عرض مشاركة واحدة
قديم 03-17-2011, 11:22 PM
المشاركة 2
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي




ثانياً: ما علاقة ديونيزوس بالحداثة؟

نيتشه Nietzsche هو الذي انتبه إلى هذا الوضع الذي كان يشغله ديونيزوس عند الإغريق، باعتباره ملهماً للعبقرية اليونانية في مجال الإبداع الفني. وهو الذي انتبه أيضاً إلى سيادة القيم الميتافيزيقية المضادة للحياة، والتي سيطرت على الفكر البشري لمدة طويلة تجاوزت الألفي سنة. هذه السيطرة لقيم "العقلانية" التي تعود جذورها إلى عصور سحيقة، تبدأ مع سقراط وأفلاطون، واستثمرتها المسيحية في العصور الوسطى الحديدية، حيث دخل الفكر الأوروبي في عقم نظري وسبات عميق.

بدخول أوربا إلى العصور الحديثة دشنت عقلانية جديدة وضع أسسها ديكارت على مستوى التفكير الفلسفي، وفرانسيس بيكون على مستوى التفكير العلمي، ومفكرو الأنوار على مستوى التفكير السياسي والاجتماعي. عصر الحداثة سيغير الإنسان الأوروبي من كائن ديني (إنسان القرون الوسطى)، إلى كائن عقلاني (الإنسان الحديث).
والحداثة هي هذه الرغبة العنيفة التي لا تعرف حدودا، إنها الرغبة في كشف السر الذي كان معقلاً للإيمان: صراع الحداثة مع العصور الوسطى هو صراع العقل ضد الإيمان.

لكن المعرفة التي كانت مستهدفة من قبل الحداثة لم تكن معرفة نظرية – كما كانت عند اليونان مثلاً - بل كانت معرفة عملية هدفها السيطرة على الطبيعة، وتنصيب الإنسان سيداً بعد أن كان عبداً في العصور الوسطى؛ وهكذا تم التزاوج لأول مرة في تاريخ الفكر البشري بين المعرفة والسلطة. هذا الارتباط بين المعرفة والسلطة سيؤدي حتماً إلى نتائج عملية، ستؤطر السلوك والوعي عند الإنسان الغربي، وذلك ابتداءً من القرن السابع عشر. في هذا القرن سيظهر أعلام العقلانية الأوروبية، وعلى رأسهم ديكارت وبيكون.


ديكارت سيحدد معالم هذه العقلانية، ويضع لها منهجاً عبارة عن خطوات يضمنها كتابه مقال في المنهج. في بداية الكتاب يعلن ديكارت أن "العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس". وإذا كان الأمر كذلك فإن العقل سيصبح هو المعيار الوحيد للحقيقة. لذا أتت القاعدة الأولى على الصيغة التالية: "لا أقبل من أحكامي إلا ما ظهر لي في وضوح وتميز أنه لا يمكن الشك فيه". ماذا يمكن أن نقرأ في هذه القاعدة؟

"لا أقبل…"! ديكارت هو أول من علّم الأوروبي أن يقول: لا. فيما قبل – أي في العصور الوسطى - كان الأوروبي يقول: نعم، أي الخضوع للسلطة (سلطة الإقطاع/سلطة الكنيسة/سلطة القيم..). أتى ديكارت فقال: لا! وما المنهج الذي اصطنعه –الشك المنهجي- إلا رفضاً للإرث الإقطاعي –الكنسي- المسيحية.


في نفس الفترة تقريباً ظهر في إنجلترا فرانسيس بيكون F.Bacon ليقول نفس الشيء، ولكن في مجال آخر هو مجال العلوم الطبيعية. لقد دعا بيكون إلى رفض الأوهام التي تمنع العقل من الوصول إلى الحقيقة، أي اكتشاف القوانين الفيزيائية التي تخضع لها الطبيعة والإنصات للطبيعة والخضوع لها من أجل فهمها، قصد السيطرة عليها فيما بعد حين نكتشف القوانين التي تخضع لها هي بدورها.
باختصار دخلت أوروبا إلى العصور الحديثة مسلحة بالعقل وبالعلم. فما هي النتائج التي انتهت إليها؟


كانت العصور الحديثة تحمل بشرى تحرير الإنسان من الأوهام الوسطوية، ونصبته سيداً على الطبيعة، ورفعت شعارات: الحرية والمساواة والإخاء والعدالة…الخ. وهيمنت العقلانية على جميع الأصعدة، في العلم كما في السياسة والاقتصاد والاجتماع. وتم تحرير الإنسان من سلطة الإقطاع وسلطة الكنيسة. وتحققت الثورات السياسية، وأقيمت الأنظمة الديموقراطية.

انتشرت مبادئ العلمانية، وطبقت نتائج العلم على الطبيعة فظهرت التقنية. فتحولت المادة الخام إلى بضاعة، وغزت السوق. ودارت الدورات الاقتصادية بقوة، وتراكم الرأسمال ففاضت القيمة. لم تتمكن الأسواق الداخلية من استيعاب هذه الدورات الهائلة والمتسارعة للرأسمال الأوروبي، فبدأ التفكير في البحث عن أسواق خارجية. وكانت الكشوفات الجغرافية وكذا اختراع البارود والمطبعة، قد ساهمت وسهلت هذا الاندفاع إلى الخارج بحثا عن أسباب الرواج الاقتصادي.


برزت الظاهرة الاستعمارية واستعبدت شعوب أخرى من طرف الشعوب "المتحضرة" الحاملة لقيم العقلانية ومبادئ العلمانية، بل حصل النزاع الدموي والصراع العسكري بين شعوب "العقل" حول الاستحواذ والاستيلاء والنهب والاغتصاب والاحتلال. فكان الغالب والمغلوب، وكان القاهر والمقهور، ونتج عن ذلك ردود أفعال عن أزمات حادة خلفتها التطاحنات على أرض العلمانية، فبرزت الفاشية والنازية فوق أرض الحضارة، وتهاوت "قلعة العقلانية".


لم تنسَ أوروبا بعد الحربين جراحها الداخلية الناتجة عن صراع أنظمتها من أجل فرض الهيمنة الوحيدة، كما لم تنس أيضا جراحها الخارجية، الناتجة عن سيل الاستقلالات الجارفة التي فرضتها حركات التحرر الوطني في المستعمرات. لهذا راحت الأنظمة تتحصن بترسانة عسكرية، وأنشأت القواعد في كل مكان، وزرعت المفاعلات النووية على طول الخارطة الأوروبية وعرضها، تحسباً للحرب في كل لحظة، وأهبة للدفاع أو الهجوم. ومع بروز المعسكر الشرقي كخصم عنيد وقوة منافسة، أصبح النظام الرأسمالي مهدداً.


أمام هذا المآل الذي وصل إليه المجتمع الغربي، برز مفكرون جدد يشككون في قيم العقلانية، ويضعونها موضع تساؤل. رأى هؤلاء المفكرون أن المآسي التي وصل إليها المجتمع الحديث نتجت عن التزاوج الذي حصل بين العقلانية والعلمانية، أي حين تم تشييد العلم على مبادئ العقل الحديث، وحين طلب من العلم أن يقدم نتائج كشوفاته هدية للتقنية والتصنيع.


لقد استغل النظام الرأسمالي لمدة ثلاثة قرون نتائج العلم من أجل خدمة حركة التصنيع وإنتاج البضاعة، وأصبح الهدف الوحيد هو تسريع دورات الإنتاج، وكانت الطبقة العاملة هي كبش الفداء. لقد انعكست النتائج ضداً على المقدمات، فبدل أن يتحرر الإنسان ويصبح سيداً ظهر سيد جديد ليستعبد الإنسان، وهذا السيد الجديد هو الرأسمال. إن الرأسمالي ليس إنساناً بل هو رأسمال مشخص. هكذا قال صاحب كتاب الرأسمال.


لم تفلح الأزمات في القضاء على النظام الرأسمالي، وكلما نزل مؤشر الرسوم البيانية إلى الحضيض منذراً بنهاية الرأسمالية وقربها من نقطة اللاعودة، بدت بوادر الانتعاش لائـحة في الأفق. كلما تعمقت الأزمة، وحصل التضخم، وتصاعدت أرقام البطالة، إلا وظهرت إصلاحات أو مشاريع للنهوض بالاقتصاد، وتقلصت أرقام البطالة، وصعد التراكم والربح من جديد. وهذه الحالة التي تميز الاقتصاد الرأسمالي، سبق أن وصفها لينين بكونها مجرد مسمار ينضاف إلى "نعش الرأسمالية".


وبفضل السقوط والنهوض، والمراوحة والثبات، ظل اقتصاد التقنية والربح ديناصوراً يفرض هيبته على الجميع. حيث أصبح الإنسان بضاعة تسري عليه قوانين الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وفقد إنسانيته لينضاف كسلعة جديدة إلى سوق البيع والشراء؛ ويتحول بذلك إلى وظيفة وإلى رقم يعرف به في سوق السلع. وبحكم تراتبية السلطة أصبح خاضعاً للمراقبة، منفذا للقرارات، زراً يضغط عليه لكي يرن.


إن هذا الوضع الحديث للاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة عموماً، خلق تمزقاً مأساوياً لدى الإنسان. حيث أصبح مفروضاً عليه أن يتهافت وراء المتع (جمع متعة) التي تعرضها التقنية في كل مكان، وتمارس عليه عمليات إغراء شعورية أو لا شعورية. كل شيء يقدم على أنه متعة أولا، قبل أن يكون ضرورة:

السيارة متعة، علبة السجائر متعة، القميص المعروض على الواجهة متعة، الأزهار المصففة بعناية متعة، صورة المرأة متعة.. هناك فائض في المتع!

وبالمقابل هناك ندرة في الزمان، خصوصاً إذا حذفنا زمان العمل، وزمان الاسترخاء، وزمان تناول الوجبات. إن الإنسان الحديث الذي وجد نفسه – بغير إرادته - أمام فائض في المتعة وندرة في الزمان، اضطر إلى تقسيم الزمان الضئيل المتبقي لديه إلى وحدات بسيطة تعد بالدقائق والثواني لكي يستغله إلى أقصى الحدود لجلب هذه المتع.


لقد وجد الإنسان الحديث نفسه معرضاً للإغراء من طرف المتع كقيم خلقها اقتصاد التقنية، فلم يفلح في التوفيق بين إشباعها من جهة وبين الزمان الضروري لذلك الإشباع، ما دام هو نفسه مجرد سلعة من سلع السوق.

إن الوعي بالزمان عند الإنسان الحديث ناتج عن إغراقه بالمتع مع فقدانه لوسيلة اقتنائها، أعني الوقت الكافي لإشباع كل متعة على حدة. وأمام التعدد اللامتناهي لأنواع هذه المتع – والتي لا يتورع اقتصاد التقنية في تغيير ملامحها وأشكالها مع ابتكار أنواع جديدة - أصبح الإنسان الحديث يتهافت وراء الزيادة في العمل والاشتغال إلى أقصى حد ولو خارج عمله الرسمي من أجل ملاحقة السيل الجارف للمتع. وربما يكون هذا هو السبب في تباطؤ الزمان عندنا نحن الذين نعيش خارج الحداثة أو على هامشها، أعني أننا نعاني من فائض في الزمان مع ندرة في اقتناء المتع.


إن ضياع الإنسان وفقدانه لإنسانيته وتحويله إلى بضاعة، حيث ينظر إليه كآلة منتجة أو مستهلكة من طرف اقتصاد الربح هو ما دفع لوكاتش إلى الحكم على الإنسان الحديث بأنه تحول إلى شيء، أي أن العلاقات الرأسمالية أسقطته في حالة التشيؤ Réification. وحين أصبح الإنسان شيئاً سقط من مستوى الكائن الاجتماعي إلى مستوى الكائن المتوحد، المنفرد، إذ تجمدت العلاقات الاجتماعية وغاب الوجود البشري.

أمام غياب الشرط الإنساني من العلاقات الحديثة، استشعر مفكرو ما بعد الحداثة La post-modernité ضرورة البحث عن الإنسان، ومحاولة استرجاع شرطه المفقود. وهذه الخطوة يلزم القيام بها خارج القيم السائدة – أعني خارج قيم الإنتاج والاستهلاك - وذلك من أجل الصراع ضد سلطة هذه القيم التي أضمرت إنسانية الإنسان.

إمكانية استعادة الإنسان المفقود تنبني على محاربة اقتصاد الربح Economie deprofit، وإقامة اقتصاد الخسارة Economie de perte؛ واستنفاذ الطاقة Consumation بدل استهلاك البضاعة Consommation. هذه هي دعوة جورج باطاي G.Bataille في ممارسة "التجربة الباطنية".


إن محاربة الربح بالخسارة، والاستهلاك بالاستنفاذ، هي الطريق التي ستفضي بنا إلى اكتشاف الإنسان في "تجربته الباطنية". أعني استنفاذ المخزون الغريزي عند الإنسان، وتصريف كل الطاقات المشحونة في الجسد، وذلك بممارسة الشبقية Erotisme والسكر Ivresse والشعر والموسيقى والفن عموماً..

إن التجربة الباطنية هي التي ستكشف عن جوهر الإنسان الذي توارى خلف ترسبات التشيؤ، وهذه التجربة هي التي ستكشف أيضا عن الوجود وممكنات الإنسان التي أحبطها اقتصاد الربح والاستهلاك.


لذا فاستعادة الإنسان لهويته تتم بـ"السفر إلى أقصى ممكناته" «Voyage au bout despossibles de l’homme». وعند هذه الأبعاد القصوى للتجربة الداخلية ينكشف الوجود، لأن الوجود ليس في مكان ما بل ينكشف بالتجربة. إلا أن هذه التجربة ليست تجربة صوفية ولا تلتقي بها في أية نقطة بل تعارضها تماماً، إذا نظرنا إلى منطق اشتغالها. فالتجربة الصوفية تقوم على اقتصاد الطاقة والحفاظ على توتر الغريزة في عمق الذات، في حين تقوم التجربة الشبقية على تصريف الطاقة واستنفاذها بطرق شتى: بالشعر، بالموسيقى، بالفن..

باختصار إن التجربة الباطنية هي دعوة إلى اعتناق تعاليم ديونزوس: ديونيزوس هو القادر على تحرير الطاقات التي أحبطها اقتصاد الربح، ونشر تعاليمه هي التي ستقف ضد العقلانية والعلمانية اللتان حولتا الإنسان إلى "ماهية ميتافيزيقية" منقطعة الصلة بالوجود.



هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)