كما ترون , شعوب محسوبة على البشرية تأكل وتنام وتقرأ الفاتحة للسلطان ! وكل إمرئ منا يقول " وماذا بيدى لأفعله ؟! "
بينما فى يد كل منا ـ لا سيما المفكرين بألوانهم ـ سلاح بل أسلحة لا تعد ولا تحصي , لكنها غير فعالة.
لأن اليأس يقتل عزيمة السلاح ولو كان سلاحا نوويا , والعزيمة ترفع يأس السلاح ولو كان مجرد عصا خشبية
والأسلحة التى أعنيها ليست هى اتخاذ القوات المسلحة ولا الثورات السياسية بل هى أبسط من هذا بكثير ومنذ تركناها حضر ما ترون من الهوان ,
وأعنى بتلك الأسلحة أداء كل فرد واجبه بإخلاص وهذا الواجب لا يتعدى عمله الذى يسره الله له فإذا أداه فقد أدى واجبه , ولو أن كل عالم وكل معلم وكل جندى وكل قائد وكل كاتب وكل مدرس وكل مهندس أعان نفسه على نفسه بالإخلاص لما كان حالنا اليوم كما نراه
فمجتمعاتنا تخلت عن أهم ميزاتها عن سائر الأمم وهى الإخلاص خوف المحاسبة الإلهية لا خوف لوائح القانون
ومع الإخلاص فى العمل الفردى ومراقبة الله سبحانه وتعالى فيه قبل مراقبة القانون , يأتى فرض العين المتمثل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذى جعله الله سبحانه وتعالى علامة هذه الأمة , وجعله شرط دخول أفرادها فى مفهوم " خير أمة أخرجت للناس "
فالآية الكريمة تقول
" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "
وكيف لا والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أطاح بمن قبلنا من الأمم , فالناس عندما تقرأ قصة قوم لوط عليه السلام تحسب النازلة التى وقعت بهم إنما هى من الفحشاء , بينما أصل العقاب لانعدام الخير فيهم وتوقف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإذا اجتمعت الفاحشة بقوم واقترنت بعدم النهى والنصح حل العذاب
يقول الله تعالى عن قوم لوط وعن اليهود " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه "
وهذا الشرط المتروك من معظم الناس يتناسي البعض معياره ومقداره ولا يدرك أهميته التى تكفل للأمة استمرارية البقاء , وفى أحاديث الفتن وأشراط الساعة كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو القاسم المشترك فى التحذير بعد تحذير البدع , وشدد رسول الله عليه الصلاة والسلام فى تلك الأحاديث على مصيبة الأمة فى آخر الزمان التى تبدأ بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتنتهى بالأمر بالمنكر والنهى عن المعروف , وهو الأمر الذى حلت بوادره بالفعل !
ولو تأملنا لعرفنا تلك الشواهد ,
فانظروا كيف يتم النهى عن الإلتزام باسم الحرية , والأمر بالتسيب باسم التقدم ,
وانظروا كيف أصبحت صلاة الجماعة علامة للإرهاب , والتخنث علامة الرجولة , !
وانظروا كيف أصبح الخداع .. فضيلة , والأمانة بعضٌ من قلة الحيلة