عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012, 09:20 AM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
قصائد في مديح اليُتم: البهاء حسين .. يكتبُ 'كأنَّه يتذكَّر'
المصدر : القدس العربي.


2012-05-01

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

القاهرة ـ محمود خيرالله: يكتب الشاعر المصري البهاء حسين قصيدته مسنوداً إلى تجربة شديدة الخصوبة، لا يقف عند العَتَبات التي بالت حوافُّها تحت أقدام شعراء، في قصيدة النثر المصرية، التي أثارت من الجدل أكثر مما حققت من الرضا، لدرجة أنه بدا في ديوانه السادس 'بكل جسدي ..بكل طفولتي' ـ الصادر مؤخراً في القاهرة عن دار 'العين' ـ كمن يضيف بصمةً جديدةً على شعرية تخصّه، لا تتشابه مع أحد، ولا تعترف بالمزاج العام لقصيدة جيل التسعينيات، الذي ينتمي إليه البهاء ـ على نحوٍ ما ـ في نهاية المطاف.
تُثبت قصائد الديوان ـ أولاً ـ أنها لا تقف عند رصد مشاهد متفرقة من حياته، تنتمي إلى نظرية سادت الشعرية المصرية في العقدين الماضيين، والتي تقول إن القصيدةَ يمكن أن تولد في الفراغ المشهدي الواسع، أو في استعمال متتالية 'العادي والهامشي واليومي'، التي اعتبرها بعض النقاد دليلاً على الشعرية الجديدة، وتُثبث ـ ثانياً ـ أنها لا تلتمس حتَّى وصفة 'الإيجاز، التوهٌّج، المجانيَّة' على نحو ما عبَّرت الأكاديمية الفرنسية سوزان برنار، في كتابها الأشهر عربياً 'قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا'، بل يتمسك البهاء في ديوانه الجديد ـ ثالثاً ـ بمقاربة عوالم حياتيَّة مباشرة، في لغة شديدة التقشف، تعكس انشغاله بما سُمِّي يوماً ـ على سبيل الاستنكار ـ 'القضايا الكبرى' في الشعر، مُستخدِماً مجازاتٍ وقاموساً وعوالم لا تتأفف من قاموس الفقر واليُتم، منتبهاً إلى شعرية الأسى الذي يصاحبهما دائماً وإلى الأبد، والذي لم يكن نمطاً حاضراً بقوة في مشاريع قصيدة النثر المصرية، رغم تعدٌّدها، رابعاً.
في ديوانه الجديد ـ ثمة شذرات من سيرة شعرية ـ قال إنها بدأت بديوان 'عود ثقاب أخير' الصادر في العام 2002 وتستكمل في جزءيْن لاحقيْن ـ حيث تبدأ القصائد من'المقابر' لتنتهي بـ'الوحدة'، باحثاً بينهما ـ بجسده وطفولته معاً ـ عن عدة درجات في سلم الموت، كان عليه أن يطأها ليفهم نفسه أولاً:
' حتى البيوت تجد مَن يُعيِّرها،
تجد العتباتُ من يحمِّلها عبء حظِّهِ العاثر،
العتباتُ التي قوَّسها الانتظار
فصارتْ أرامل'
شعرية العالم هنا تأتي من الأسى الإنساني لحياة طفل بين أم مترمِّلة وأب غائب، منذ الإهداء: 'مثل أمي وخالتي روحية، الأرملتين، أمشي كأننَّي أتذكر..'، إلى القصيدة الأخيرة: 'وحده في البيت'، مروراً بقصيدتي: 'ببطء باتجاه المقابر' و'قد تكون النافذة أختاً' وغيرها، حيث يعتقد المرء جازماً أن تيمة 'الأم ـ الموت' هي كلمة السر في هذا الديوان، وعبارة الكاتب البرتغالي الشهير خوسيه ساراماجو التي تقول 'اترك زمام أمرك للطفل الذي كُنته' ..هي عنوانه الداخلي بامتياز.
القصائد مُترعة بالحزن والأرامل، تتحرَّق فيها الذات شوقاً إلى ماضيها، كأنَّها تحفُره، تحكي قصة طفولة يتحوَّل فيها العالم إلى نوع من المرارة تتساقط تلقائياً على الشعر، ومن أول سطر في الديوان:
' لأنني أكرهكم
لا يعلق بذاكرتي منكم غير الأحذية'
الشاعر ـ الذي يُعرِّي مراراته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً ـ يريد أن يطلعنا على حفاء الطفولة، الذي يجعل الأرض مؤلمة أكثر من اللازم، 'كانت أمي تظن أن المستقبلَ/ قادرٌ على صنع حذاء/ لامرأة وطفل يبيعان الفاكهة للظهيرة'، وهو حريص على أن يرى العالم من مناطق جديدة على الشعر، وعلى أن يضيف إلى القصيدة نمطاً من العجائز، من اللائي يعشْن تحتَ أشباحِهن، حيث أعادت ترتيب الحقائق من جديد في عين طفل يسائل الأشياء ويتماهى معها، إلى أقصى حد :
'ليس لدى فرنٍ من الطين مايقوله للنار،
سوى أجسادٍ مُبهمة
ليس للزنزانة
ليس للموت مَن يعيِّره باسمه'
وعلى الرغم من أن الطفل هو الذي يكتب في حقيقة الأمر، قصائد هذا الديوان، إلا أن الموت يأتي في كل القصائد تقريباً بوصفه أبسط الحقائق، لا في قصيدتي'ببطء باتجاه المقابر' و'موت دجاجة' فقط، بل في أغلب القصائد التي تحضر فيها 'الأم'، وأشباحها طبعاً معها، ما يوفر مزاجاً سوداوياً يميل إلى الحكمة في القصيدة، ويمنح مؤشراً على تمدد تجربة الشاعر، الذي تخطى الأربعين بقليل، ليصير ـ ربما ـ كهلاً في القصائد، كأنَّه يعيد إنتاج أمه، المأخوذة روحُها دائماً إلى هناك:
'لن أعرفَ مَن آخر شخصٍ
سيدركُه الموتُ في هذا العالم
وإلى أي حدٍ بالغ في تصوير الوحشة
وهو يموت بلا جمهور'.
لغة الشعر ـ على نقيضِ عدد من شعراء جيله ـ تأتي في أكبر قدرٍ ممكن من الشظف والتقشف، لا ارتجالية ولا ثرثرة، لا شيء يفيض في هذه اللغة المشدودة على حبل سري لا يُرى، لدرجةِ أن شاعرية اللغة تستمد نصف جماليَّاتها ـ على الأقل ـ مما تمحوه، كأنَّ المحذوفَ لغةٌ بحدِّ ذاتها، تمنح المكتوبَ في ديوان 'بكل جسدي..بكل طفولتي' حزناً إضافياً.
تعبِّر القصائد ـ فوق ذلك ـ عن خبرة جمالية باذخة بقصيدة النثر، تمددت في دواوينه السابقة، خصوصاً في 'نص الكلاب' و'آثار جانبية للسعادة' وفي خبرته كواحد من أهم صائدي 'قصيدة النثر المصرية'، حيث جازف بجمع أوَّل مُختاراتٍ شعريَّة تصدرعلى نفقة الدولة لهذه القصيدة، ـ العام قبل الماضي ـ في كتاب 'صيدٌ وحيد' الذي أصدرته 'مجلة إبداع'ـ والتي يرأس تحريرها مُعارض قصيدة النثر الأول الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وهو ما وضع الصيدَ كله في اختبارٍعسير.