عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2011, 10:29 AM
المشاركة 97
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الزيني بركات" لجمال الغيطاني:
بين التخييل التاريخي والتأصيل التراثي
د. جميل حمداوي - المغرب

يعد جمال الغيطاني من أبرز كتاب الرواية التراثية في العالم العربي بروايته "الزيني بركات " 1 إلى جانب كل من محمود المسعدي وبنسالم حميش وأحمد توفيق ورضوى عاشور وواسيني الأعرج وإميل حبيبي وشغموم الميلودي... ويتخذ جمال الغيطاني الشكل التاريخي نمطا للإبداع و التخييل لسد الثغرات ومساءلة الواقع والبحث عن الأسباب و النتائج بالغوص في أعماق الزمن واستقراء لحظات التاريخ و نبش أغواره العميقة واستنطاق ملامح الخارجية. إذاً، ماهي خصائص " الزيني بركات" لجمال الغيطاني المناصية والدلالية ؟ وما مقوماتها الفنية والمرجعية؟
1. البنيــــة المناصيـــــة:
ترتكز الرواية ذات العنونة الشخوصية على الزيني بركات باعتباره شخصية مركزية تحوم حولها الشخصيات الأخرى وتلتقي عندها الأحداث المتشابكة لتصوغ بنية روائية متوترة . وتنبني الأحداث السردية المتعلقة بالزيني بركات على النحو التالي:
أ- تعيين الزيني بركات واليا للحسبة الشريفة بعد إعدام علي بن أبي الجود .
ب- الزيني بركات يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر .
ج- الزيني يخطب كل مرة في المسجد لتبرير ولايته و أعماله .
د- الزيني يعلق الفوانيس في القاهرة .
ه- الزيني ينضم بتنسيق مع منافسه زكرياء بن راضي إلى جهاز البصاصة.
و- حدة الصراع بين الزيني و نائب الحسبة و كبير البصاصين زكرياء بن راضي حول التفرد بالسلطات .
ز- مظالم الزيني بركات و قمعه للرعية لإرضاء السلطان والأمراء.
ح- ازدياد سلطات الزيني بركات الدينية و المدنية و العسكرية على حساب الشعب .
ط- هزيمة السلطان الغوري أمام السلطان سليم قائد الجيش العثماني .
ي- موالاة الزيني بركات للعثمانيين و مساندة الأمير خايربك خائن سلطان المماليك و الخروج عن طاعة الأمير طومانباي.
ك- تعيين الزيني بركات بن موسى محتسبا للقاهرة من جديد في عهد الدولة العثمانية و إحلال العملة العثمانية الجديدة بدل العملة المملوكية القديمة .
و يمكن تكثيف هذه اللحظات السردية في الأفعال الحدثية التالية : 1- تعيين 2- حكم 3- لقاء 4- صراع 5- ظلم 6- خيانة 7- تعيين 8- حكم .
و يحمل عنوان الرواية مفارقة بين الشعار الاسمي (الزيني بركات) و الممارسة الفعلية .فالزيني لقب أطلقه السلطان على موسى بن بركات ليصاحبه مدى حياته دلالة على ورعه و تقواه و تفانيه في خدمة السلطان و امتناعه عن تولية الحسبة إلا بتدخل علي بن أبي الجود باعتباره شيخا عارفا بالأصول و الفروع يمثل السلطة الدينية و الصوفية . و تعتبر تزكية علي بن أبي الجود شهادة كبرى في حق تعيين موسى بن بركات واليا للحسبة على القاهرة. و مع ذلك نجد أن هذا الامتناع الوهمي الذي شاع بين الناس يغطي حقيقة جوهرية و هي أن الزيني بركات اشترى هذا المنصب بثلاثة آلاف دينار رشوة بعد أن تدخل له أحد الأمراء عند السلطان . وبالتالي ، فكل أعماله الدالة في الظاهر على الخير كتعليق الفوانيس وتسعير البضائع ، والضرب على يد المحتكرين والوسطاء و إزالة الضرائب و تثبيت الاستقرار و الأمن .... و التي تزين صورته بين الخلق حتى اعتبر شخصية أسطورية خارقة مثالية ، انقلبت إلى الشر و الظلم و ايذاء الرعية و تخريب بيوت الأبرياء و تعذيب الفلاحين و نشر الرعب و الخوف بين الناس بجهازه الخطير في البصاصة و قمع المثقفين (سعيد الجهيني) والتنكيل بالمظلومين بدون قضاء ولا محاسبة . إنه رمز السلطة القمعية و الإرهاب السياسي و العنف والطغيان و الاستبداد والتضحية بالشعب من أجل خدمة السلطة والمصالح الشخصية.
وقد بني المتن الروائي على سبع سرادقات و مقدمة و خاتمة. والسرادق هو المكان الذي تعقد فيه الحفلات مثل خيمة يجمع فيها الناس، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على التركيب السينمائي لهذه الرواية ، إذ يمكن توزيعها إلى سبع مناظر مشهدية أو فصول درامية إما أنها متعلقة بالمكان (كوم الجارح في السرادق السابع ) أو الشخوص (ظهور الزيني بركات في السرادق الثاني و السرادق الأول و السرادق الرابع ) أو الأحداث (انعقاد مؤتمر البصاصين في القاهرة في السرادق الخامس ...).
و تتوالى السرادقات السبع على الشكل التالي:
- المقدمة: لكل أول آخر و لكل بداية نهاية (12 صفحة)؛
- السرادق الأول : ما جرى لعلي بن أبي الجود و بداية ظهور الزيني بركات بن موسى (شوال 912هـ)؛
- السرادق الثاني : شروق نجم الزيني بركات ، و ثبات أمره ، وطلوع سعده ، و اتساع حظه ( 58 صفحة ) .
- السرادق الثالث: و أوله: وقائع حبس علي بن أبي الجود (56 صفحة )؛
- السرادق الرابع: (بدون عنوان ) (36 صفحة )؛
- السرادق الخامس: (بدون عنوان ) ( 49 صفحة)؛
- السرادق السادس: ( كوم الجارح ) ( 7 صفحات )؛
- السرادق السابع : ( سعيد الجهيني : آه ، أعطبوني ، و هدموا حصوني ...)؛
- الخاتمة : خارج السرادقات : مقتطف أخير من مذكرات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي – 913 هــ ( ثلاث صفحات ).
و تبلغ عدد صفحات الرواية مائتين و سبعا و ثمانين (287) صفحة من الحجم المتوسط. و يتبين لنا أن الغيطاني لم يقسم روايته إلى فصول ، بل اختار السرادقات بمثابة لوحات فنية مستقلة يمكن بسهولة تقطيعها و تركيبها في مونتاج روائي يخلخل السرد ويكسر خطية الزمن واستمراريته الرتيبة لخلق أفق جديد لقارئ الرواية.
و قد أخذ الغيطاني طريقة تقسيم المتن إلى السرادقات من ابن إياس الذي وزع كتابه تاريخ مصر المشهور بـــاسم"بدائع الزهور في عجائب الدهور" حسب السرادقات . أما لماذا اختار الغيطاني ابن إياس دون غيره من المؤرخين لمحاكاته و التخييل من خلال ما كتبه؟ فيرجع ذلك إلى سببين ، الأول : إن ابن إياس كان يتمتع باستقلال الرأي نظرا لأنه ميسور الحال، كما أنه لم يتقلد وظيفة من وظائف السلطنة ، كما أنه كان ينحدر من أصل جركسي ما سهل له الاتصال برجال الدولة و كبرائها.2 و الثاني : أن ابن إياس " ينفرد عن غيره من مؤرخي ذلك العصر في أنه عاش عصرين وشهد أحداث جيلين : أواخر العصر المملوكي و مستهل العصر العثماني . و كان شاهد عيان لما وقع فيهما من أحداث، و تمتد الفترة التي أرخ وقائعها من سنة 872 م /1468هــ إلى سنة 928م/1522هــ "3.
إذاً، فقد اختار الغيطاني كتاب ابن إياس للتفاعل معه حوارا ومساءلة قصد بناء تاريخ حقيقي لفهم الحاضر و ذلك بالسفر إلى قلب الزمن المملوكي لتصوير المجتمع و الإنسان و التاريخ في علاقة بالسلطة لمعرفة أوجه التشابه و الاختلاف بين الماضي والحاضر . ومن هنا، يسقط المبدع الماضي على الحاضر و يقرأ الماضي بالحاضر و العكس صحيح أيضا ما دامت هناك جدلية الأزمنة و تقاطعها وظيفيا و فنيا.
و يستعير جمال الغيطاني من ابن إياس المادة التاريخية المتعلقة بالهزيمة و معركة مرج دابق كما يأخذ منه البنية السردية التراثية لغة و بناء و تركيبا و تفضية و تزامنا . و يقوم التفاعل بين النصين : النص الأصلي ( كتاب ابن إياس حول تاريخ الديار المصرية )، و النص الفرعي ( الزيني بركات لجمال الغيطاني ) على المحاكاة الساخرة والباروديا والتهجين و التناص و الحوارية و المفارقة والمعارضة و السخرية و التحويل و التشرب الإيديولوجي من خلال استعارة التركيب و الصيغ المسكوكة للبنية السردية التراثية . و هو بذلك لا يعيد كتابة تاريخ مصر المملوكية بل يسائل هذا التاريخ و يبين فجواته و ثغراته و يقرأ لا شعور السلطة و خلفيات الاستبداد و يفترض الأسئلة و الأجوبة من خلال منطق الافتراض و التصور و التقدير على الرغم من حقيقة الأحداث و الشخصيات التاريخية و دقة صحة المعلومات الواردة في متن الرواية. و يختلف هذا النمط من الكتابة عن الرواية التاريخية المعروفة كما تقول سيزا قاسم في أن هذا النص : " يقيم موازاة نصية من خلال المعارضة الشكلية اللغوية للنص التاريخي، فجمال الغيطاني يحاكي قول ابن إياس التاريخي ، أي إنه لا يلجأ إلى استخدام " محتوى" تاريخي يصوغه في لغة عصره ، بل ينتقل بنصه الخاص إلى الحقبة التاريخية السالفة"4 . و ترى سامية أحمد أن"الزيني بركات رواية – لا رواية تاريخية – (....) تتناول أحداثا وقعت في عهد السلطان قنصوه الغوري ". 5
هذا، و يصرح الغيطاني في شهاداته أنه لم يكتب " زيني بركات" كرواية تاريخية ، و هي لم تعتبر كذلك رواية تاريخية " في كل اللغات التي ترجمت إليها هذه الرواية سواء في الروسية أم الفرنسية أم الانگليزية، لم يعاملها أحد على أنها رواية تاريخية ، إنما عوملت على أساس أنها رواية ضد القمع و ضد قمع الإنسان في أي زمان و مكان "6. و من ثم ، فرواية ( الزيني بركات ) رواية التخييل التاريخي تستعير التاريخ مادة و صياغة لتحويله إلى أسئلة و أجوبة باستقراء العلاقة الموجودة بين المتسلط والمحكوم من النواحي النفسية و الاجتماعية و الإنسانية و افتراض مجموعة من العلاقات خاصة ما يتعلق بالجوانب الجنسية و الشذوذ و الحب و الإجرام وزيف الدين ، و فهم النواحي الخفية عند السلاطين والأمراء والمستبدين و نقط ضعفهم إلى غير ذلك من الأمور التي لا تذكر في التاريخ الرسمي ، و يركز عليها التاريخ الشعبي والمجتمعي على حد سواء .

استنتاج تركيبي:
و عليه ، فرواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني رواية تراثية تندرج ضمن التخييل التاريخي، وتتخذ من زمن المماليك قناعا رمزيا لإدانة حاضر الستينيات في مصر . و هي – بالتالي- رواية طليعية و جديدة لبنيتها السردية التراثية التي تقوم على خلخلة البناء المنطقي والزمني للأحداث و اللجوء إلى تعدد الرواة و الرؤى السردية والإثراء اللغوي الأسلوبي لخلق رواية بوليفونية ، وتوظيف الوثائق و الخطابات السردية و عتاقة الأسلوب التراثي لخلق حداثة سردية و صوت فني متميز .
ويبدو لنا أن الغيطاني لم يكتب رواية تاريخية حرفية أو موثقة من أجل التوثيق الموضوعي، بل استحضر التاريخ ليسائله و يحاوره ويبرز نقط ضعفه و يحدد الأسباب و يشخص المظاهر ليصل إلى النتائج بطريقة جمالية و فنية رائعة