عرض مشاركة واحدة
قديم 08-08-2010, 03:32 PM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
أوراق ساخنة (2) : الفكر وسيلة النهوض الحضاري

من يغوص عميقًا في تاريخ الحضارات، وتطور الوعي والثقافة والمعرفة يجد أن النهوض الحضاري كان دائمًا ملازمًا، لا، بل نتيجة حتمية للنشاط الفكري والعكس صحيح، فقد كان النهوض الحضاري يتراجع عبر العصور بشدة وحدة في ظل غياب النشاط الفكري الفلسفي.

ففي العصور القديمة، وحين نشط الفلاسفة الإغريق في استعمال العقل ووسيلته التفكير، وغاصوا في أعماق عقولهم ونفوسهم، وحاولوا التوصل إلى المعرفة من خلال البحث والتفكير، بهدف التوصل إلى إجابات لكل الأسئلة الوجودية التي كانت تشغلهم: مثل من أين جاء الإنسان؟ ولماذا يموت ؟ وما أصل الأشياء؟ نجد أنالحضارة ازدهرت بشكل لافت، وواضح لا يمكن إنكاره، حتى أن آثارها ما تزال قائمة إلى يومنا هذا، وهي بمنزلة اللبنة الأساسية في البناء الفكري الإنساني المتراكم.

والمدقق يجد أن الحضارة والإنجازات الحضارية قد ارتفع شأنها، بعد أن أسس أفلاطون أكاديميته، ليتم تدريس الناس أساليب التفكير والبحث، ومساعدتهم على الوصول إلى الحقيقة، حيث اعتقد أن الأسرة لا يمكنها أن تقوم بعملية التربية والتعليم القائمة على تفعيل العقل.

لقد كان نتاج تفكير تلك العصبة من الفلاسفة الأفذاذ هو بحق الأساس الحقيقي لجميع العلوم في جميع المجالات، وقد ظلت الحضارة مزدهرة طوال المدة التي استمر فيها النشاط الفكري والفلسفي الذي امتد من حوالي (600سنه قبل الميلاد)، إلى بداية ما يسمى بالعصور الوسطى، حيث يلاحظ المدقق في تاريخ الثقافة والمعرفة أن أوروبا غرقت في عصر ظلامي أطلق عليه اصطلاحًا العصور الوسطى، وهي تمتد من العام (400 بعد الميلاد) تقريبًا إلى عام (1200 بعد الميلاد). والملاحظ أن بداية عصر الظلام يتزامن مع قوة وسطوتها، الكنيسة ونفوذها في الدولة، حيث أصبحت هي السلطة الحاكمة والمشرعة.

وقد سادت الكنيسة التي كان ينظر إليها على أنها (مملكة الله) من خلال فكر القديس أوغسطينوس تحديداً، حيث شملت أفكار القديس اوغسطينوس جوانب متعددة مثل إن في الدين حدودًا لا يمكن للعقل تجاوزها، وأن الدين المسيحي فيه سر إلهي لا يمكن إدراكه إلا بالإيمان وحده.

وبالنسبة للقديس أوغسطينوس فإن الشر يأتي من عصيان البشر لله، كما أن القديس أوغسطينوس يلغي حق أي إنسان في انتقاد الله حول مفهوم تخليص بعض البشر من الهلاك، وليس كلهم، لذلك فإن الحياة عنده، وبالتالي عند المسيحية هي قدر محتوم، كما أن التاريخ عنده ضروري لتربية الإنسان، وإلغاء الشر.

المهم أن القديس أوغسطينوس ابتعد في أطروحاته،ونظرياته اللاهوتية عن الفلسفة الإغريقية، على أساس أنه لا حاجة للتفكير ما دام الإيمان اللاهوتي موجودًا، رغم أنه لم يرفض الفكر المثالي الأفلاطوني، الذي تحدث عن الأفكار الأزلية، لكنه رفض النهج الأرسطي في التفكير، واستخدام العقل، وكأن الكنيسة تبنت أفكاره، وقد كان مؤثرًا جدًّا في الفكر المسيحي في تلك القرون.

وعلى إثرسيادة هذه الأفكار المسيحية الأصولية، أغلقت الكنيسة أكاديمية أفلاطون، وأصدرت من بين إجراءات تربوية وتعليمية وتنظيمية وتشريعية قانون البركة، بمعنى أن الكنيسة أصبحت ممثلة الله على الأرض، في مملكة الرب تمنح البركة، وما إلى ذلك، وتقدم التعليم اللاهوتي على التعليم الفلسفي الأكاديمي القائم على العقل بدل الإيمان.

والملاحظ أن هذه الإجراءات، وسيطرة الكنيسة، والأخذ بنظرية الخلق والإيمان الموحى به، بدون الحاجة للتفكير واستخدام الفلسفة والفكر على الطريقة الأرسطية، لا بل محاربة الفلاسفة وتكفيرهم، هو الذي أدى إلى الانحدار الحضاري، وهو الذي أغرق أوروبا تحديدًا في عصر الظلام الطويل،
والدليل على ذلك هو بزوغ عصر الحضارة الإسلامية خلال تلك الحقبة الزمنية، فقد أقدم المسلمون الأوائل الذين توسعت دولتهم إلى شمال أفريقا وإسبانيا على المعرفة بجميع فروعها عملاً بتعاليم دينهم الذي يحض على التفكير والتبصر والتفكر، ولم يجدوا تناقضًا بين التفكير الفلسفي والإيمان، فانكبوا على الفلسفة و العلوم الإغريقية التي وجودها في مدينة الإسكندرية ونهلوا منها بشغف منقطع النظير، وأضافوا إليها، فتطورت العلوم على أيديهم تطورًا مذهلاً.

في العصور الوسطى ولد الإسلام، وانتشرت الثقافة الإسلامية، وبعد موت النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام (632 م)، كان الإسلام قد انتشر بلغته العربية في الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وإسبانيا، وقد أتاح ضم العرب المدينة الهللينية (الإسكندرية) إليهم الاطلاع على العلوم اليونانية، فعملوا على ترجمتها وتطويرها.

والمعروف أن المسلمين والعرب قد لعبوا طوال العصور الوسطى دورًا مهيمنًا في مجال الرياضيات، والكيمياء، وعلم الفلك، والطب، والفلسفة، وفي مجالات كثيرة أخرى حيث تفوقت الثقافة العربية الإسلامية على المسيحية. ومن المعروف أيضا أن الكندي الذي عرف باسم فيلسوف العرب توفي عام (870م)، وكان قد كرس جهوده لتحقيق هدفين: أولهماالإحاطة بكل ما قاله الأوائل، وثانيهما إتمام ما لم يتمه الأوائل، ووضع كل ذلك باللغة العربية. و في المغرب ظهر ابن باجة بفلسفته الأخلاقية، وقد تأثر به ابن طفيل الذي جاء بعده، واشتهر كثيرًا بكتابه (حي بن يقظان). وكان أهمفلاسفة المغرب هو ابن رشد الذي درس فلسفة المشرق، والفلسفة الإغريقية على السواء، ودافع عن الفلاسفة في كتابه تهافت التهافت. كما ترجمت أعمال أبن رشد لاحقًا إلى كثير من اللغات، وترك الأثر الأكبر على الفلسفة الأوروبية. كما أن الفيلسوف العربي ابن خلدون أسس علم الاجتماع من خلال مقدمته الشهيرة التي بنت عليها الحضارة الإنسانية جميع مفاهيم علم الاجتماع الحديث وأسسه كلَّها.

وبينما كانت أوروبا ترزح تحت ظلام الكنيسة، متأثرة بالأصولية الدينية التي سعت لتعطيل العقول على اعتبار أن السبيل الصحيح للوصول إلى الحقيقة هو الإيمان الكنسي، كانت شعلة العلم بمختلف فروعه تشع وترتفع في بلاد العرب والمسلمين، ويبدو أن المسلمين، وبخاصة عرب إسبانيا قد عَرفوا التقليد الأرسطي ومارسوه طوال القرون الوسطى، وهو الذي ساهم في إنجازاتهم العلميةالمميزة واللافتة، ولا شك في أن موقع إسبانيا الجغرافي ساهم في نقل العلوم والحضارة والتأثير الإسلامي إلى باقي دول أوروبا بعد انحسار سيطرة الكنيسة.

أما البلاد التي ظلت تحت تأثير المسيحية، فلم تشهد تحولاً على الثقافة والتطور الحضاري إلا بعد ولادة القديس توما الإكويني، الذي تبنى الفكر الفلسفي الأرسطي، في العام (1225م)،وكان له تأثير كبير في الفكر المسيحي، كونه ثاني أكبر باحث وفيلسوف عرفته المسيحية في تلك الفترة. وواضح أن القديس توما الإكويني حاول التوفيق بين الإيمان والفلسفة، واعتبر أن كليهما يوصلانإلى الحقيقة، وهو ما شكل خلخلة في سلطة الكنيسة والأصولية المسيحية، حيث بدأ النهوض متزامنًا مع ضعف سلطة الكنيسة.

كما يبدو أن القديس توما كان من بين الذين تأثروا بإنجازات الفكر الإسلامي ونهضته، حيث يبدو أن بعض علماء العرب قد زاروا أوروبا في تلك الفترة، أي في آواخر القرن الثاني عشر بدعوة من أمرائها، وأثروا في علمائها، ومن بينهم توما الإكويني الذي تأثر بفكر الفلاسفة المسلمين المبني على النهج الأرسطي أصلاً.

لذلك أعيد اكتشاف بعض كتابات أرسطو في أوروبا، وشيئًا فشيئًا راحت تترجم من العربية إلى الإغريقية واللاتينية، مما أحيا الاهتمام بالعلوم الطبيعية، وبالعلاقة بين الإيمان المسيحي والفلسفة الإغريقية. وعلى إثر ذلك بدأ في أوروبا ما يسمى بعصر النهضة الذي عادت فيه أوروبا لتصبح مركزًا للحضارة، وتطورالعلوم، حيث ازدهرت الفلسفة ومناهجها، وانتعش التفكير العقلي البعيد عن الإيمان اللاهوتي، وظهر من أكد على أهمية التفكير، حتى أنه ربطه بالوجود، فقال " أنا أفكرإذًا أنا موجود".

لكن في المقابل بدأ التفكير والبحث يخبوان لدى العرب والمسلمين تحت تأثير كتابات الأصولية الإسلامية وفكرها، وتحديدًا فكر الإمام أبو حامدالغزالي الذي تقمص بشكل أو بآخر، من حيث يدري أو لا يدري، دور الكنيسة في العصورالوسطى، وكان له تأثير مشابه لتأثير القديس أوغسطينوس، من حيث رفضه للتفكير بأسلوب الفلاسفة العقلاني، حيث ظن أن الحقيقة لا بد أن تصل للإنسان عن طريق الإيمان بالوحي والإلهام، على اعتقاد أن العقل يوصل إلى الضلال، وقد ضمن تفكيره ذلك في كتاب تهافت الفلاسفة" الذي هاجم فيه الفكر الفلسفي، وطريقة الفلاسفة في التفكير.

هذا ليس تشكيكًا في نية هذا العالم الموسوعة وقصده، فلاشك في أنه كان مندفعًا في سعيه لتجنيب الناس طريق الضلال الذي كاد أن يقع فيه هو نفسه، كما يقول في كتابه "المنقذ من الضلال". لكن منهجه كان له عظيم الأثر في تعطيل عقول الباحثين والعلماء المسلمين الذين أصبح ينظر إليهم كزنادقة، وربما تم تكفير بعضهم لتجاوزه في تفكيره وآليات بحثه ما اعتبر مسلمات إيمانية وخطوطًا حمراء لا ينبغي تجاوزها.

لذلك نجد أن ابن رشد، الذي حاول الرد على ما ورد في طرح الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" يمثل نهاية المفكرين الإسلاميين العقلانيين العظماء، وبداية الانحطاط الفكري والحضاري الإسلامي الذي ما يزال ممتدًّا إلى أيامنا هذه. بينما تطورت مناهج التفكير، وتعددت مدارسه في أوروبا، وانعكس ذلك على جميع جوانب التطور الحضاري، والإنجازات التي ما كانت لتحصل لولا التحرر الفكري الذي سمح بولادة مناهج البحث الحديثة والتطور العلمي الهائل.

وكمثال يمكن من خلاله التدليل على خطورة التفكير الأصولي في العصر الحديث، ما ارتكبته تلك العصابة التي آمنت بالمسيحية الجديدة، وظنت أنها يوحى لها، وأنها تمثل إرادة الرب على الأرض، ومكلفة بتحقيق العدالة السماوية، وذلك من خلال ماارتكبته هذه العصبة من جرائم بحق الإنسانية، لاحتلالها بلاد الرافدين، وشن حرب عالمية مدمرة تعددت أضرارها، وارتكاب جرائم فظيعة بحق الإنسانية، تجاوزت فيها كل الشرائع، والقوانين، والأصول الإنسانية والأخلاقية.

وقد أدت هذه الحماقة إلى دمار هائل في منجزات حضارة بلاد ما بين النهرين، والحضارة الإنسانية ككل، ولم يقتصر أثرها المدمر على ما ألحقته من دمار في الشرق الأوسط، وإنما أدت إلى أضرار هائلة على مستوى العالم والمجتمع الأمريكي نفسه، وأدت إلى الانهيار المالي الكبير الذي أصبح يشكل عائقًا أمام التطور الحضاري الإنساني، وخلق مجاعة لا سابق لها، و لا أحد يعرف أين ستقف آثاره المدمرة التي أدت حتى الآن مثلاً إلى انهيار كثير من البنوك والشركات الكبيرة ، مما زاد في حجم البطالة، وسيكون له أثر مدمر على جميع مجالات الحياة لعدة أجيال قادمة.

كل ذلك يؤكد، على أهمية الابتعاد عن الأصولية الدينية المثالية، بكافة أشكالها ومناهجها، وبدلاً من ذلك دعم وتبني وإعمال العقل والفكر الذي هو وسيلة التفكير العقلاني، وإعادة إحيائه، والعمل بمناهج الفلسفة والتفكير، من أجل النهوض، والتقدم الحضاري، وتحقيق نهضة لا سابق لها. وإن ذلك يدعونا، نحن العرب والمسلمين، إلى إعادة النظر في موقفنا من العقل والتفكير الفلسفي ومناهج العلوم الطبيعية، والتوقف الفوري عن اعتبارها خروجًا عن الأصول الدينية، لا بل واعتبار ذلك تعطيلاً للعقل، وهو أمر لم تناد به شريعتنا السمحة أبدًا، لاسيما وأن ديننا قد حثنا في كثير من تعاليمه على التفكير والبحث.

ولذلك كله يمكن القول، أن الفكر والتفكير هما وسيلتنا للنهوض من جديد، وعليه لا بد من إحياء مناهج الفلاسفة على اختلافها، فالتفكير ومناهجه تعمق الإيمان، والعقل هو الوسيلة لتطور الوعي والثقافة والمعرفة، وبذلك نسمو وتسمو الحضارة الإنسانية.