عرض مشاركة واحدة
قديم 12-08-2020, 03:36 PM
المشاركة 25
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: رحلة امرأة تخطّت الستين
( 4 )
أبي دفن القمر



لم تُطِلْ جدتي البقاء عندنا ، فبعد عدة أيام ، عادت إلى عمّان من حيث أتتْ ، محمّلة بكيد لأمّ البنات ،
وكانت أمي تماثلت للبرء من جروحها الظاهرة ، لكن الجرح الغائر في القلب ، لم يُشفَ بعد وأظنّه لن يبرأ ، حتى يأتي الولد .
فالأعباء التي تنتظرها أجبرتها على النهوض ، فغادرت فراشها ولم تحظَ بالاهتمام الكافي ، فهي غريبة ، بعيدة عن أمّها وأخواتها ، وأختي الكبرى حنان لم تكمل الثماني سنوات بعد ، ولا تتقنُ أيّاً من الأعمال المنزلية سوى البسيط منها .
وبدأت أمي كعادتها تقوم على راحتنا وتنجز ما يحتاجه البيت من غسلٍ وكنس ٍوطبخ ، لم يكن عندنا غسَالة ثياب ، وكانت فوط الأطفال عبارة عن قطع مربعة الشكل من القماش الأبيض ، تخيطه أمي لهذا الغرض ، فكان مطلوب منها أن تغسلها كل يوم على يديها وتنشرها لتجفَّ، وتجمع الجاف منه وتطويه ، ثم تكنس وتُعِدّ الطعام قبل موعد رجوع أبي من عمله ، إنها أشغال شاقة ، ولأنه عصبي جدّاً كانت تخافه وتحسب له ألف حساب ،فنحن في كلّ سنة على الأقل نزيد نفراً ، وأعباؤها تتضاعف يوماً بعد يوم .
كانت تنجز أكثر أعمالها وهي تحمل سمر بين ذراعيها ، فقد وُلدت ضعيفة البدن خفيفة الوزن كثيرة البكاء ، وأكثر أيامها مريضة ، كبرت سمر وجاوزت الستة شهور ، بوجهها شاحب يُخفي خلفه أكثر من مرض وكأن الحزن الذي عاشته أمّي خلال ولادتها انعكس على صفحة وجهها الصغير، وذات يوم استيقظت أمي من نومها على صوت بكاء سمر علماً بأنها كانت طوال الليل تبكي ولم تهدأ إلّا مع خيوط الفجر الأولى وإذ بها تسعُل وعيناها حمراوان ودرجة حرارتها عالية وبقع بيضاء تنتشر في جوفها ، تركتها أمي في فراشها وقامت تساعد أبي حتى يغادرَ إلى عمله.
أنهتْ أمي أشغالها المنزليّة وأعدّت الطعام ، وعادت حنان من المدرسة ، أما هيام لم تكن قد سجلت في المدرسة بعد لكنها كانت لعوبة مشاغبة ، طوال اليوم ، كنت ألحظ أمي بين الفينة والأخرى تتفقد سمر وتضع كمادات الماء البارد على جبينها علها تشفى وتتوقف عن السعال ، ومن عادتي أن ألاعبَ سمر أو أحملها خلال انشغال أمي بالعمل المنزلي , ولكن هذا اليوم ، لم تسمح لي بذلك ، ولمّا سألتها عن السبب قالت : أخاف عليك من العدوى ، لم أفهم ، مع أنني كرّرت السؤال وتكررت نفسُ الإجابة إضافة إلى أنها مريضة بالحصبة ، مفردات جديدة تضاف إلى جعبتي ، عدوى وحصبة ، ولما عادت حنان من المدرسة لم تسمح لهما لنفس السبب ، ولم يأتِ أبي كعادته تأخر في الحضور ، انتظرنا والدي لنأكل سوياً ، لكنه لم يحضر على غير عادته ، فاضطررنا لأن نأكل قبل أن يعود ، أكلنا دون أمي فلم تشاركْنا وجلست معنا مكتئبة حزينة ، ولما سألناها عن السبب ، انفجرت بالبكاء ، قمنا من أماكننا كل منا تمسك بها من جهة وتمسح دمعها وتسأل عن السبب ، كل ما أعرفه أنّ سمر نائمة على السرير، يبدو أنه الموت ، مفردة جديدة تدخل عالمي الصغير ، فبكتها حنان وهيام بحرقة وحب الفضول عندي ، جعلني أتسلّلُ إلى الغرفة من غير أن يراني أحد لأرى بعيوني العدوى والحصبة والموت ، أمسكت يدها ، وهززتها بعنف علها تتحرّك ومن غير جدوى ولمّا لم تتحرّك ، جلست ألعب في عيونها المقفلة ، وأضاحكها ، لكنها كالخشبة ، تماماً كالتي كنت أصنع منها الدمى .
حضر والدي متأخراً من عمله سألته عن سبب تأخيره ثم أخبرته بموت سمر ، الغريب أنّ أبي لم يكن يلاعبها ولا يُضاحكها لكنه بكاها من قلبه ، لم يتناول طعامه وأسرع ليحضر شيئاً ما ، ورأيته يحملها بين ذراعيه ملفوفة بكوفلية بيضاء ، عرفت فيما بعد أنه الكفن . وخرج بها ولما سألت أمي : إلى أين يأخذ سمر ؟ أجابتني إلى العالم الآخر ، فقلت : أين يعني ؟ أجابتني وهي تبكي : إلى القبر سيدفنها ، سألت : شو يعني يدفنها ، قالت أمي وهي تمسح أنفها وخدَيها : يعني يضعها تحت التراب ،
قلت في نفسي : يا الله ما أقسى قلب أبي ، كيف يهون عليه أن يضع التراب على وجهها ، وعاد أبي متكئباً كأنه يحمل هموم الدنيا على كتفه ، ومنذ أن ذهب أبي وعاد وأمي لم تنفكَّ عن البكاء ، سألته : دفنتها ؟ قال : نعم ، هل تعلمين ؟!
رحمها الله كانت مثل القمر.