عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2010, 12:42 PM
المشاركة 34
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ج- المتنبي والاغتراب :

نفس المصدر السابق
يرجع اليوسف استمساك المتنبي بذاته إلى الإحساس القوي باليتم وإلى وهن العلاقة بينه وبين الآخرين، ويعتبر نرجسيته تعويضا عن هذا الوضع المربك، " فحين تتناقض كمية العطف المتلقاة من الآخرين يعمد الفرد إلى تعويض، يتلخص في أن يقوم هو بإغداق الحنان على نفسه.. ويأتي تعاطف الذات مع ذاتها بمثابة آلية دفاعية تحول دون الانهيار الداخلي "، إن هذه النرجسية تخفي شدة الحاجة إلى عطف الآخرين، وبهذا الصدد يستشهد اليوسف بهذين البيتين :

أنا ترب الندى ورب القوافي



وسمام العدى وغيظ الحسود ( )


أنـا في أمـة - تـداركها الله-



غـريـب كـصـالح في ثمـود


معلقا عليهما بقول " البيت الأول نرجسية مفرطة أما البيت الثاني فغربة وشعور حاد بالاضطهاد " .
إن الملاحظة الأولى التي يمكن أن نبديها من خلال هذه الاستنتاجات في التحليل عند اليوسف، هي أنه طبق بعض مقولات المنهج النفسي عند آدلر، الذي ينطلق من فرضية أن الإنسان كائن ناقص، إما عضــويا أو اجتماعيا، ولكي يتفادى عقدة النقص والدونية يلجأ إلى استحداث آليات تعويضية تضمن له التوازن النفسي، أما الملاحظة الثانية فتتجلى في المراوحة بين معطيات التحليل النفسي الفرويدي والأطروحات الأدلرية، خصوصا حينما عالج العقدتين النرجسية والسادية معتبرا أن النرجسية هي بمثابة آلية تعويضية عن فقدان الحنان الأمومي.
في خضم هذه الأجواء النفسية المعقدة يطفو على سطح التحليل مصطلح الاغتراب، هذا الأخير يتصل أساسا بالجوانب النفسية لدى الإنسان، وهو مفهوم ضارب في القدم من حيث ملازمته اللصيقة بالإنسان وكينونته منذ أن وطأت قدمه الأرض، أي منذ الخطيئة الأولى التي جعلت الإنسان ينفصل عن موطنه الأصلي، أي الزمن الفردوسي، حيث ظل هذا الإنسان يعيش اغترابا وجوديا ونفسيا في مواجهته للمجهول. فالقلق الوجودي، والإحساس بالتيه في العالم وفتور العلاقات الاجتماعية هي عوامل تولد الإحساس بغربة الذات في العالم. ومن تم فإن المفهوم يتخذ بعده الفلسفي، إذ كلما قوي الوعي والإدراك اتسعت دائرة الاغتراب.
يعتبر اليوسف أن إحساس المتنبي المبكر بالضعة والهوان هما المسؤولان عن الإحساس بالاغتراب، مستدلا على ذلك بالرجوع إلى المعجم الشعري في المراحل المبكرة من حياة المتنبي، فقد استقرى هذه المرحلة ليجدها " تعج بألفاظ في مثل : الهوان والغربة، العز، الذل، عزيز، كريم، العجز، الجبن، وإن دلت هذه الألفاظ على شيء فإنما تدل على طموحه في التفوق، الشيء الذي يخفي وراءه حسا عميقا بالضعة ".
إن هذا الحس الاغترابي وليد التصادم بين نزعتين، فالمتنبي يحس بنفاسته وبصغاره في الوقت نفسه، في عمق الهوة بين رغبته وطموحه وبين الواقع. من ثم فإن المتنبي أضحى بطلا إشكاليا. يشبه بالمسيح المضطهد من طرف اليهود وبصالح الذي أنكرت عليه ثمود نبوءته.
غير أن إحساسه بالدونية ليس سلبيا، لان " اشتداد حس الدونية يتناسب طردا مع قوة الشخصية وشجاعتها وأصالة محتواها، مثلما يتناسب طردا مع شدة ميلها نحو رفض الواقع الدنيء انه انكشاف ظاهري لعمق حس الأنفة ".
فالمتنبي في تصور اليوسف هو تلك الشخصية التي استلهمت العصر وتمثلته، إنه تمثل حي لعصر ينوء بتناقضات صارخة، إنه ذلك المبدع الفرد الذي استطاع أن يعبر عن رؤية العالم لمرحلة بكاملها، رؤية عصر في حالة انهيار وسقوط. وآية ذلك أن شخصية المتنبي وشعره مبصومان بتقابلات ومفارقات صارخة، فلديه جنوح نهم نحو " العليان والتفوق الذي يواجهه حس القنوط واللاجدوى 2 ". لقد أدرك المتنبي الانحطاط بوصفه " ضرورة تاريخية محتومة، بوصفه القدر الموضوعي للإمبراطورية، والدليل على ذلك هو فكرة الزمان الهرم الذي يطرحه مقابل الزمان الشاب ".
إن المتنبي يعيش بين قوتين متضادتين جعلتاه يعيش طوال حياته معاناة ممزقة. وقد أدى هذا الصراع - حسب اليوسف - أحيانا إلى التنكر لبعض مبادئه القومية، حيث تخلى في أخريات حياته عن اعتقاده في قوة العربي حين مدح ابن العميد حيث " أرغمه نزوعه الرضوخي في أحيان قليلة إلى خيانة مبادئه القومية العزيزة عليه 1 " ومرد هذه الردة القومية نابع من بعدين : إحدهما نفسي والآخر اجتماعي انعكس في مدى تعمق الهوة بين الفرد وآلة الدولة.
نستنتج من خلال هذا التحليل أن معالم المنهج عند اليوسف متعددة المشارب، إذ يمكننا رد المصطلحات التي اشتغل بها الى حقلين رئيسيين : حقل نفسي وحقل اجتماعي.
فمصطلحات الفرد والعليان والشخصية المزدوجة كلها تحيل إلى البعد النفسي، في حين أن آلة الدولة وأزمة العصر والروح العربي والانعكاس تحيل إلى الحقل الاجتماعي، فاليوسف يصف الظاهرة من وجهة نظر التحليل النفسي ويفسرها بآليات المنهج الاجتماعي و البنيوي التكويني. أن النتائج الذي خلص إليها يطغى عليه التفسير السوسيولوجي، فالمتنبي، من خلال تحليله، هو المعادل الموضوعي لعصره، وهو مرآة عكست الشرخ الحضاري، وان استمراريتة المتنبي وصموده جاءا نتيجة لتجذر المتنبي في عصره أو تجذر العصر فيه. وحين أراد اليوسف أن يلتمس حلا للتناقض الكامن في شخصية المتنبي عزاه إلى التناقض الصارخ في المجتمع، وعمد إلى معيار كمي، مبرزا أن العليان والتسامي لدى المتنبي اكبر من النزعة الرضوخية في تركيبه النفسي، وذلك أن نزعة التسامي متجذرة في ذاته بينما نزعة الخمود يقحمها الواقع الخارجي على نفسه، فهو شبيه لعصره، إذ الأصل فيه القوة والسمو أما الخمود فهو نتيجة عامل خارجي