عرض مشاركة واحدة
قديم 08-16-2016, 11:46 PM
المشاركة 36
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تركيا وإعادة تغيير تحالفات الشرق الأوسط
نشرت: الثلاثاء 16 أغسطس 2016 - 06:23 ص بتوقيت مكة **عدد القراء : 1337
Tweet


السيد أبو داود
في عالمنا العربي، وخاصة في إدارة ملف العلاقات الخارجية، تتغلب العواطف على كل شيء ويغلب الحب والكره ماعداهما، فهذه الدولة تقاطع الدولة الأخرى لمجرد تصريح لم يعجبها أو أن رئيس الدولة لا يستسيغ نظيره، بل إن هناك دولاً عربية تقاطع القمم العربية لمجرد خلاف مع دولة أخرى، وتعمل الدولة المقاطعة على التأثير بنفوذها على الدول الأخرى كي لا يحضروا حتى تفشل القمة، تمامًا كما يفعل الصبيان أو على الأكثر كما يفعل النساء في كيدهن بعضهن لبعض، ولم نجرب أو نعتد في عالمنا العربي أن ننحي عواطفنا وخلافاتنا جانبًا وأن نعلي من شأن الأمة ومصالحها العليا.
والمتأمل لملف إدارة تركيا لعلاقاتها الخارجية، يجد أنها تعيش في جوار صعب ومضطرب وتحاصرها المشكلات الداخلية والخارجية من كل جانب، ولو كانت تفعل مثل ما تفعل الدول العربية من تغليب المنهج العاطفي والحب والكره لأصبحت دولة فاشلة بامتياز، ولكنها تتجنب ذلك تمامًا، فرغم الأزمة الكبيرة التي نشبت بينها وبين روسيا في أعقاب إسقاطها للطائرة الروسية لم تسع إلى تأجيج المشكلة والدخول في حرب سياسية وإعلامية مفتوحة وشاملة ضد روسيا، وإنما عملت على تطويق المشكلة ومحاصرتها والعمل على ألا تكبر وتتنامى رغم تسخين الجانب الروسي، وكانت تصريحات القادة الأتراك عاقلة وتدعو إلى إزالة الخلاف بالطرق الدبلوماسية.
وتحقق لتركيا ما أرادت فما هي إلا شهور قليلة حتى أسهمت الدبلوماسية التركية في إزالة الخلاف وإعادة العلاقات مع روسيا مرة أخرى، ربما أقوى مما كانت عليه، لأنها تعلم أن الاقتصاد الروسي سيتضرر من الأزمة وبنفس القدر سيتضرر الاقتصاد التركي، الذي تعب قادة حزب الحرية والعدالة في جعله اقتصادًا قويًا يحتل رقم 17 بين أقوى الاقتصادات العالمية.
التقارير أكدت أن البلدين تكبدتا خسائر وصلت إلى عشرات مليارات الدولارات خلال شهور الأزمة، الأمر الذي دفع القادة الأتراك للتحرك من أجل العمل على الحد من هذه النتائج الكارثية، فروسيا تصنف على أنها ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا، كما تزود أنقرة بأكثر من 55٪ من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى أن السياحة الروسية إلى تركيا بلغت عام 2014 أكثر من 5 مليون سائح، وهي أرقام تؤشر لحجم الضرر الذي لحق بالجانبين خلال الأزمة.
بينما تعد تركيا أكبر خامس شريك تجاري لروسيا بحصة تبلغ 4.6٪ من إجمالي التجارة الخارجية الروسية، وذلك بحسب بيانات إدارة الجمارك الروسية. حيث بلغ التبادل التجاري بين موسكو وأنقرة في العام الماضي 31 مليار دولار.
بعد الأزمة انخفض مستوى التجارة بين البلدين حيث تفيد أرقام أعلنها الكرملين أن المبادلات التجارية بين البلدين تراجعت بنسبة 43٪ إلى 6.1 مليار دولار (5.5 مليار يورو) بين كانون الثاني/يناير وأيار/مايو الماضيين، وهو سبب آخر دفع روسيا التي تعاني من العقوبات الغربية وانخفاض أسعار النفط إلى التجاوب مع المساعي التركية لإعادة العلاقات الاقتصادية إلى سابق عهدها.
وخسرت تركيا صادرات بقيمة مليار دولار خلال الشهور السبعة الأولى من العام بسبب الأزمة.
قطاع الإنشاءات يشكل صلب العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا، وأنجزت الشركات التركية خلال السنوات الـ 20 الماضية، نحو ألف و500 مشروع في السوق الروسية، بتكلفة بلغت 55 مليار دولار.
كل هذه الأرقام كانت حاضرة في عقل وأجندة القادة الأتراك طوال شهور الأزمة، وكانت مصلحة تركيا هي الحافز والمحرك الأول لتجاوز الأزمة.
ولم يكن غائبًا عن الرئيس التركي أن يكسب جولة مع الدول الغربية المنافقة التي كانت تريد أن تنجح محاولة الانقلاب وأن يطاح بأردوغان وحزبه، لذلك قلقت الدول الغربية وقلق حلف الناتو من المصالحة التركية الروسية، لأنه يعلم أنه إذا تعاونت تركيا وروسيا معا فسيكون بوسعهما إعادة تغيير قواعد الحرب في الشرق الأوسط والإخلال بنظام ما بعد الحرب في أوروبا، خاصة وأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلنطي.
وصب في صالح تركيا مسارعة بوتين بإظهار دعمه للرئيس التركي بعد محاولة الانقلاب، وتقديمه نفسه بصفته حليفا طبيعيا لأنقرة، بهدف إحداث وقيعة في حلف الناتو، كما أن الاتفاق الروسي التركي لمحاربة تنظيم الدولة يهدف إلى تعميق الخلاف مع الغرب؛ لأن هذا التعاون سيتطلب تبادل مباشر للمعلومات الاستخبارية.
وإذا تركنا ملف العلاقات التركية الروسية، وانتقلنا إلى ملف العلاقات التركية الإيرانية لوجدنا شيئًا مماثلاً، فإيران تكره تركيا كراهية عمياء وكانت تريد أن تنجح محاولة الانقلاب الأخيرة والإطاحة بأردوغان وحزبه، الذين وضعوا تركيا بجانب السعودية في قيادة العالم الإسلامي السني، ولكن تركيا تدرك أن إيران جارة ولابد من تحييدها، ويقوم مسئولون أتراك كبار بزيارة طهران كما تستقبل أنقرة وفودًا إيرانية على أعلى مستوى كان آخرهم وفد برئاسة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حيث حرصت تركيا على الوصول مع إيران إلى اتفاقات تقضي بوحدة التراب السوري وحدوده، وعلى ضرورة تطهير البلاد من تنظيم "الدولة الإسلامية"، وكذلك كسب الموقف الإيراني للعمل ضد حزب العمال الكردستاني من خلال تبادل المعلومات وتنسيق الضربات ضد مقاتلي الحزب في شمال العراق. وأصبحت أنقرة وطهران تعتقدان أن حزب العمال الكردستاني الذي يمارس أنشطته في تركيا وحزب حرية كردستان الذي يتخذ من غرب إيران مقرا له يشكلان تهديدا رئيسيا لدول المنطقة.
تركيا تدرك أن سياسات إيران الخاطئة أدت إلى حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، وأدت إلى استدعاء القوات الأجنبية، التي لم تأت لاستقرار المنطقة بل أتت لمصالحها الخاصة، عندها أدركت إيران أنها تحتاج إلى القيادة التركية لمعالجة مشاكل المنطقة بما لا يعود على دول المنطقة بالخسارة ولا الانهيار ولا التقسيم.
وكررت إيران ما فعلته من أخطاء في العراق في سوريا أيضًا، فدمرت سوريا وقتلت أهلها وشردتهم وهي تدعي حماية محور المقاومة، ولو كان هدف محور المقاومة حماية سوريا، فإن التدخل الإيراني قد دمر سوريا أكثر مما لو لم يحميها الحرس الثوري الإيراني ومليشيات حزب الله اللبناني، وتكرار الخطأ نفسه كان باستدعاء إيران روسيا للقضاء على الثورة السورية بعد أن فشلت هي وحرسها الثوري ومليشياتها العراقية واللبنانية من القضاء على الثورة السورية.
وأدركت إيران أن أمريكا استدرجتها إلى معارك واسعة لاستنزافها في العراق وسوريا واليمن، فبادرت إلى تحسين علاقتها بتركيا، فغيرت سفيرها في أنقرة، وأرسلت سفيرًا جديدًا رفيع المستوى، مهمته إصلاح العلاقات الإيرانية مع تركيا، لأن أضرار التدخل الروسي في سوريا لم تقف عند حدود الاعتداء على تركيا، بل بدأت تتمادى على النفوذ الإيراني أيضًا، وخصوصًا مسألة تقسيم سوريا بحسب الخطط الأمريكية.
أدركت تركيا وإيران معًا أن المخطط الأمريكي يحمل مخاطر كبيرة على نفوذ إيران في سوريا ولبنان أولاً، ويحمل مخاطر أخرى لإضعاف إيران وتركيا وتقسيمهما أيضًا، حيث إن الأداة المستعملة لذلك هي الأحزاب الكردية الانفصالية الموجودة في العراق وفي سوريا وفي تركيا وفي إيران، وإذا استخدمت الورقة الكردية في تركيا فإنها سوف تفتح ورقة الأهوازيين العرب والأذريين والبلوشيين وغيرهم لتقسيم إيران.
وتحققت المصلحة المشتركة بين تركيا وإيران، فتركيا تريد من إيران منع استغلال الأحزاب الكردية أداة في تقسيم سوريا أو لإضعاف تركيا، وفي المقابل فإن تركيا تستطيع أن تقدم لإيران تعاونًا في حل الخلاف الإيراني السعودي، الذي أرهق إيران جدًا.
وهكذا قدمت تركيا نموذجًا للدبلوماسية الهادئة المرنة غير المنفعلة التي تقدم المصالح التركية العليا فوق أي اعتبار، والتي لا تبالي بالقضايا العاطفية والحب والكراهية، وهو ما نحتاجه بشده في عالمنا العربي.