عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2010, 12:46 PM
المشاركة 38
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سلطة النفسي على شعر المتنبي :
وقف اليوسف على مجموعة من الظواهر الفنية المميزة لشعر أبى الطيب محاولا إرجاعها إلى الأصول النفسي، منطلقا من فرضية أن المكون النفسي هو المسؤول على إنتاج المكون الفني.
إن أولى الظواهر الفنية المائزة التي استوقفته هي تواتر المبالغة وتضخيم الصورة، وقد استشهد في هذا الإطار بيت شعري واحد :

ورعن بنا قلب الفرات كأنما



تخر عليه بالرجال سيول (الطويل)


فلم استغنى اليوسف بهذا المثال عن مجموعة من الأبيات الشعرية تتضمن مبالغات ؟ في اعتقادي، أن اليوسف اختار هذا النموذج ليعزز به أطروحته حول تواتر أسلوب المبالغة المنبني على مفهوم إرادة القوة " لان رغبة المتنبي في القوة هي ما دفعه باتجاه تضخيم الصورة عبر شحنها بتشبيهات واستعارات قائمة على المبالغة في القوة " .
فمواطن الاهتمام في تحليله للبيت ، ركزت على المظاهر التي تشير إلى القوة، كترويع الخيل لقلب النهر، والهجوم عليه بكثافة وزخم، وسيول المقاتلين.
إن هذا الاستشهاد بمثابة نموذج يمكن أن نقيس عليه جل مبالغات المتنبي، لكن هل كل مبالغات المتنبي جيدة ؟ سيكون الجواب بالنفي، إذ يتراوح توظيف المبالغة في شعر المتنبي بين القوة والضعف، وقد وضع اليوسف قانونا كليا لعيار توظيف أسلوب المبالغة عند المتنبي، حيث إن النزعة الإضاخية هي المنتجة للمبالغات الجيدة أما النزعة الرضوخية فهي المسؤولة على إخفاق المتنبي في تحقيق مبالغات جيدة، وفي غياب استشهادات نصية لتأكيد هذا القانون الكلي يدعو اليوسف إلى ضرورة تحليل الصور المجازية عند المتنبي وتفكيكها ثم ردها إلى مكوناتها الأولية من اجل الوصول إلى النواة الأصلية التي هي نزعة القوة والسيطرة.
أما الظاهرة الفنية الثانية المنبجسـة من نزوع المتنبي نحو القوة فهي الطابع الملحمي، خصوصا في وصف الحرب والقتال، حيث صير الشاعر ألفاظه في وصف المعارك تنوب مناب الفعل. إن هذا التجويد في الوصف نابع من تفرده في وصف الأشياء المتحركة. مما يضفي عليه حيوية نشيطة.
إن هذه النزعة الملحمية تستأثر باهتمام القارئ لأنها تشبع فيه جنوحا نحو القوة من أجل إثبات الذات. وهنا يوظف اليوسف مفهوما أرسطيا ينتمي إلى الحقل النفسي، إنه مفهوم التطهير، يقول " ويبدو أن هذا القانون النفساني الكبير هو المبدأ الأول الذي انتج الملاحم الشعبية في الثقافة العربية إبان انحطاطها، فربما كان السلاطين يدركون هذا المبدأ حين حثوا الكتاب على تأليف " تغريبة بني هلال، ورواية ' سيف بن ذي يزن '، وقصة عنترة وحكاية " الزير " ... وعلى هذا المبدأ نفسه يمكن أن نفسر ولع الأطفال بأفلام الحرب والملاكمة والفروسية والمغامرات ".
أما الظاهرة الثالثة فهي ظاهرة التقابل، وبالرغم من أن هذه الظاهرة تنتمي للحقل البلاغي فان الناقد سيعطي الأولوية في دراستها للملمح النفسي والاجتماعي. يرى اليوسف أن التقابل في شعر المتنبي هو نتاج لازدواجية حادة في شخصية المتنبي، تمثلت في التقابل بين التسامي الحيوي والتشاؤم العدمي، مما عمق حسن التضاد في وعيه الفني.
ينطلق اليوسف من فرضية ضمنية تفيد أن النص الأدبي ذو وجهين وجه ظاهر والآخر باطن، ومهمة التحليل هي الانكباب على الوجه المخفي للنص والشخص إضافة إلى سعيه الحثيث نحو القبض على الأنوية الكلية المتحكمة في ديمومة شعر المتنبي. لذا فانه في تناوله لظاهرة التقابل، سيقف على القانون الأساسي لهذا المظهر البلاغي مسترشدا بمفهوم التضاد الفلسفي وأثره في ذهن المتلقي، فقد بين " فلاسفة الجدل أن التضاد هو القانون الأكبر للواقع والوعي في آن معا. وهذا يعني أن كل تضاد يعكسه الفن من شأنه أن يغذي العقل وان يشده إليه نظرا لان العقل لا يمكن لشيء أن يجتذبه اكثر من التضاد " .
فاليوسف يبحث عن عوامل موضوعية للتقابل الحاضر بشكل بارز في شعر المتنبي من خلال النفسي والاجتماعي، إذ يتعذر فهم المتنبي بمعزل عن عصره ومن حيث أنه انكشاف ذاتي لتخلخل يجري في الواقع الموضوعي. إن نتائج التضاد والتقابل عمقت لدى المتنبي حس الأزمة والتوتر، وجعلته يقيم مبالغات أدبية على مبدأ المفارقة حيث تواتر في شعره الطباق كحامل شعوري للتضاد، ليؤدي وظيفة اجتذاب المتلقي مع تحقيق عنصر التنوع التعبيري.
ولقد عمق وعي التضاد حس الحركة في شعر المتنبي، وبهذا الصدد يستعير اليوسف المفهوم الهيجلي حول قانون الجدل قائلا " إن أهم القوانين الجدل أن الشي يتحرك بسلبيته الداخلية 2 ". وليدلل اليوسف على هذه الفرضيات وقف على مجموعة من الأبيات الشعرية تعكس هذا الحس الحركي عاقدا مقارنة بين المتنبي وامرئ القيس. ومن بين الأبيات التي استوقفته قول الشاعر :

على قلق كأن الريح تحتي



أوجهها جنوبا أو شمالا ( الوافر )


لقد استوقفته كلمة " قلق معلقا عليها بأنها تعني في العربية الاضطراب والحركة الدائمة للشيء في آن معا.
إن العنصر الحركي في شعر المتنبي علامة مائزة، لفتت انتباه النقاد القدامى والمحدثين، إلا أن اليوسف يشير إلى أن هؤلاء النقاد فاتهم ملاحظة الدور الذي تلعبه الألفاظ الدالة على الحركة في التأثير على المتلقي، ومرد ذلك في نظره أن النقد اللغوي لم يدخل بعد إلى ثقافتنا المعاصرة. وهذا الدور هو ما يمكنني أن ادعوه بالفاعلية التأثيرية المحايثة أو الفاعلية التعبيرية اللامباشرة " . فما المقصود بهذه الفاعلية ؟ إنها المستو الباطني للقول الشعري، ولإبرازها يعمد اليوسف إلى تحليل بيت شعري ورد في قصيدة للمتنبي يرثي فيها أم سيف الدولة يقول :

ونرتبط السوابق مقربات



وما ينجين من خبب الليالي


فقد ميز اليوسف بين مستويين لتحليل هذه الصورة :
1) المستوى السطحي المباشر : وفيه أبرز أن الخيل لا تنجينا من الموت، فهناك مطاردة بين خيلين : الخيل الحقيقية والليالي. لكن خيلنا لا تنجينا من خيل الليالي.
2) المستوى الباطني : وفيه يبرز أن وقع العدو القابع في خلفية الصورة هو الذي أضفي على البيت قوة تعبيرية وجمالية، فالحركة في البيت بشكل فني يتخذ وسيلة للتعبير عن فكرة عميقة.
وكذلك الشأن بالنسبة للميمية التي مدح بها الشاعر سيف الدولة في موقعة الحدث والتي مطلعها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم



وتأتي على قدر الكرام المكارم (الطويل)


يمكن رد عظمتها وقوتها إلى جمالية التضاد والحركة. لذا فاليوسف يدعو إلى دراسة موسعة لتحليل شعر المتنبي تحليلا لغويا، لإبراز الدور الذي تلعبه صور الحركة في العالم الشعري لدى المتنبي.
لقد أضفى حس الحركة ووعي التضاد على شعر المتنبي بعدا ثنائيا تجلى في هيمنة الطباق كوجه بلاغي وظيفي وليس زخرفيا ، فهذا البناء المزدوج يعكس بالمقابل واقعا متناقضا، فهناك جدل بين الفني والواقعي " وبديهي أن اللغة المتناقضة هي من سمات الوعي المتشعب، أعني الوعي المدرك للسلب والعامل على تخطيه. إن مثل هذا الوعي يقع في مشاقة حادة مع شرطة التاريخي أدت إلى مشاقه حادة داخل اللغة