الموضوع: الحفّار
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
11

المشاهدات
4898
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
05-29-2017, 09:56 PM
المشاركة 1
05-29-2017, 09:56 PM
المشاركة 1
افتراضي الحفّار
الحفار

القصبة على الأرض، في طرفيها وضع حجارتين، أزاحها جانبا، هوى بفأسه على التّراب الصّلب يشقّ أخدودا من الحجرة إلى الحجرة.
كانت الساعة تشير إلى السّابعة صباحا، لم يتناول فطوره بعد، الشمس تركت حجابها وأطلت من وراء الجبل باسمة، منذ ثلاثين سنة يعيش بين الحُفر، يواري الأجساد الثرى و يسدل ستائر مسرح الحياة عند نهاية كل عرض، لم يفرغ بعد من تنظيف بقايا التراب والحصيّات الدّقيقة المتدحرجة من حافة القبر لتستوطن سريره، قضم قضمات من رغيفه وسكب من كظيمته كوب شاي هامسا في نفسه، صدق من قال: " من قام لم يفطر ما عساه ينتظر إلا أن يُقبر" بينما اللّقمات تعبرحلقه سافر ذهنه إلى الموتى، نسي هذا الصباح أن يقرئهم السلام، فأسرع لابتلاع ما يحول بينه وبين إسماع التحية، السلام عليكم أولا وآخرا فأنتم السابقون ونحن بكم اللاحقون، كانت رشفة الشّاي حلوة، نزل دفئها على نفسه المكفهرة منزلا طيبا، تذكر أن عمله أنساه البسملة، بسم الله أوّله وآخره والحمد لله رب العالمين، رجع إلى الحفرة معيدا البسملة التي أهملها من البداية وبمعوله يقذف بقايا التراب خارجها، شبر واحد هو كلّ عرضها، فكّر أن يوسع القبر قليلا، فهذا القادم من طينة خاصّة، لكن حرصه على المساواة في الآخرة منعته، الطول يكبر القصبة ببعض حبات فتهبط وتصعد راقدة بسلاسة، أعاد القياسات فالعمق يجب أن يقف عند الرّكبة على طول اللّحد، اطمأن لعمله وذهب لإحضار صفائح اسمنتية مربعة يغطى بها القبر حتى يُجهّز صاحبه، يجب أن يكون عددها وترا، سوى كل شيء بعناية ومهابة دون أن تهوي حصاة واحدة إلى القاع.
الفقيد صديق طفولته تجمع بينهما أخوة متينة، صلّيا العشاء معا، لا يعاني من مرض يستوجب القلق، ولا ظن مخلوق أنه سيغادر، افتقده اليوم عند الفجر، خمّن أن النوم غالبه وربّما كانت فرصة للإيقاع بصاحبه المجتهد ورميه بالتقصير، فور عودته من المسجد سمع عويلا يملأ بيته، توالت ضرباته على الباب، فتح الشّابّ وخيوط النوم لاتزال قابضة على جفونه، والدّهشة صفعت ملامحه، أجاب السّائل والغصّة رابضة في حلقه: "ربما مات أبي" خفق قلبه، كادت ركبتاه تجثوان عند العتبة، "الموت كلّه" لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، أكّد الشّاب: "انتظر حتى تبكيه أمي وأخواتي، وسترى بأم عينيك" كان الولد محقّا، فصديقه شبع موتا وما أيقظه الصراخ، وما هي إلا لحظات حتّى هبّ الجيران ملبّين واجب العزاء والعجب يوشّح حركاتهم و يتخلّل صريح تعبيراتهم. يمضي الحاجّ علي في استدراكاته: "والله إن الرجل لقويم، وإنّ سلوكه لرشيد، ولا نقول فيه إلا ما عايشناه، لكن الموت باغته، وغدر بأمانيه و آماله في حضور زواج ابنه هذا، وا أسفاه كان وجهه سيتهلّل إشراقا وتغمر السعادة قلبه لو حضر مولد واحد من الأحفاد، أو حتّى قدّم له هديّة أو شاغب لحيته. رحمك الله يا مسعود."
"رحمك الله يا مسعود" هكذا ردّد الحفار مرارا، مسترجعا شريط هذا اليوم الكئيب، يقول الحفار بشيء من التعاسة و عيناه محتقنتان، تنتظران من يدير صنبوريهما لتنطلقا جاريتين: "آه صديقي، ما أنا فاعل بعدك، إنك والله لمخطئ في قرارك هذا، بئس ما فعلتُ، ما كنت لأحفر بنفسي قبر صديقي. كان الأحرى أن أبعد عنه الموت وفعاله."
استيقظ مسعود في الحمّام منتفضا في وجه غاسله، تعالت الزغاريد والصيحات حتى وصلت أذن الحفّار وهو ساه دافن وجهه بين ركبتيه، طفق الشّاب مهرولا جهة إلى المقبرة والبهجة تملأ أخاديد انكساراته، هاتفا: "عمّي عمّي....استيقظ أبي ..." لم يستجب الحفّار لهذا النداء، لا يستطيع أن يفعل وقد لبى النداء.