عرض مشاركة واحدة
قديم 03-17-2024, 12:59 AM
المشاركة 11
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*حركة التغريب تبدأ نشاطها.

هناك ملحوظة هامة دوما ما نلفت نظر القارئ الكريم لها خلال صفحات هذا الكتاب.
حيث أن هدف الكتاب في المجمل، التركيز على نقطة الضعف الكبرى التي كسب بها الغرب سائر معاركه معنا حتى اليوم.
فسيلاحظ القارئ خلال صفحات الكتاب أننا نتحدث عن بداية التخطيط الغربي لاختراق الشرق بأكمله من خلال الحركة الصهيونية.
وأن هذا التخطيط بدأ باستراتيجية عميقة الجذور وبالغة القدم، بدأت منذ بدايات القرن التاسع عشر.
ورغم هذا...
سيلاحظ القارئ أن معظم عناصر الخطة الغربية الموضوعة في ذلك الزمن البعيد، لا زالت تتكرر بنفس السيناريو تقريبا
بمعنى أن الغرب وضع استراتيجية للتعامل مع العرب منذ أكثر من مائتي عام، ورغم هذا لا زالت الخطة صالحة للاستخدام وبنفس الثوابت وبنفس الطريقة دون أدنى تغيير.
وهذا هو العار الحقيقي الذي لحق بنا جميعا.
فنجاح أي خطة خداع مرتين لعدو واحد تدل على الغباء، فما بالك بأن الخصم يستخدم نفس أدبيات المراوغة لأكثر من مائتي عام ولا زالت تؤدي نفس النتائج!
وأسباب هذا الأمر المخجل يعود إلى أن البريطانيين استخدموا عنصرين فقط، لا ثالث لهما للنجاح، وهو نشر التجهيل المتعمد بأدبيات وتاريخ الشعب
والسبب الثاني أنه انتقى العناصر الصالحة للتجنيد والذين عملوا كوكلاء فكريين للغرب – على حد تعبير د. عبد الله النفيسي – وهؤلاء هم الذين قادوا حركة التغريب والعلمنة في مصر والشرق منذ بدايات القرن العشرين ولا زالت أعشاشهم تفرخ جيلا بعد جيل حتى اليوم.
المصيبة أنهم يعملون بنفس الأسلوب، ونفس القضايا ونفس الطريقة ورغم هذا يصادفهم بعض النجاح.
أي نعم أن نجاحهم ليس جماهيريا، بل محدود بطبقة معينة، إلا أن وجودهم في حد ذاته والسماح بظهورهم هو نجاح لهم في الأساس.
فهل تتخيل عزيزي القارئ أن نفس الكلام الذي يُقَال عن المقاومة الفلسطينية واتهامها بالإرهاب اليوم، هو نفس الكلام الذي قيل من قبل عن (عرابي) وأنصاره عندما تصدوا للاحتلال الإنجليزي، ونفس الكلام الذي قيل على من قاوم الحملة الفرنسية!
وهو نفس الكلام الذي قيل عن المقاومة الفلسطينية الشعبية التي قادها رموز المقاومة الأوائل في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وهل تتخيل عزيزي القارئ أن الكلام عن تخلف العرب وحضارتهم وعن ضرورة هجر القرآن والسنة والتحول العلماني إلى مبادئ الانفلات الغربي باعتباره مشعل التنوير للأمة.
هذا الكلام الذي نسمعه في الإعلام بتكرار ممجوج، هو نفس الكلام الذي قالته حركته التغريب منذ عشرينيات القرن الماضي.


وإذا سألت نفسك عزيزي القارئ عن سبب توالد هذه الفئة عبر هذا الزمن ووجود فئة ضائعة العقل تستمع لهم، وعن سبب نجاح الغرب المتكرر في سياسته ضدنا.
فالسبب الحقيقي أنهم راهنوا على تشتيت الوعي القومي بين الناس، وتقزيم كل معاني العلم والثقافة والاطلاع والبحث عن الدليل
فصارت الثقافة الضرورية نخبوية، ينادي بها علماء ومفكرون أخلصوا لقضيتهم ولأوطانهم لكنهم عاشوا تحت قيد الإهمال المتعمد، والحرب الصامتة على إنتاجهم الفكري، بالذات بعد أن انتهى عصر القراءة والاطلاع، وأصبحت أجيال اليوم تعيش ثقافة الزمن الأمريكي الذي أصبح كل شيء فيه يخضع لثقافة (التيك أواي)
فصارت المراجع البحثية مهجورة بعد أن ماتت القدرة على قراءتها، لا سيما وأن الأحوال الاقتصادية المتردية جعلت العقول تلهث بشكل دائم بحثا عن لقمة العيش حتى صارت القراءة والبحث عن الحقيقة من الرفاهية التي تجلب السخرية إذا نادى بها عالم أو مفكر، وكل هذا كان متعمدا وليس من قبيل الصدفة

أما كيف نفذها البريطانيون في مصر أولا.
فالمفاجأة أن خطة التغريب التي نجح فيها البريطانيون، كانت أيضا إنتاجا فرنسيا لم يكتمل وينتظر الحاضنة المناسبة لينمو ويعلو.
فأعاد البريطانيون رعايته بشكل تنظيمي وسياسة مستمرة عند دخولهم إلى مصر.
أي أن بريطانيا لم تنجح فقط في تنفيذ مشروع الصهيونية الفرنسي الأصل وحده، بل نفذت مشروع التغريب الذي بدأ من فرنسا في الأصل.
لكن الفارق الوحيد بين النموذجين أن خطة نابليون الفرنسية لتوطين اليهود كانت مُخَططا مسبقا له أهدافه التي فشل فيها فطبقته بريطانيا.
أما التغريب فقد بدأ من فرنسا لكنه بغير تخطيط مسبق منها بل بسبب المبادرة المصرية نفسها التي بدأت عصر التحديث والتطوير التكنولوجي والتعليمي في زمن (محمد علي).
فقد بدأ محمد علي مشروعه بإرسال البعثات المصرية لأوربا – لا سيما فرنسا وإيطاليا-بغرض جَلْب وتوطين الصناعة والتكنولوجيا في مصر بعد أن اهتم محمد علي بالتعليم وأسس في مصر المدارس الحديثة في سائر المجالات.
والغريب أن (محمد علي) كان قد احتاط من كارثة التغريب الاجتماعي والديني التي قد تلحق بالبعثات، لأن أي سياسي عاقل وصاحب مشروع قومي مثل (محمد علي) كان يدرك تماما أن البعثات العلمية إذا انحرفت عن أهدافها في نقل التكنولوجيا وتوجهت لدراسة الاجتماع والأديان وطبائع الأوربيين فهذا معناه انسلاخ هؤلاء الشباب عن ثوابتهم الحضارية وطباعهم الموروثة وأعرافهم الاجتماعية، بالذات في ظل الفلسفة الجديدة في أوربا التي أفرزت خلافات هائلة بين مختلف الشعوب، وانفجرت الفوضى العارمة في استخدام شعار الحرية بشكل متطرف.

وقد كانت هذه الفوضى ظاهرة طبيعية لأن الثورة الفرنسية جاءت بالحرية للشعب بعد كَبْتٍ طويل واستبداد أطول، فكان لزاما أن تأتي الحرية المفاجئة بالتطرف التقليدي الذي يُصَاحب الانفجار بعد كبت طويل
فضلا على الاختلاف الحضاري الفادح بيننا وبين أوربا.
فالجمود الديني والتسلط الكنسي في أوربا كان سبب تخلفها، لأن الكنيسة طَوّعت الدين لأهداف فئة الحكم وقصور النبلاء.
ولذلك بدأت أوربا عصر النهضة الصناعية في سائر العلوم عقب أن تخلصت من ميراث التخلف الذي ورثته لقرون طويلة وكان يُحَرّم حتى العلوم الدنيوية التي لا غنى عنها كالكيمياء والفيزياء والفلك وغيرها.
ولا أحد ينسى أن الكنيسة حاربت كل اكتشاف علمي يخالف معتقداتها المحرفة، مثل اعتبار أن الأرض هي مركز الكون وأن الكون نفسه عمره لا يزيد عن خمسة آلاف عام، وأن الشمس تدور حول الأرض وأن الأرض ثابتة لا تدور .... الخ تلك المعارك التي نشبت بين العلماء والكنيسة الغربية.

بل إن المجتمعات الأوربية في عصور الظلام عانت من تسلط الكنيسة على أمور الفطرة، مثل النظافة والاغتسال، واعترف مؤرخو الغرب بأن أوربا لم تعرف الاغتسال والحرص على النظافة الشخصية، وأنظمة الحجر الصحي ومكافحة العدوى للأمراض المعدية إلا من المسلمين.
فيحكي (مارك جراهام) في كتابه (كيف صنع الإسلام العصر الحديث) عن عبقري الطب العلامة (الرازي) الذي عالج أمراضا مستعصية كالإدمان وبعض الأمراض المعدية التي كانت وقتها تفتك بالأوربيين، وكيف أن المسلمين نجوا من هذه الأمراض بفضل حرصهم على النظافة والاغتسال واتخاذ التدابير الوقائية الصحيحة لمكافحة الأمراض ومنع انتشارها، تبعا لما تأمر به شريعتهم من الحض على النظافة.
ويضيف (مارك جراهام) قائلا بالحرف:
(بينما كان الاغتسال في أوربا محرما كنسيا، ولم يصبح معروفا حتى عصر النهضة الأوربية عندما اخترقت القيم الإسلامية المجتمعات بقوة)
وبالتالي فإن الثورة العلمانية في أوربا كانت لها أسبابها المنطقية والطبيعية.
بينما الحضارة الإسلامية هي الوجه المعاكس لكل ذلك.
فقد جاء الدين الإسلامي للعرب، وهم مجرد قبائل متناحرة يتسلط فيها القوي على الضعيف، وليس لهم عطاء حضاري في عالمهم، ويغمرهم تخلف الشرك والفُرْقة.
فجاء الدين والوحي الشريف وخلال أقل من ثلاثين عاما أصبحت الجزيرة العربية دولة كبرى ولم يمض عقد من الزمن عليها حتى صارت القوة الأعظم في عالمها واستمر تفوقها كما هو معلوم لعدة قرون.
ومع التفوق العسكري والسياسي انطلق التفوق العلمي كاسحا حتى بلغ في عهد العباسيين والأندلسيين شأوا عظيما وصارت جامعة بغداد وجامعة قرطبة أكبر منارات العلم التجريبي في العالم لعدة قرون" ".
وكانت المعادلة العظمى لهذا التفوق هي الحفاظ على التماسك المجتمعي للشعب، والحفاظ على ثوابت القرآن والسنة، ولم يبدأ الانهيار إلا بعد دخول دعاوى التطوير والتحديث في الخطاب الديني والتاريخي وإدخال الفلسفيات العقائدية واستبدال قوانين الشريعة بالقوانين الوضعية، وقضايا الجدل الفارغ التي كانت سببا في انهيار العثمانيين ومن قَبْلِهم الأندلسيين لأسباب م

الخلاصة.
أن التحكم الديني والموروث الفكري لأوربا كان سببا رئيسيا في تخلفها بعصور الظلام، بينما الموروث الديني والحضاري للعرب كان السبب في خلق حضارتهم أصلا وتطورها.
فجاءت دعاوى التحديث من حركة التغريب لتقيس هذا على ذاك وتزعم أن سبب تخلفنا هو ميراث القرآن والسنة والعلوم والآداب الإسلامية!
وهي محتويات حقيبة التجديد التي أتى بها حامل القبعة لحامل العمامة، بدليل أن تجديدهم هذا مستمر من قرن ونصف ولم يفرز لنا إلا مزيدا من التبعية للغرب ومزيدا من الانسحاق الحضاري والعلمي، ولم نر علمانيا واحدا أو تغريبيا واحدا أفاد أمته بمثقال ذرة ولا حتى بمجرد الاصطفاف الواحد مع باقي الشعب في القضايا الوطنية.
بل خرجوا جميعا للدفاع عن السياسة والثقافة الغربية في المجمل وبمنتهى التبجح خرج منهم من ينادي بضرورة إعادة احتلال الغرب لمصر، وخرج منهم من دعا للاحتفال بدخول الحملة الفرنسية لأنها حملة تنوير، وخرج منهم من دعا لتكريم الخونة الذين اصطفوا مع نابليون ورفعوا السلاح في وجه المصريين، وخرج منهم مؤخرا من اتهم المقاومة الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بأنها مارست الإرهاب ضد إسرائيل، وأن إسرائيل دولة صديقة تحارب المقاومة نيابة عن الدول العربية لذلك يتوجب مساعدتها!
وهذا ما أدركه (محمد علي) وهو يرسل بعثات التطوير العلمي، واتخذ احتياطه منه لأن الأخطر من الانتماء الاجتماعي لأوربا هو الانتماء السياسي الذي سيجعل من أهل التغريب عملاء وظيفيون للغرب ووكلاء عنه.

ونظرا لأن محمد علي كان يُعِد مشروعا قوميا بالأساس، فكان من الطبيعي أن يتخوف من ذلك لهذا أرسل مع كل بعثة طلابية شيخا أزهريا يقوم على متابعة الطلاب ويحرص على بقاء عاداتهم وثوابتهم بعيدة عن التأثر بالانحلال والطبيعة الغربية
ولم يكن ما فعله محمد علي غريبا، بل هو شأن أي أمة تحترم نفسها، إذ أن العلوم نوعان.
النوع المادي أو التكنولوجيا العلمية وهذه ميراث إنساني متبادل ومشترك بين مختلف الحضارات، نظرا لأن العلوم العملية عبارة عن بناء رأسي يتكامل بعضه فوق بعض، ومن الطبيعي أن تساهم كل حضارة بنوع من الاكتشافات والتطور.
والنوع الثاني من العلوم هي العلوم الاجتماعية، وأخطرها الثوابت الحضارية لكل أمة مستقلة ذات تاريخ وشأن.
وهذه عبارة عن بناء أفقي غير قابل للتطوير المادي أو العولمة، لأنه خصيصة من خصائص كل مجتمع، فمن الهزل أن نتصور قيام العالم أجمع على طبيعة اجتماعية واحدة، مع اختلاف الأديان والعقائد والتقاليد.
ولذلك عندما كانت (اليابان) -العريقة حضاريا-تعاني في نهايات القرن التاسع عشر من التخلف التكنولوجي والصناعة الفقيرة قامت أيضا بإرسال البعثات التعليمية إلى أوربا، وأيضا حرصت على حفظ انتماءات طلابها من الأفكار الاجتماعية الغربية، فكانت النتيجة أن عاد هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم إلى اليابان وأشرفوا على نهضتها الصناعية الكاسحة التي بدأت بصناعة محركات السيارات والتي تطورت لصناعة السيارات نفسها، فضلا على الصناعات البحرية.
ولم تدخل اليابان في معترك التقلبات الفلسفية التي كانت تغمر أوربا في هذه الفترة، وكان من نتيجة حفاظ اليابان على ثوابتها وتاريخها وأخلاقها وانتماء شعبها لأرضه وأعرافه، أن تمكنت في سنوات قليلة من منافسة أوربا في الصناعة.
بل إن هذا الانتماء الجذري العميق هو الذي وقف خلف تلك الروح القتالية العالية التي امتصت صدمة الضربة النووية في الحرب العالمية الثانية، فأعاد الشعب الياباني بناء بلاده ومصانعه وامتلك ناصية التكنولوجيا والتفوق الاقتصادي حتى ناطح التقدم الأمريكي نفسه.

وكانت البعثات في عهد محمد علي تقوم بنفس الأمر، إذ لم يرسل محمد علي البعثات إلا في التخصصات العلمية المعملية، وكان يتابع أحوال البعثات متابعة دقيقة وينهاهم بشدة عن الانشغال بأي شيء إلا تحصيل العلوم المطلوبة منهم مع التدريب العملي
لكن البعثات بعد عصر (محمد علي) انحرفت عن أهدافها وتوجهت للعلمانية والتغريب لا سيما عندما بدأ عهد إسماعيل الذي كان حريصا على التغريب في كافة مناحي الحياة.
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه اليابان تنقل التكنولوجيا وتقوم بتوطين الصناعة، كانت مصر على موعد مع أول موجات التغريب التي بدأت من الشيخ الأزهري (رفاعة رافع الطهطاوي) والذي كان –للمفارقة العجيبة-ضمن مشايخ البعثات المكلفين بحفظ عقيدة الطلاب!
فإذا به ينبهر انبهارا رهيبا بالتفلت الأخلاقي الأوربي ويصدر كتابه (الإبريز في تلخيص باريز) مُبْديا إعجابه بالحفلات الأوربية، والاختلاط، وسمات العيش المنفتح بين الرجال والنساء!
ولا أحد ينكر تفوق وعقلية (رفاعة الطهطاوي) ودوره الكبير في تأسيس حركة الترجمة والمؤلفات التي قدمها، وإشرافه على العديد من المدارس التي تم فتحها للتعليم في عصر محمد علي وأولاده.
لكن الكارثة الكبرى أن عقليته المتفوقة هذي حرثت الأرض لموجة تغريب طافحة بعد ذلك، إذ أن مؤلفاته وقناعاته في المجال التربوي والاجتماعي انسلخت تماما حتى عن العرف والأخلاق العامة السائدة في ذلك العصر.
وقد تم انتقاد ومعالجة فكر الطهطاوي من العديد من المفكرين من معاصري زمنه وممن جاء بعدهم، ومنهم الدكتور (محمد حسين) والعلامة (أنور الجندي)، وغيرهم
فيقول الدكتور محمد حسين تعليقا على أقوال الطهطاوي وإعجابه بشعارات الحرية والمساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية:
(إن الطهطاوي لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أنَّ نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده. لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تُمَارس في مختلف صورها وألوانها، وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بَهَرَتْه مائدةٌ حافِلةٌ بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها بعين حِرْمانِه، ولم يرَها إلا صورةً من النعيم الذي يتُوقُ إليه ويَشْتهِيه
ومما يُصَوِّر لنا التَّغَيُّر الفكري لَدَيْه، ما حدث له تحت تأثير إقامته في باريس، ومشاهدته لحال المرأة فيها، حيث أظهر إعجابه بما هي عليه، ونَفَى أنْ يكون الاختلاط والتبُّرج هناك داعياً إلى الفساد، أو دليلاً على التساهُل في العِرْض، وامْتَدح مُراقَصَة الرجال للنساء، ووَصَفَه بأنه فنٌّ مِن الفُنون ولا يُشَمُّ منه رائحةُ العُهْر أَبَداً، وكل إنسانٍ يعْزِم امرأةً يَرْقُصُ معها، فإذا فَرَغ الرَّقْص عَزَمَها آخَرُ للرَّقصةِ الثانية وهكذا
كما يُظْهِر إعجابه بالقوانين العقلية، والشرائع الوضعية في المجتمع الفرنسي
)

وهكذا نرى أن الطهطاوي القادم من قلب صعيد مصر في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، أصابته صدمة نفسية عنيفة وهو يشاهد طبيعة علاقة النساء بالرجال في المجتمع الفرنسي ومدى التحلل والانحلال في تلك المجتمعات، فرآها شيئا ممدوحا عندما تذكر طبيعة المجتمع المحافظ الذي تربى فيه!
والشيء اللافت النظر أن الطهطاوي –وهو الشيخ الأزهري-لم ير في الملابس المكشوفة للنساء، ولا في مراقصة الرجال والنساء لبعضهم بعضا شيئا معيبا أو عهرا!
وإن كان لا يعتبر هذا من العهر.
فكيف لم ير العهر الصريح والمكشوف في المجتمع الفرنسي وهو أمر من أعرافهم هناك لدرجة أن (جوزفين) زوجة (نابليون) نفسه كانت تواعد عشاقها في فترات غياب نابليون في الحروب!
وليست هذه نقطة الحيرة والدهشة وحدها.
بل الحيرة الحقيقية تكمن في أننا لا ندري ما هو الرابط الوثيق بين العلمانيين وبين دعواتهم المستمرة منذ بداية التغريب للانحلال الأخلاقي!
ما هو الدافع الغريب الذي يجمعهم جميعا لكي يدعوهم إلى الدفاع عن الزنا والشذوذ والمجاهرة بكل أنواع الفواحش ويعتقدون أنها من ثوابت التحضر!
ما الذي يدفعهم إلى الدعوة المستمرة بإلحاح للملابس الفاضحة وهجر الثياب المحتشمة ومهاجمتها والدفاع عن كل رذيلة مهما كان تصادمها مع الأعراف قبل الشرائع!

وهكذا نرى أن كتابات الطهطاوي المثيرة، كانت الضربة الأولى التي كان السكوت عنها سببا في نشر هذا الكلام من موظف كبير في الدولة، وبشكل علني، لتجد من يتلقفها ويروجها دون أن يخشى إنكار المجتمع تحت حماية السلطة كالعادة
وهذه لا زالت هي اللعبة المفضلة للعلمانيين وهي حرصهم الدائم على الاستعانة بكل قوة تبيح لهم إعلان أفكارهم ونشرها باستمرار حتى يمكن أن يقبلها المجتمع بالتدريج ويقبل وجودها بحكم الاعتياد!
الشيء المؤسف أن الغرب نفسه رغم ندائه بالحرية الكاملة وحقوق الإنسان، لا يُطَبّق هذه الحرية بمقدار خردلة إذا تعلق الأمر بثوابتهم الاجتماعية والدينية والسياسية.
فهنا يتناسون تماما حديث الحرية ويبرز سيف القانون مرفوعا على كل من يتفوه بحرف ضد ثابت من هذه الثوابت.
وقد تعرض المفكر الفرنسي الكبير (روجيه جارودي) للسجن والاعتقال والمنع لمجرد أنه أنكر أسطورة (الهولوكوست) وهاجم اليهود واتهمهم بابتزاز أوربا.
ووصل المنع والقهر أيضا حتى إلى مجال البحث العلمي المجرد، فمن المعلوم أن جامعات الغرب ترفض أي رسالة علمية تُبْطل نظرية (التطور) أو تثبت وجود صانع لهذا الكون
بل إن الغرب -أثناء أحداث طوفان الأقصى -الذي تفاعلت معه جماهير الغرب نفسه بالملايين، لم تستسلم حكومات أوربا وأمريكا لمظاهراتهم، وخرج المسئولون هناك يهددون بالسجن والمحاكمة لكل من يكتب مجرد تعليق عن وحشية المذابح الإسرائيلية في حرب غزة!
وتم تهديد رموز الغرب في الفن والاقتصاد والفكر عندما برز بعضهم ليهاجم الوحشية الإسرائيلية والدعم الأمريكي للدرجة التي منعت فيه الشركات الكبرى إعلاناتها على منصة (تويتر) المملوكة لأغنى رجل في العالم (إيلون ماسك) لمجرد أن سمح بالحرية الكاملة على موقعه لمن أراد دعم فلسطين.
ورغم مكانة (إيلون ماسك) الاقتصادية الهائلة عالميا إلا أنه خضع لابتزاز أقوى منه عالميا لزيارة إسرائيل في الأحداث ولقاء السفاح (بنيامين نتنياهو).
والنجم الأمريكي المعروف (أرنولد شوارزنيجر) أيقونة رياضة كمال الأجسام والفنان ذو التاريخ العريق في السينما الأمريكية، والسياسي الذي كان حاكما لولاية (فلوريدا)، تعرض لنفس الضغوط عندما سجل كلمة له لدعم فلسطين ومهاجمة إسرائيل على وحشيتها، ورغم أن الكلمة لم تتجاوز الدقائق إلا أنه بعدها بأيام تم إجباره على زيارة عائلة يهودية في أمريكا والاحتفال معهم بأحد أعيادهم التوراتية ثم تسجيل كلمة مطولة يعلن فيها دعمه الكامل لإسرائيل وحقها في الوجود!

وبعد كل هذه الديكتاتورية الإجرامية نجد من يخرج علينا من العلمانيين فيواصل الدفاع الهزلي عن الغرب ويواصل مهاجمة الشعب الفلسطيني الذي تم دك أرضه بحجم قنابل تجاوز مجموع قوتها الانفجارية قنبلة (هيروشيما)
وهذه النباتات السامة التي تنتشر في الإعلام والسياسة العربية، نتيجة طبيعية لأول بذرة وضعها الطهطاوي بدعوته إلى التقليد الأوربي في الشكل لا المضمون.
لا سيما وأن حركة الترجمة التي أشرف عليها ركزت على كتب الفلسفة الغربية بكل ما فيها من تناقضات هائلة، وعقائد منحرفة دينيا واجتماعيا، وقد تم تمجيد أسماء الفلاسفة الجدد في العالم العربي حتى صار بعض المثقفين يخشى انتقادهم لكيلا يتم اتهامه بالتخلف!" "
بينما معظم المدافعين عن تلك الفلسفة لم يطالعوا شيئا منها أصلا أما من طالعوا فلم يشرحوا أفكارها للناس بشكل واضح خشية استهجان الناس لتلك الأفكار العقيمة.

وبالطبع لم تكن بذرة الطهطاوي وحدها تكفي لو لم تجد الحاضنة المناسبة والدعم السخي والتخطيط طويل المدى.
وكالعادة كان الفضل في ذلك كله للاحتلال البريطاني
فعندما دخل الاحتلال الإنجليزي، وجد الأرض الخصبة التي يمكن أن يستثمرها لإنتاج أجيال تنتمي للثقافة البريطانية والأوربية في العموم وتقوم بأكثر مهمات الاحتلال خطورة وهي تغريب البلاد ودفعها دفعا للانتماء البريطاني مما يُحَوّل مصر إلى مستعمرة تدين بالولاء لمحتليها.
ولم يتحقق هذا الهدف لهم بالطبع، لكن تأثير حركة التغريب كان كاسحا في دعم وجود الاحتلال واستمراره لثمانين عاما، لأن التغريب تسبب في معارك هائلة بين الشعب وبين أفكار التغريبيين مما أدى لانشغال المجتمع بهذه المعارك الصاخبة وإهمال القضية الوطنية، وهو ما أدى لنوع من الاستقرار لقوة الاحتلال.
بينما لم يستطع الاحتلال الفرنسي الصمود أمام فوران الشعب المصري أكثر من ثلاث سنوات.
وهذه الملحوظة وحدها كفيلة ببيان مدى خطورة السياسة البريطانية في لجوئها للتغريب الديني والثقافي واصطناع الأتباع كرأس حربة بديل عن القوة العسكرية الغاشمة!
وهذه المقارنة وحدها تكشف لنا الأثر الفادح لسياسة بريطانيا التغريبية التي استخدمتها في كل مستعمراتها.
فقد نجحت بريطانيا –بفضل سياسة التغريب-في السيطرة على الحكم في مصر بثلاثة آلاف جندي، ولم تبادر لوضع أي رجل من رجالها في مناصب الحكم الظاهرة، بل تركت الحكم الرمزي للملك والحكومة التي كان رجالها من المصريين المتعاونين أو الأتراك المتمصرين، ووضعت خلف كل منصب قيادي منصب آخر تنفيذي يتولاه رجالها بشكل مباشر.
لهذا طال بقاء الاحتلال الإنجليزي بثلاثة آلاف جندي، وعجز الاحتلال الفرنسي رغم كون حملة نابليون كانت بأربعين ألف جندي في مواجهة مقاومة شعبية دون جيش نظامي مصري كما كان الحال في مواجهة الثورة العرابية للاحتلال الإنجليزي.
فالتخطيط البريطاني لمستعمراته يعتمد على استراتيجية دراسة أحوال البلاد المستهدفة دراسة وافية
فإذا كانت البلد المستهدفة عبارة عن خليط غير متجانس من عرقيات أو عصبيات أو مذاهب أو أديان مختلفة، فهذا غاية المطلوب، حيث تكتفي بريطانيا بإشعال الصراع المشتعل أصلا بين طوائف الشعب والاكتفاء بدعم كل التيارات المتصارعة دون استثناء ليبقى الصراع سرمديا بين أبناء البلد الواحد الغافلين عن قضية الاحتلال أصلا.
وهو ما فعلته في مستعمراتها بشرق آسيا وعلى رأسها الهند ذات الأديان والأعراق شديدة التعدد، مما منحها الفرصة لتكون الهند أكبر مستعمراتها وأكثرها أهمية