عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2010, 12:40 PM
المشاركة 32
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ب- نرجسية المتنبي عند اليوسف :
نفس المصدر السابق:
إن مصطلح النرجسية استقاه المحلل النفساني سيجموند فرويد من الأسطورة اليونانية، ونرجس هذا هو " ابن الحورية الزرقاء ليروب، من مدينة Thespide، حاصرها يوما إلـــه النهر سيفيسيوس بقنواته، فتمكن من اغتصابها وقد قالت العرافة Lyriopy أن ابنها نرجس سوف يعيش حتى يبلغ سنا كبيرا بشرط أن لا يعرف نفسه أبدا.
وكان نرجس رمزا للجمال، وفي الواقع كان أي شخص له العذر إذا وقع في حب نرجس حتى عندما كان طفلا. وعندما بلغ ستة عشر سنة وقع في حب أحباء وعشاق من الجنسين رفضوا دون رحمة ودون تفكير أن يحبهم، إذ كان لديه غرور كبير.
... وفي يوم من الأيام أرسل نرجس سيفا إلى شخص يدعى امينوس، أحد معجبيه وأكثرهم إلحاحا وقد سمي نهر امينوس باسمه، وفعلا قتل امينوس نفسه على عتبة نرجس داعيا الآلهة أن ينتقموا منه. وسمعت الدعاء الآلهة أرامتوس آلهة الصبر أخت أبولو، وسمعت الصلاة فدعت أن يقع نرجس في الحب. فآثر في يوم من الأيام الذهاب إلى منطقة يطلق عليها " دوناكون " في إقليم ميساثيبا عند نبع ماء صاف كالفضة ، ولم يكن قد عكرته الأغنام ولم تكن الطيور قد شربت منه ولم يسقط فيه أبدا فرع شجرة من الأشجار التي تجاوره وعندما انثنى نرجس ليشرب وقع في حب الصورة المنعكسة في الماء، وفي أول الأمر حاول أن يقبل الولد الجميل الموجود بمواجهته ولكن سرعان ما تعرف على نفسه فظل يحملق مفتونا في النبع ساعة بعد ساعة، وأخذ يتساءل كيف يمكنه احتمال أن يمتلك وفي نفس الوقت لا يمتلك ؟ وهده الحزن ومع ذلك فكان يسعد ويفرح في عذابه عالما على الأقل أن نفسه الأخرى سوف تبقى مخلصة له مهما حدث.
أما عن إكو Echo، فبالرغم مما أصابها فإنها اشتركت معه في حزنه، وكانت تردد ما يقوله نرجس وخاصة في آخر حياته عندما اخذ يردد " خلاص " " انتهى". عندما كان يغمد خنجره في صدره، وأيضا آخر آه نطق بها نرجس هي قول [آه أيها الشقي المحبوب دون جدوى وداعا]. وقد روت دمه الأرض، ومن هذه الأرض نمت زهرة النرجس البيضاء بعروقها الحمراء ".
إن تأويل هذه الأسطورة اليونانية مكن فرويد من اكتشاف هذه العقدة، وهي افتتان الذات بنفسها، وقد حاول اليوسف أن يستجلي معالم هذه العقدة النفسية من خلال شعر المتنبي وسيرته الحياتية.
و لكي يؤكد أطروحته التجأ في البداية إلى مساءلة شعر الصبا وشعر مرحلة المراهقة، فقد استشهد بالأبيات التالية التي قالها المتنبي في صباه :
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي(الطويل)

إن هذا البيت الذي استشهد به اليوسف قد أربك شراح الديوان، حتى قال أبو العلاء المعري في شرحه للديوان " وقد أكثر الناس في هذا البيت، من حيث أن " ما " ليست من أدوات التشبيه. وقال ابن جني : إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول : تفسيره أنه كان كثيرا ما يشبه فيقال : كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضا عن هذا القول : امط عنك تشبيهي " بما " و " كأن "، فجاء بحرف التشبيه وهو " كأن " وبلفظ " ما " التي كانت سؤالا فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل "ما" للتشبيه لان جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعا.... وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني : إن المتنبي سئل فذكر : أن " ما " تأتي لتحقيق التشبيه كقوله [ عبد الله الأسد] : ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلا قال : ما هو إلا كذا، وآخر قال : كأنه كذا، فقال امط عنك تشبيهي بما وكأنه، و " ما " في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى " ما " و"كأن" ، إذا كان له هذا الأثر .
ويقول ابن سيده في شرح هذا البيت : " أما " (كأن) فلفظة تشبيه، فالكلام بها هنا على وجهه كأنه يقول، لا تقل في : كأنه الأسد، ولا كأنه السيف، ولا كأنه الموت أو السيل فكل ذلك إنما هو دوني، ولا ينبغي أن تشبه الشيء بدونه، إنما المعتاد عكس ذلك. وأما (ما)فليست بلفظة تشبيه بمنزلة كأن، إنما استجازها في التشبيه، لأنه وضع الأمر على أن قائلا قال : ما يشبهه ؟ فقال له المسؤول : كأنه الأسد، كأنه السيف، فكأن هذه التي للمسؤول، إنما سببها (ما) التي للسائل، فجاء هو بالسبب والمسبب جميعا. وذلك لاصطحابهما. ومثل هذا كثير. وقد يجوز أن تكون (ما)هنا بمعنى الجحد، فجعلها اسما، وأدخل الحرف عليها، كأنه سمع قائلا يقول : ما هو (إلا) الأسد، وفي هذا معنى التشبيه أي مثل الأسد، فأبى هو ذلك، ثم رجع إلى النوع الأشرف فقال : " فما أحد فوقي ولا أحد مثلي، مفضلا نفسه عليهم ".
إن أغلب شارحي الديوان استوقفهم هذا الاستعمال الغريب للفظة " ما " باعتبارها أداة تشبيه، ولم ينفذ الشرح إلى الدلالة البعيدة المسكوت عنها في البيت. لذا، فاليوسف في تعليقه على هذا البيت الذي استشهد به من أجل تأكيد أطروحته حول نرجسية المتنبي، لن يتوقف عند سطح البيت فهو يقول : " ربما كان تفوقه على زملائه في الصف، وكذلك شعوره بالنقص الاجتماعي إزاء أولاد الأشراف الذين يشكلون مجمل التلاميذ في تلك المدرسة، هما الدافعان الأساسيان اللذان دفعاه إلى هذا الموقف النرجسي المبكر ". ولتعميق هذه الأطروحة سيستمهد بأبيات أخرى يتجلى فيها الاعتداد بالنفس بصورة مكشوفة يقول المتنبي :
أي محـل أرتـقي
أي عظيم أتقـي (مجزوء الرجز)
وكل ما خلق الله

وما لـم يـخـلق
محتـقـر عن همتي

كشعرة من مفرقي

إن هذا الأبيات التي قالها المتنبي في صباه مفتخرا، اختلف فيها الشراح من حيث الحكم على مضمونها فأبوالعلاء المعري في شرحه، اكتفى فقط بإعادة كتابه الأبيات نثرا، وذاك أن معنى الأبيات لا يكتنفه الغموض، يقول : " أي محل ارتقى إليه ؟ فلا مزيد فوق ما أنا عليه فاصير غليه، وأي عظيم أخشى منه وأقدر ؟ وكل شيء خلقه الله وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همته ".
غير أن أبا البقاء العكبري ، ناقش مضمون هذه الأبيات عقائديا، وأخلاقيا فاتهم الشاعر بالكذب وأنه لزمه الكفر، يقول شارحا الأبيات ومعيدا لشرح الواحدي . قال الواحدي " يريد : أنه لم يبق محل في العلو ولا درجة إلا وقد بلغها، وأنه ليس يتقي عظيما ولا يخافه، وكذب في ادعائه مترقى العلو، بل محله العلو في الحمق، وفي شرح البيتين 2-3، سيستشهد بشرح الواحدي. قال الواحدي : ليس معناه ما لا يجوز أن يكون مخلوقا كذات البارئ وصفاته لأنه لو أردا هذا للزمه الكفر بهذا القول، وإنما أراد ما لم يخلقه، مما سيخلقه بعد، وإن كان قد لزمه الكفر باحتقاره لخلق الله، وفيهم الأنبياء المرسلون، والملائكة المقربون " . أما عبد الرحمان البرقوقي فقد اكتفى في شرح الأبيات بنقل ما ورد في شرح الواحدي.
في حين أن اليوسف سيلاحظ أن هذه الأبيات تعكس نرجسية المتنبي بشكل صارخ وتخفي شيئا آخر، هو الإحساس باللاجدوى، هذا الإحساس الذي ظهر في شعر الصبا بشكل جنيني سيعرف تطورا في مرحلة النضج.
إن النقد القديم الذي تعامل مع المتنبي، وأغلب الشروح المقدمة حول شعره، تعاملت مع شعر الصبا بنوع من التجاوز والصمت، وقد يرجع ذلك إلى المعايير التي سنها النقد، حيث أن هذا الأخير لم يعن بمرحلة الصبا، خصوصا وأن كتب السير والتراجم والوفيات، كانت تقفز في الغالب عن هذه المرحلة فتقدم لنا الشاعر أو الأديب ناضجا. وإذا أشير إلى هذه المرحلة فيقدم فيها الكاتب أو الشاعر قد حصل العلوم والاشعار وحفظ القرآن، ولا يقدم الحيثيات والتفاصيل عن هذه اللحظة.
لقد تحكم هذا السنن الثقافي في جل الكتابات التي ترجمت 1 للمتنبي، بحيث لا تذكر من حياته الطفولية سوى ما يتعلق بالعلم والحفظ وجمع اللغة من أفواه البدو، فنجد أن المتنبي في صغره كان يتردد على مكتب يقرأ فــيـه أبناء أشراف الـشــيــعـة ، وأنـه كـان يـتـردد علـى دكـاكـيـن الوراقـين، إن أبـاه أخذه إلى بـادية السماوة بعد غزو القرامطة للكوفة ، ليتعلم اللسان العربي القح الذي لم تخالطه رطانة أهل المدن.
أما المناهج الحديثة وخاصة المنهج النفسي، فإنها أولت هذه المرحلة من حياة الفرد قيمة أساسية سيما وأن هذه المرحلة تعتبر من المحددات الأساسية لتكوين الشخصية وبنائها. لهذا السبب ألفينا " اليوسف يركز اهتمامه على هذه اللحظة الشعرية ليستخلص منها محددات شخصية المتنبي التي سترافقه طيلة حياته.
خلص اليوسف إلى نتيجة مفادها أن المتنبي أحس بتفوقه وسط محيط كان يشعر فيه بنقص اجتماعي ومن تم أصبحت نرجسيته تعويضا عن هذا النقص، وتعويضا عن الإحساس بالاضطهاد " فالذات تمعن في احتضان ذاتها كلما أوغل الواقع في إحباط النزعات الفردية ". إلا أن هذه النرجسية - كما يرى اليوسف - ليست سلبية خصوصا وان مفهوم الرجولة يتصدر قائمة القيم الاجتماعية و العربية والاعتزاز بالانا هو موضوعة تتواتر بشكل كبير في الشعر العربي. وقد جاء المتنبي ليجسد نرجس الأسطوري في ارض الواقع العربي. وان هذا التجسيد الذي أفضى بالانا حد التضخم ليعد جانبا مهما لإضاءة سر ارتباط العرب بشاعرهم المفضل.
وبالمقابل يلاحظ " اليوسف " ظهور نزعة سادية مجاورة للنزعة النرجسية حيث إن هاتين النزعتين تتعايشان في كيان واحد، وذلك نتيجة للتعامل المزدوج تجاه الإحباط الذي مسني به الشاعر، فهو مرة يتـعالى عليه ومرة يحس بالعبث واللاجدوى.
إن هذا التعامل المزدوج يجعل الذاتي تتأرجح بين نوازع نرجسية ، هي المولدة للنزعة الحيوية وحب الحياة، ونوازع سادية لحب الموت والفناء. فهذه النزعة الأخيرة هي التي أبرزت في شعر المتنبي ميولا مبكرا نحو تدمير الذات، وقد اعتبرها اليوسف ظاهرة ثانية مركزية عند المتنبي.