عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
2830
 
صالح اهضير
من آل منابر ثقافية

صالح اهضير is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
35

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Apr 2014

الاقامة

رقم العضوية
12834
09-16-2019, 01:08 PM
المشاركة 1
09-16-2019, 01:08 PM
المشاركة 1
افتراضي رائــحــة البــحــر...
[IMG][/IMG]

[justify]
لا يدري كيف اندفع على حين غرة إلى وكرها المعتاد بعد كل هذه السنوات التي مضت بأتراحها المفجعة وكادت أن تحيلها على رفوف النسيان.. بدا أن الحافز لم يكن سوى هذه الرائحة الممتزجة بذرات الملح التي اخترقت جيوب انفه في عمق.. طغى الحافز على سطح وعيه منسلاًّ من غور عقله الباطن.. كلما خطا خطوة في اتجاه خزانتها الجدارية، اشتدت حدة الرائحة المشؤومة.. فتح بوابتها على مصراعيها : أوراق..دفاتر..خواتم..إكسسوارات.. ألبسة.. البوم صور..بقايا أشيائها القديمة..
شرع يقلب ويقلب ...كل المقتنيات المترامية أمام ناظريه قد انزاحت عن بؤرة اهتمامه ولم تفعل فعلها بالقدر الذي فعلته هذه الصورة بين أنامله المرتعشة.. صورة تذكارية على الشط القديم أيقظت لهيب ذكراه.. تأملها طويلا..أحس بألم ممض يعتصر أحشاءه..كان عليه أن يفعل لكنه لم يفعل..عبثا كان ولا يزال ينحي باللائمة على نفسه كما لو انه الفاعل الجاني.. تساءلت نفسه اللوامة في دهشة : لكن اليوم ما جدوى العتاب وتأنيب الضمير بعد فوت الأوان..؟! تطلع إلى الصورة بإمعان : كانت في ابتسامتها الرقيقة على ركام الصخر بمحاذاة الشط القديم تبدوغارقة في انتعاشة لا تُضَاهَى مأخوذة بسحر المكان بلا ريب.. وكان هو يطوّقها بوداعة بذراعه مترنحا على وقع نسمات تلك الصبيحة...

******
لم يكن مقتنعا أيما اقتناع بما انفرجت عنه شفتاها من رقة وبدا على ملامحها من هدوء الطبع.. أغلب الظن أن هناك شيئا ما يثور في دخيلتها حتى ولو بدت بتلك الصورة الباهتة المضللة..
أدرك ذلك من خلال أفكارها المترامية الأطراف.. التائهة في كل الاتجاهات.. المتناثرة هنا وهناك.. كانت ردودها مقتضبة في غير تركيز تروم إلى التخلص منها بسرعة.. ولم يكن كل ذلك من طبعها المعتاد...
حافيا القدمين كانا يمشيان الهوينى على حبات الرمل المبللة بمياه المد البحري الذي كان يبدو ساكنا في الفترة الصباحية ..حاول سبر غور هذا التيه المستبد بكيانها...سألها بتؤدة متوقعا أنها ربما قد ضاقت بشرنقة هذا الحيز المكاني :
- عزيزتي ..أليس من الأفضل أن نتحول عن هذا المكان إلى غيره..؟
ردت باقتضاب :
- ولِمَ..؟
- لقد بدا لي أن هذا الفضاء الرملي الشاسع بشخوصه وكائناته وبحره الصاخب لا يثير اليوم اهتمامك بلا شك..
- إن لدي إحساسا غامضا لا أدري ماهيته..!
قالت ذلك رغبة في طمأنته على أحوالها مع التملص من تساؤلاته بين الحين والآخر.
هز حاجبيه متسائلا في دخيلته " إحساس غامض..؟! "..
- ألا ترين المكان بهرجه ومرجه قد ضاق بقاطنيه.. ؟
- ما قيمة الأمكنة يارجل أمام جنوح الخواطر وجبروت الهواجس ؟
لم يدرك المقصود من ردها..لكنه ألحّ عليها بضرورة التحول عن المكان لآخرغير بعيد.. هناك على مقربة من جلاميد الصخر المتراكم ..
بدا المكان الجديد بمصطافيه أقل هرجا وصخبا من سابقه.. ثلة من المصطافين تقبع على كراس تحت المظلات الشمسية .. أجساد ممددة تحت حر الشمس فوق بساط رملي دافئ.. على مقربة من التجمع الصخري، أطفال ينقبون عن صدفات بحرية مشمرين عن سيقانهم الصغيرة.. زمرة من الصيادين يربضون فوق الصخر بمحاذاة سللهم ينتظرون اللحظة الحاسمة.. الكل ينعم بهبات من هواء يلاطف الأجواء..
فوق الركام الصخري في اتجاه البحر كانا يتبادلان أطراف الحديث بين الفينة والأخرى.. طيور بحرية في العلياء تطقطق بأجنحتها وهي تدلف نحو الآفاق البعيدة.. تترامى إلى سمعها تغاريدها فتخالها نعيق بوم يهز كيانها.. تغرق في تيهانها من جديد..
على حين غرة ، أحست بغُصّة في حلقومها وابتلعت ريقها بصعوبة.. انتابها ضيق دون أن تفصح عن فحواه.. بادرته في إلحاح :
- لنعد عزيزي لحال سبيلنا..
- ما الداعي عزيزتي...ألم يرقك المكان؟
- بلى، ولكن لنغادر فقط..
استجمعا أشياءهما ثم أمسك بيدها بأناة وحذر وهما يرومان إلى النزول من المنحدر الصخري الأملس نحو الأسفل..
أحست بدوران مباغت ..تعثرت قدماها وانسلت أناملها الناعمة من بين يديه.. حاول التشبث بها بكل ما أوتي من قوة.. لكن يدها التوت في عجالة إلى الاتجاه الخلفي .. فقدت توازنها لتتهاوى في الفراغ إلى القعر.. ارتطم الجسد الناعم بالجلاميد الصخرية.. همدت أنفاسها إلى الأبد.. تعالت نداءات الاستغاثة وتحلق حول الجثة خلق كثير..
وكما الكائن الآدمي الحي المنكسر،قطب اليـمّ جبينه واضطرب اضطرابا.. هاج وماج وثارت ثائرته.. تهادى في جنبات المكان محسورا ثم طفق بموجه العاتي الجبار يداهم، غيرآبه ، كل الأشياء والذوات .

******
استفاق من كابوس ذكراه المرعبة لافظا إياه على أرض الواقع..كان لا يزال ممسكا في ارتباك بالصورة التذكار.. أعادها إلى الألبوم.. شرع يجمع شتات المقتنيات المترامية هنا وهناك.. أعاد كل شيء إلى الخزانة وأغلقها بإحكام وأقسم ألا يعود ..تهاوى على أريكة منهوك الأوصال. تمنى ان تتوارى هواجس ذكرى اليوم الأسود من أمامه إلى غير رجعة ثم دعا ربه في ابتهال وخنوع أن ينأى بها هناك إلى ما وراء السدم البعيدة...
[/justify]