الموضوع: قبور في السماء
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
9

المشاهدات
3726
 
محمد الشرادي
من آل منابر ثقافية

محمد الشرادي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
155

+التقييم
0.04

تاريخ التسجيل
Aug 2014

الاقامة

رقم العضوية
13134
09-21-2014, 01:27 AM
المشاركة 1
09-21-2014, 01:27 AM
المشاركة 1
افتراضي قبور في السماء
قبور في السماء

لا مكان ألوذ به من عورات النساء،إلا أن أعتصم بجبل موحش، لا تسمع فيه لاغية. لقد أصبحت المدينة معرضا مترامي الأطراف، تعرض فيه النساء أجسادهن العارية، إلا من أثواب شفافة... كاشفة... واصفة، حتى المحتجبات صرن يكشفن عن عيون تشعل النار في الجليد.
ضحك صديقي حتى ظهرت نواجده:
- تتحمل مرارة العزلة في مكان قصي، على أن ترى النساء متبرجات.بينما الحل لا يقتضى هذه التضحية كلها.عليك فقط، أن تغض بصرك...
قاطعته ساخرا:
- هه... غض البصر! ذلك من رابع المستحيلات، أينما وليت وجهك، فثمة جسد عار يثير الفتنة،و يحرض على ارتكاب الفواحش.
- آه، يدعي الرجل أنه حمل عفيف، و ملاك طاهر، و يبحث عن ضحية يضعها في قفص الاتهام، ليبرر انسياقه خلف نزواته المتوحشة. حتى عندما كانت المرأة مسجونة خلف ستار من حديد، كان الرجل يعتبرها شرا مستطيرا، و شيطانا آثما...
قبل أن يكمل صديقي حديثه، مرت أمامنا شابة في مقتبل العمر، جسدها شبه عار. اقتنصت المشهد لتعزيز موقفي:
- انظر إلى عريها المستفز. جسدها ينادي ألا تجد المشهد فيه الكثير من قلة الحياء.
- أنت الذي تحتل قارعة الشيطان...تحتلها عنوة، لتملأ عينيك بهذه المشاهد، لأنك تجد فيها متعة. تجري خلفها و تدينها. ألا تبا لكل فضيلة مقنعة بالنفاق.
ألم تقرأ عن الحادثة الشنيعة التي وقعت البارحة. قبل أن أشرع في الحكي، يجب أن أحذرك أن القصة موجعة، يحتاج فيها السامع إلى قلب من صخر. و مع ذلك سأسمعك إياها، ليس لتعزيز موقفي، بل لأمنحك زاوية أخرى للنظر. اسمع يا صديقي (الطاهر):
أثار انتباهي شبه امرأة تقف على الرصيف. تخلى عنها الحظ ، و تكالبت عليها صروف الدهر. و قفت ساهمة ، تتأبط مجلد حزنها، و تلوك موال غربتها. تحدج المارة بعينين أشبه بعيني بقرة سقيمة. تغطي شعرها المنفوش بقبعة من الدُّوم. تستر جسدها النحيل الذي رمت به الظروف بين براثن الشيخوخة المبكرة بأسمال فقدت ألوانها.
تضاربت الروايات حول المكان الذي قدمت منه. زعم البعض أنها تسكن أحد أحياء الصفيح في المدينة المجاورة. و أكد آخرون أنهم شاهدوها في أحد الأسواق القريبة تبيع أشياء قديمة جمعتها من المزابل.لكن الجميع اتفق على أن قدومها شكل علامة فارقة في تاريخ تلك المدينة الصغيرة.
حنان !؟ هكذا بات الناس يسمونها. هادئة... ودودة... بشوشة .أصبحت جزءا من حكايات المدينة. تعبر الشارع وهي تحاور شخصا تراه،أو تحسه بجانبها.تتعب من الكلام. تتوقف. على صفحات مرآة تتخيلها في كفها،و من علبة مساحيق وهمية ، تضفي على وجهها جمالا مزعوما. تلقي نظرة أخيرة إلى مرآة كفها. تلتفت إلى الشخص الذي كانت تحدثه،أو تحسه بجانبها:
- انظر...متع عينيك...ألست وسيمة ؟ ألست جديرة ...؟
تذرف دموعا تسيل في اتجاه فمها... تتجرع ملوحتها. ثم تجري إلى غير غاية كغزالة بلا قطيع،و لا مرعى.
صارت حنان كثيرة القيء...تغيرت عاداتها في تناول الطعام... بات يلوح على وجهها قلق شديد،و تتصرف بعدوانية غامضة. تمر ببائع الفواكه الجافة...تطلب منه حبات لوز مرة... تقضمها متلهفة ، وتشرع في هرش جلدها حتى ينز الدم.
خلف هذا التغير المفاجئ، علامات استفهام كبيرة لدى الناس. لم تتبدد، إلا بعد أن شرع بطنها الضامر ينتفخ تدريجيا ، و كشف ثوبها الماحل، عن تكوره.تضغط عليه بكفيها. تحس الجنين يتحرك داخل رحمها. تدغدغها حركاته ، فتضحك ضحكات بريئة.
تعشق حنان الحمام.قضت الصباح كله في الساحة التي تتوسط المدينة مع أسرابه ، تقلده في هديله.
صرخت صرخة قوية.سقطت على الأرض تتلوى من الألم... داهمها وجع الطلق. نظرت إلى الحمام الذي يهدل بجانبها ،بعيون كسيرة، مفعمة بالأسى. لم تعد تدري أتقلد هديله،أم تصيح من شدة المغص ؟
- الله !؟ الله !؟ أيوجد تحت سمائك رجل بهذه الخسة،و القذارة، ذئب جائع تمتد شهوته إلى بلهاء بريئة ؟! أيكون قد ارتعش فوقها دون أن تميد به الأرض ؟ أتكون فهمت معنى أن يتأوَّه كلب مدنس على مداخل اللذة في جسدها المثخن بالجراح ؟
غرابة البشر، لا حدود لها، و سعيه خلف الشهوة، جعله يبحث عنها في أماكن لا يتصورها العقل، و يعمل على جَنْيها بطرق مقززة، تارة يكون ضبعا يجدها في الجثث، و تارة تتصابى شهوته، و تنحدر به إلى الدرك الأسفل من الخسة، فيجعل من صبية موضوعا لنزواته،و أخرى يجنيها من جسد منهك، لا يؤشر شيء على أنه مازال حيا سوى حركاته البلهاء، التي لا معنى لها.
تصيح حنان من شدة الوجع. تتلوى على الأرض.حفها الناس بثوب داكن لستر محنتها،أو ربما لإخفاء توسلاتها التي تدين الجميع.
أطلقت حنان صيحة رهيبة، و صل دويها سهيلا، و السهى، بل تجاوز صداها سدرة المنتهي.أعقبتها صرخة ثانية. كان ثمرة هذه اللذة الملعونة توأمان سقطا غدرا في ساحة الحمام.
خيم على الجميع صمت كثيف كدم الشهيد... ثقيل ككلمة الإخلاص . تناهت إلى مسامعنا دقات أجراس حزينة من كنائس بعيدة...سمع الجميع الآذان يرتفع في مساجد المدينة كلها.
ناء المشهد بكل ثقله على صدور الحاضرين. ارتفعت الحناجر بدعاء مخنوق ،ممزوج بالمرارة و الدموع.
حلقت فوق الرؤوس أجسام نورانية. حطت قرب الجثث الثلاث. كفنتها بأكفان ناصعة البياض.حنطتها بحنوط تفوح منه رائحة الفردوس. حملت الأجسام النورانية الجثث الثلاث، ثم اختفت خلف السحاب، و أذكار حزينة تساقط على ساحة الحمام من السماء.