عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2012, 11:32 PM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الباب الثاني : أشكال النروع الأسطوري وتجلياته - الحدث الأسطوري
من منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 2002

تتعدّد أشكال النزوع الأسطوريّ في الرواية العربية المعاصرة بتعدّد النصوص الروائية التي تنتمي إلى مجاله، وإلى حد يمكن القول معه إنّ كلّ نصّ روائي ينجز شكلّ النزوع الخاصّ به، والمميّز له من سواه.‏
ويمكن تنضيد مجمل هذه الأشكال في ثلاثة: شكل ينزع إلى استلهام حدث أسطوريّ، أي إلى الاتكاء على أسطورة بعينها، وثان ينزع إلى استلهام رمز أو أكثر من الرموز الأسطوريّة، وثالث ينزع إلى استلهام البناء الأسطوريّ. من غير أن يعني ذلك أنّ كلّ نص روائي يستقلّ بشكل بعينه، إذ ثمّة نصوص يستجمع كلّ منها لنفسه أكثر من شكل، كما يتردّد فيه أكثر من أسطورة. بمعنى أنّ هذا التنضيد لا يعدو كونه عملاً إجرائياً بحتاً اقتضته طبيعة الدرس النقدي فحسب، ويخضع لمنطق غلبة شكل على غيره من الأشكال الأخرى داخل النصّ الروائي الواحد.‏

فكما ثمّة، على سبيل المثال،
- في رواية "رامة والتنين" أسطورة رئيسية تشكّل أحد أهمّ حوافز النزوع الأسطوريّ في الرواية، هي أسطورة الموت والانبعاث، ثمّة، أيضاً،
- استعارات من أساطير أخرى تعزّز ذلك النزوع وتثمّن حضوره في الرواية، إذ تستدعي الأسطورة الفرعونية، إيزيس وأوزوريس، المعنية بأطروحة إحياء الإله وبعثه، رموزاً أسطوريّة عدّة، كالعنقاء، والتنين.
وإلى جانب أسطورة المخلّص، على سبيل المثال أيضاً، التي تشكّل أبرز علامات الرمز الأسطوريّ في رواية "الحنظل الأليف"، والتي تتجلّى من خلال شخصية "آدم البرّي"، ثمّة بناء أسطوريّ يُداخِل ما بين مستويين متضادين بالمعنى الموضوعي ومتعاضدين بالمعنى الفنّي / الجمالي: مستوى الواقع، ومستوى الأسطورة.‏
أعني بالحدث الأسطوريّ: ما يحيل على أسطورة مركزيّة من المنجَز الذي أبدعته المخيّلة البشرية في مغامراتها الفكرية الأولى، وما يتماهى والنسيج الحكائي للنصّ الروائي ويشكّل بؤرة المحكيّ فيه. وبالرمز الأسطوري: الأساطير الجزئية التي لا تشكّل متوناً في السرود الروائية، بقدر ما تبدو حوامل يعزّز الروائي بوساطتها، وعبرها، مقاصد الكتابة لديه. أمّا البناء الأسطوريّ، فإنني أعني به: النصوص الروائية التي تشيد عوالم أسطوريّة من خلال واحد من مكوّناتها النصّية، الشخصية الحكائية، أو العالم التخييلي، أو الفضاء الجغرافي. أي النصوص التي تمتلك الشخصية الحكائية فيها قوى مفارقة لقوانين الواقع الموضوعي وتتمتّع بقدرات تتجاوز القدرات المألوفة للبشر وتنحرف بها إلى مستوى الكائنات الأسطورية، ثمّ النصوص التي يشيد كلّ منها عالماً منبتّ الصلة بمواضعات العالم الواقعيّ ويُنتج عالماً خاصاً به ما إن يجد نفسه في مواجهة قانون مهيمن حتى يبدأ بالتمرّد عليه ويبتكر ما ينقضه، وأخيراً النصوص التي يصوغ كلّ منها فضاء جغرافياً يحيل إلى بدايات الأشياء.‏

الحدث الأسطوري‏
يتوزّع المنجَز الأسطوريّ، بعامة، بين نوعين رئيسيين: أساطير تتعلّق بأصل الخلق والتكوين وبدايات الأشياء، وأخرى تتعلّق بظواهر الطبيعة وبأكثر مؤرقات الإنسان عبر عصور التاريخ المختلفة، أي: الموت والانبعاث.‏
فأسطورة / أساطير التكوين تتردّد في معظم المغامرات الفكرية الأولى، ولدى معظم الشعوب والمجتمعات، وإلى حد يمكن القول معه إنه ما مِن شعب "إلا ولديه أسطورة أو مجموعة أساطير في الخلق.. وأصول الأشياء"(1)، حاول الإنسان من خلالها تفسير نشأة الكون وكيفية ظهور عناصره إلى الوجود، ووعي الظواهر الطبيعية المحيطة به من جهة، ثمّ ابتكار الطقوس اللازمة لاسترضاء القوى المحرّكة لتلك الظواهر من جهة ثانية.‏
والسمة نفسها تتجلّى في أسطورة / أساطير الموت والانبعاث التي تبدو هي الأخرى قاسماً مشتركاً بين معظم تلك المغامرات بسبب ارتباطها بأكثر أسئلة الوجود إلحاحاً، أي: الموت، موت الإنسان والطبيعة، الذي دفع المجتمعات الأولى جميعها "إلى إبداع عالم أسطوريّ يتغلّب فيه الانبعاث على الموت"(2)، ويحرّر الإنسان من العذاب والألم(3).‏
وبتتبّع تجلّيات هذا المنجَز في التجربة الروائية العربية، وربّما في مجمل الأجناس الأدبية العربية الحديثة، يخلص المرء إلى أن ثمّة حدثين أسطوريّين مركزيين يحاكيان تلك السمة المميّزة لترجّح المنجَز نفسه بين النوعين المشار إليهما آنفاً، ويشكّلان المصدر الأسطوريّ الأول لهذه التجربة بعامة، أي التكوين، والموت والانبعاث، بسبب ما تفيض به هاتان الأسطورتان من حمولات دلالية معبّرة عن الأسئلة الأكثر إلحاحاً في الواقع العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى الآن، أي منذ شواغل عصر التنوير الفكرية والحضارية، مروراً بأسئلة المراحل التالية للاستقلال الوطني على المستويين السياسي والاجتماعي، وبالأسئلة الجارحة التي أنتجتها المفاصل الأكثر حساسية في التاريخ العربي الحديث: النكبة الفلسطينية، وهزيمة حزيران، واتفاقات السلام.‏
1 – أســـطورة التــــكوين:‏
على الرّغم من الأساطير بعامة مثّلت زاداً جمالياً للكثير من الإبداع الأدبي العربي، وتمّ استلهامها بأشكال ورؤى مختلفة، وفي معظم الأجناس الأدبية، وعلى الرّغم أيضاً من أن الجنس الروائي يُعدّ أكثر هذه الأجناس استيعاباً لاستلهام ذلك الشكل من أشكال المغامرات الفكرية الأولى، فإنّه لمن اللافت للنظر ضمور أساطير التكوين في التجربة الروائية العربية على نحو يكاد ينفي القول بوجودها، ومسوّغ ذلك، كما يبدو، جهارة هذه الأسطورة بما يتضادّ والمقدّس الديني، ولاسيّما الإسلامي، الذي يعلّل فعّالية الخلق على نحو مفارِق للنصوص الأسطوريّة.‏
عــودة الطــائر إلــى البحـــر:‏
يُمثّل النزوع الأسطوريّ أحد أهم العلامات المميّزة لتجربة حليم بركات الإبداعي، وقد أفصحت هذه العلامة عن نفسها منذ مجموعته القصصية الأولى "الصمت والمطر" 1958، وما لبثت أن تتابعت في معظم نتاجه الروائي: "عودة الطائر إلى البحر"، و"طائر الحوم"، و"إنانة والنهر"، لتشكّل سمة دالّة على دأبه في إنجاز نصّ إبداعي معبّر عن تجذّره في تراث المنطقة المتوسطية، وعلى الإمكانات الكبيرة التي يزخر بها هذا التراث من جهة، والتي مكّنت الأدب العربي الحديث، بأجناسه المختلفة، من أداء جمالي جديد لموضوعاته من جهة ثانية.‏
وتُعدّ روايته "عودة الطائر إلى البحر"(4)، الصادرة بعد الهزيمة الحزيرانية بعامين تقريباً، أكثر تلك العلامات بروزاً في هذا المجال، أي: النزوع الأسطوريّ الذي يترجّح داخلها بين أسطورتين مركزيتين: أسطورة التكوين بروايتها التوراتية، وأسطورة الهولندي الطائر، ثمّ ما يتردّد بينهما من أساطير جزئية، أو إشارات أسطوريّة، تعزّز ذلك النزوع وتعلي من شأنه في كلّ من المتن والمبنى الحكائيين.‏
ومهما يكن صحيحاً أن أهمية "هذه الرواية تكمن.. في اعتمادها على أسلوب فني جديد"(5)، فإنّ هذه الأهمية لا تتحدّد بهذا الأسلوب وحده، كما لا يعني أنه "لولا هذا الأسلوب.. لفقدت كلّ قيمتها"(6)، فالمتن الروائي وما يزخر به من إشارات مهمة إلى الأسباب التي قادت إلى الهزيمة تنازع ذلك الأسلوب مكانته فيما يجعل من الرواية علامة مميّزة في مسار التجربة الروائية العربية، في المرحلة التي صدرت فيها خاصة.‏
وعلى الرّغم من أن معظم الدراسات التي تناولت هذه الرواية عنيَ بالحديث عن الأسطورة الثانية، وعدّها الحامل الجمالي لخطابها، مأخوذاً، كما يبدو، باستثمار الروائي لها، على نحو جزئي، في عنوان نصّه، فإنّ الأسطورة الأولى تبدو المحرّك الأساسي لهذا النزوع، وأكثر الوحدات السردية تعبيراً عن تلك الدلالات التي رغب الروائي في بثّها بين تضاعيف هذا النصّ، حتى ليمكن القول إنّ الثانية لا تعدو كونها محفزاً تأليفياً يثمّن تلك الدلالات، ويستكمل، في الوقت نفسه، ما يبدو نقصاً في الأسطورة الأولى. ويؤكّد ذلك أن أسطورة التكوين، وعلى امتداد الرواية، تُعنى بدور العربيّ وحده في إنتاج الهزيمة، وهو الدور الأهمّ، كما يتبدّى في تضاعيف الرواية، بينما تُعنى أسطورة الهولندي الطائر بإرادات القوى / الآلهة التي حكمت على هذا العربيّ بالإبحار إلى المجهول دائماً. بمعنى توجّه الأسطورة المحرّكة إلى الداخل العربي، إلى الأسباب التي أنتجت الهزيمة، والتي عُدّت الرواية، من خلال إلحاح الروائي على تعريتها وتفكيكها، من أكثر الصور الروائية العربية قوة وواقعية في التعبير عن أحداث هذه الهزيمة وعن انعكاساتها على المجتمع العربي(7).‏
ولعلّ من أهم ما يميّز استثمار الروائي للأسطورتين معاً هو اتصالهما بما يسمّيه "توماتشفسكي": "التحفيز الواقعي"، الذي يعني توفّر العمل الحكائي على درجة معقولة من الإيهام بأن الأحداث المتخيَّلة، حتى ما ينتسب منها إلى ما هو أسطوريّ، محتملة الوقوع(8)، ثمّ إفصاحه، أي الروائي، عن مصادره الأسطوريّة في مجمل استدعاءاته لكليهما.‏
وتتبدّى هذه السمات جميعها في تصدير الروائي لنصّه بما يسمّيه مستعاراً من كوميديا دانتي الإلهية: "العتبة"، وبما يعني أن ثمّة لعنة أنتجها العربي بنفسه، فغلّت حركته إلى الجحيم / المطهر، وعوّقت وصوله إلى الفردوس، وعلى نحو مقلوب ينتهي بفعّالية الخلق إلى العماء بدلاً من انتهائها إلى الخلق، محاولاً من خلال ذلك هجاء الخراب المدمّر الذي صنعه العربي بيديه، فكانت الهزيمة إحدى علاماته الأولى: "العالم ماء، والظلام يغمر كلّ شيء.. يبدو له كأنما كلّ شيء يتكوّن من جديد. الأسطورة التوراتية تتكرّر، فالأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة. إنما روح الله لا ترفّ على وجه العالم كما يُروى في التكوين الأول. ويتسلّق رمزي صفدي جبلاً.. الحزن يجتاحه. يقول ليكن نور. النور لا يكون.. يقول ليكن جلد. الجلد لا يكون.. يقول لتجتمع المياه في مكان واحد ولتشرب اليابسة. المياه لا تجتمع واليابسة تتفتت من العطش.. ويقول لتطر الطيور فوق الأطفال في المخيّمات. الطيور لا تطير.. ويقول ليكن الإنسان على صورة الله.. الإنسان لا يُصنع على صورة الله.. ورأى العربي كلّ ما فعله فإذا هو سيء جداً"(9).‏
وإمعاناً منه في ذلك الهجاء يعيد سرد تلك المروية في خاتمة الرواية أيضاً، منتجاً بذلك شكلاً دائرياً مغلقاً يبدأ بالعماء وينتهي إليه، رغبة منه، كما يبدو، في القول بأن العربي لم يُخلص لنفسه، ولم يحاول تطهير واقعه من لوثة الخراب التي سبقت الهزيمة، إذ يؤول المحكي في الرواية إلى النقطة التي بدأ منها، وعبر تعديلات طفيفة لا تمسّ جوهر النصّ الافتتاحي، ولا تضيف إليه سوى إشارة إلى أن انهماك العربي بفعالية الخلق قد يمتد طويلاً في الزمن إنْ لم يقو على استنهاض بلاده من حال العطالة التي تفترس ساستها، ومؤسساتها، ووعي الناس فيها.‏
والسمات نفسها المميّزة لاستدعاءاته لأسطورة التكوين، ولاسيّما إفصاحه عن مصدره الأسطوريّ وفيما يؤكد أطروحته المركزية القائلة إنّ وعي العربي الناقص، بل العاجز، بأسباب الاستلاب الحضاري التي قادت إلى الهزيمة، تتجلّى في استدعائه لحكاية يعقوب مع الكنعانيين كما روتها التوراة أيضاً، وفيما يسمّيه: "مرة أخرى يختن يعقوب الفلسطينيين فيتهدّم المسرح"، التي تنتهي، على لسان بطله رمزي صفدي، إلى أن "التـاريخ يعيـد نفسه"(94)، وإلى أن أبناء يعقوب في الحاضر هم أبناء يعقوب الغابر، وأن فلسطينيي اليوم هم كنعانيو الأمس الذين غرّر يعقوب بهم، ولم يعِ أحفادهم ما حلّ بهم وبأرضهم على يديه، وما يزالون في غفلة ممّا يتربّص بهم من إبادة كما حدث لأسلافم(9).‏
وعلى النحو نفسه يتجلّى استدعاء الروائي لأسطورة الهولندي الطائر، التي تبدو، في الرواية، استكمالاً لأسطورة التكوين التوراتية، ومحاولة لتخصيب مرجعيات الخراب والعجز المدمّرين اللذين يسلبان العربيّ إمكانات الخلق أو الخلاص من لعنة الإبحار في تيه لا ينقطع ومجاهل لا تقود إلى غير السراب، والتي عدّها بركات نفسه "مجازاً لتجربة الفلسطيني المنفيّ الذي تسنح له بين وقت وآخر فرص تاريخية للعودة إلى وطنه ليكتشف في كلّ مرة أن الآلهة التي تتحكّم بمصير الإنسان تفرض عليه العودة إلى المنفى مرة أخرى"(10).‏
وكما يفصح الروائي في استدعائه لأسطورة التكوين عن مصدره الأسطوريّ يفصح عن ذلك المصدر فيما يتّصل بهذه الأسطورة أيضاً: "بلاده هولندي طائر.. أمس كان يصغي لهذه الأوبرا التي استوحاها فاغنر من أسطورة تدور حول سفينة مسحورة لا يمكنها الوصول إلى ميناء، وهي لا تزال تبحر منذ الأزل. كان الهولندي الطائر قد أقسم أنه سيدور حول جبل تحيط به العواصف العاتية وإن اضطرّ أن يُبحر حتى يوم القيامة. وغضبت الآلهة أو الشياطين عندما سمعت قسمه فحكمت عليه أن يبحر منفياً إلى الأبد ولن تحلّ عنه هذه اللعنة ما لم يجد امرأة تخلص له حتى الموت"(28).‏
وكما يجهر الروائي برموزه الأسطوريّة في استعاراته للمروية التوراتية في التكوين، يجهر برموزه الأسطوريّة في استثماره لهذه الأسطورة أيضاً، غير أنّ ما يميّز هذه الاستعارة من سابقتها في أسطورة التكوين التي يكتفي الروائي بالإشارة إليها في مفتتح الرواية وخاتمتها هو تردّد هذه الأسطورة، أي: الهولندي الطائر، في مواقع مختلفة من السرد، وعلى نحو متواتر لمفردة "البلاد" التي يرتدّ الضمير فيها إلى رمزي صفدي، والتي تمتدّ لتشمل، ليس فلسطين وحدها، بل الوطن العربي بأكمله: "بلاده سفينة بلا دفة"(29)، "بلاده.. يجب أن تكون مخلصة لنفسها حتى الموت"(30)...‏
وبين هاتين الأسطورتين تتردّد إشارات عدة إلى أحداث أو رموز أسطوريّة تنتمي إلى مواقع مختلفة من الجغرافية الإنسانية، ويعمّق جميعها حركة ترجّح الواقع العربي بين حال العماء ومحاولة الخلق التي تنتهي إلى العماء نفسه. وعلى الرّغم من أن بعض هذه الإشارات يعزّز ذلك الإيمان بجدوى تلك المحاولة، ويرى في الهزيمة ضرورة لتطهير الواقع من آثام التخلّف والتفكّك، على النحو الذي يتبدّى في قول السارد قاصداً رمزي صفدي: "سيعرّض نفسه لطوفـان العالم، ولن يخـاف، كما خاف يولسيس، أن تسحره أغاني حوريـات البحر"(10)، فإنّها في أغلبها الأعمّ تؤكّد ذلك العماء، وتثير، في مواقع مختلفة من الرواية، الإحساس بلا جدوى المقاومة، بمعنى أنها تنفي النتيجة القائلة إن الروائي "متفائل بالغدّ، وبالقدرة على تجاوز أسباب الهزيمة، والانتصار"(11)، فـ"آخيل" يُهزم أمام "هكتور"، و"جسد أنكيدو يتساقط"(33)، ولعنة "تانتلوس" تحكم على الذين ينصاعون لإرادة الآلهة "بأن يقفوا عطاشاً في بركة من الماء"(62)، و"عشتروت تقتلع شعرها من جذوره، وتذرّ الرماد على رأسها"(156)، وسوى ذلك كثير.‏
وتعبيراً، كما يبدو، عن قلق الروائي في أن لا تكون رموزه السابقة قد أفصحت عن دلالاتها على نحو يُسلم مقاصده إلى سويّات معرفية مختلفة من القرّاء، أو رغبة منه، كما يبدو أيضاً، في تجذير نصه في بيئته المجتمعية العربية، يلجأ إلى ما هو شعبي، إلى "خرافة الضبع الذي خطف العروس"، التي لا تشكّل الرموز فيها سوى إضافات قليلة إلى رموز أسطورة الهولندي الطائر، والتي يصوغها الروائي وفق المنطوق والأسلوب الشعبيين للحكاية الخرافية. وغالباً ما تتجلّى هذه الخرافة داخل الرواية على النحو الذي تجلّت معه أسطورة الهولندي الطائر، إذ ما إن ينتهي الروائي من سرد الخرافة، حتى يبدأ ببثّ دلالات رموزها بين تضاعيف السرد: "فلسطين عروس اختطفتها الصهيونية.."(27)، وحتى يستلّ منها لازمة تأخذ في التواتر بين موقع وآخر من الرواية: "يغضب الفلسطيني العريس. يحمل بندقية. يطلق النار. لا يصيب. يهرب. يتسلّق شجرة، أسماها شجرة الثورة.. الشجرة لا تحميه. يبول الضبـع على ذيله ويرشّ، فينضبـع الفلسطيني.."(70)، "أبو رزق لا يزال مضبوعاً.."(83)، "بلادي أيتها العروس النائمة في سرير الضبع"(113).‏
2 - أســــطورة المـــوت والانبعـــاث:‏
تُعدّ أسطورتا: عشتار وتمّوز الرافدية، وإيزيس وأوزوريس الفرعونية، أكثر أساطير الموت والانبعاث تردّداً في المنجَز الروائي العربيّ الأساطيري، ليس بوصفهما الأسطورتين المركزيتين في بلاد الرافدين ومصر في هذا المجال فحسب، بل بوصفهما أيضاً الأسطورتين الأكثر امتلاء بالرموز التي مكّنت الروائي العربي من تعرية الواقع حوله دون مواجهة مباشرة مع القوى المتنفذة فيه من جهة، كما مكّنته من تجذير نصّه في تراث المنطقة العربية التي ينتمي إليها من جهة ثانية. ومن اللافت للنظر تعبير محاولات التجذير تلك عن انتماءات الروائيين القطرية أحياناً، والإقليمية أحياناً ثانية، والأيديولوجية أحياناً ثالثة، أكثر من تعبيرها عمّا هو قومي، إذ يكاد ينصرف معظم النتاج الروائي الأساطيري الذي كتبه الروائيون العراقيون، وروائيو بلاد الشام، والمنتمون إلى الفكر السوري القومي الاجتماعي بخاصة، إلى أسطورة عشتار وتمّوز الرافدية، كما في روايتي العراقيين: عبد الرحمن مجيد الربيعي: "الأنهار" 1974، وفاضل الربيعي: "ممرّات الصّمت"، ورواية هاني الراهب: "التلال" 1988، ورواية حليم بركات: "إنانة والنهر" 1995. بينما ينصرف مثيله ممّا كتبه الروائيون المصريون إلى أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية، كما في رواية عبد الحميد جودة السحّار: "احمس بطل الاستقلال" 1943، ورواية عبد المنعم محمّد عمرو: "إيزيس وأوزوريس"، ورواية حسن محسب: "رغبات ملتهبة" 1981، ورواية بهاء طاهر: "قالت ضحى" 1985..‏
أ – عشــتار وتمّــــوز:‏
تتردّد أسطورة عشتار وتمّوز الرافدية في الرواية العربية الأساطيرية عبر شكلين: جزئي يكتفي بسرد ملخّص للأسطورة، أو لأجزاء منها، كما في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي: "الأنهار"، وكلّي تبدو الأسطورة معه مندغمة بالمتن الحكائي للنصّ الروائي، كما في رواية فاضل الربيعي "ممرّات الصمت".‏
- ممرّات الصّــــمت:‏
تبدو رواية فاضل الربيعي "ممرّات الصمت"(12) امتداداً لمشروع إبداعي حاول الربيعي التأسيس له في مجموعته القصصية "أيها البرج يا عذابي" 1978، التي تتّسم نصوصها جميعاً بتطوافها "في ساحة من الخيال الفانتازي المغشّى بحالة الواقع"(13). وما لبث هذا المشروع أن أفصح عن نفسه بقوّة في روايته "عشاء المأتم" 1988 التي جاءت استكمالاً لما كان قد بدأه في تلك