عرض مشاركة واحدة
قديم 03-17-2011, 11:34 PM
المشاركة 4
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



رابعاً: في أفق تجاوز الحداثة:

إخراج الإنسان من النسق الذي حوله إلى ماهية ميتافيزيقية، يمكن أن يتحقق خارج لغة المنطق ولغة العقل. وذلك بالعودة إلى الفن ولغة الشعر، هنا يمكن أن يتجلى البعد الوجودي للإنسان. إن الحكماء السابقين على سقراط لم يكونوا يتكلمون بلغة "المنطق الصوري" للتعبير عن الإنسان وعن الوجود، بل كانوا يعبرون بواسطة القصائد الشعرية وبلغة الرمز.

لكن عندما جاء أرسطو صنف الشعر في أدنى مراتب القول، لأن الشعر لا يتحرك في مجال الحقيقة وإنما يتحرك في مجال المجاز. ركبت الفلسفة بعد أرسطو لغة المنطق، وحولت الإنسان إلى قضية منطقية تتكون من موضوع ومحمول. لذا، فتحرير الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا إذا غيرنا الطريق الذي أوصله إلى العبودية، أي أن نستبدل القول المنطقي بالقول الفني: هنا يطل علينا ديونيزوس (إله الفنون الجميلة).


لم يعمل جاك ديريدا J.Derrida فيما بعد سوى تطوير مشروع هيدجر، كما أن ميشيل فوكو M.Foucault لم يعمل بدوره إلا على تطوير مشروع جورج باطاي، كما يرى ذلك هابرماس J.Habermas.


أما فوكو فقد أراد أن ينشئ نظرية عن السلطة lepouvoir، وحاول أن يبين تمفصلات السلطة في علاقتها بالجنون la folie. لأن الجنون هو خطاب اللاعقل، إنه الخصم العنيد للنظام الذي ينبني عليه العقل. أراد فوكو أن يعيد للجنون حق التعبير وحق الكلام، ضداً على الخطاب العقلي الذي يصنف الجنون في إطار ما هو مرضي Pathologique. إعادة الاعتبار للجنون في علاقته بالإنتاج، تبين إلى أي مدى عمل النظام الرأسمالي على خلق قيم السواء والشذوذ للنظر إلى الجنون.


إذ بعد نزع صفة القداسة عن الجنون (لم يعد ديونيزوس المجنون إلهاً)، أدخل النظام الرأسمالي المجنون إلى الملاجئ والمعازل والمستشفيات ليكون موضوعا للطب العقلي La psychiatrie. إن المجنون، كمريض قدمته الشرطة (بعد إلقاء القبض عليه) إلى الطبيب، أصبح موضوعاً لعلم جديد.

لذا فالعلم الجديد لم يكتشف موضوعه طبقاً لشروط إبستمولوجية معينة، بل قدمته له السلطة كقضية / كملف / مرقم / كمرفوض… لقد أظهر فوكو أن السلطة تعاقب من يخرج عن طاعتها وتهمشه باعتباره شاذاً، باعتباره آخر، أي أن كل من يخرج عن منطق "العقل الاجتماعي" القائم على قيم الإنتاج، سوف يلقى به في دائرة الشذوذ.


جاك ديريدا سار في الطريق الميتافيزيقي الذي دشنه هيدجر، أعني تفكيك العقل الغربي اعتماداً على تمظهراته السامية (المجردة). لهذا كانت المهمة التي وجد ديريدا نفسه ملزماً بإنجازها هي تكسير الأنساق الميتافيزيقية التي شيدها العقل المحض، وإلغاء الحواجز بين الأنواع التي تميز الخطاب. إذ ليس هناك فارق نوعي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الأدبي مثلا، بل نحن أمام نص عام Texte général. والنص له قانون يخضع له هو قانون الكتابة، بغض النظر عن كاتبه.


لذا فأهم شيء يجب أن ننتبه إليه ليس هو القائل (الذات)، بل هو المقول (المكتوب/المنطوق) لاستخلاص قواعده العامة. إن قواعد الكتابة La grammatologie هي التي يلزم أن تخلق قواعد اللغة Lagrammaire، وذلك من أجل القضاء على سلطة الذات وتفكيك النسق.


وبدراستنا للأثر Latrace، سنتجنب الوقوع في الأخطاء الميتافيزيقية التي يستتبعها إعطاء الأولوية للذات المفكرة أو الأنا على النص المكتوب. والاختلاف Différance (وليس différence)، هو هذا الأثر الذي يقوم مقام الذات، والذي تخلقه الكتابة. كما أن الممارسة أيضا نوع من الكتابة التي تترك أثراً، فالثورة الروسية هي أثر، والثورة الفرنسية هي أثر، وهذا القلم الذي أكتب به هو أثر.. ليس في العالم سوى الآثار.


إن هم القضاء على الذات (العاقلة أو القائلة)، هو الذي دفع كلا من فوكو وديريدا إلى اعتناق البنيوية بنوع من الخجل. وسواء كانت الذات عاقلة تمارس الرقابة على الجنون، أو كانت قائلة تمارس السلطة على الأثر، فإنها في كلتا الحالتين ذات فاعلة تلوث المعنى وتخفيه. لهذا كان إعلان "موت الإنسان" ضرورياً من أجل الخروج من فلسفة الذات، وتحرير المعنى: ليس ها هنا فاعل، ولا ذات تفعل نسقاً أو تقول حقيقة.


الطريق الميتافيزيقي الذي سار فيه ديريدا مقتفياً "آثار" هيدجر، وطريق الجنون الذي سار فيه فوكو مقتفياً آثار باطاي، لهما جذر واحد ينحدران منه هو نيتشه: كل الطرق البديلة تؤدي إلى نيتشه! ذلك أننا إذا تتبعنا طريق الجنون واكتشاف الأبعاد الأنطولوجية للإنسان بواسطة التجربة الباطنية، فإننا سنصل إلى "زرادشت" و"مجنون الساحة العموميةوالموسيقى، والشعر، والفن. بمعنى أننا إذا تتبعنا نظرية السلطة عند فوكو، فإننا سنصل إلى "إرادة القوة" عند نيتشه، مارين على مفهوم "السيادة" La souveraineté عند باطاي.


أما إذا سرنا على الطريق الميتافيزقي مبتدئين بتحطيم الفروقات النوعية بين الأجناس الأدبية عند ديريدا، مارين عبر الصراع الهيدجري ضد كبار الفلاسفة (أصحاب الأنساق)، فإننا سنصل إلى محاربة نيتشه لسقراط وأفلاطون وأرسطو… وتابعيهم. هذا يعني أن خطاب ما بعد الحداثة هو خطاب يتخذ لنفسه طريقاً واحداً رغم تعدد الاجتهادات، هو الطريق الأنطو-ميتافيزيقي الذي يجد في نيتشه مصدره الأساسي.






هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)