عرض مشاركة واحدة
قديم 05-21-2012, 02:06 PM
المشاركة 636
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
جرف الخفايا .. توحش مدينة و أحلام مضمرة
مجلة الرواية
د. أبو المعاطي الرمادي -كلية الآداب ـ جامعة الملك سعود
الرواية بشكلها الفني الآن بنت المدينة , فهي نتاج المدينة البرجوازية بتناقضاتها, وحيرة إنسانها وقلقه الوجودي , فبفضل قراءتها لواقع المدينة المعقد اجتماعياً , وسياسياً , وثقافياً, وعقائدياً, الواقع الزاخر بالنماذج البشرية والمفارقات الأيديولوجية, وضعت يدها على عوالم وتجارب لا حصر لها , عوالم ساهمت في بلوغها سن الرشد الفني , وساعدت على تطورها ونضجها وتنوع أشكالها وتقنياتها .
فالفن الروائي \" ابتدع ليعبر عن المدينة , وليس الريف أو القرية , وارتبط ازدهاره بنشأة المدن الكبرى \" (1 ) ولا عجب في ذلك ؛ فالمدينة على الدوام مركز صناعة التاريخ , و \" المـركز العصبـي لحضارتنـا \" (2 )*

ولعل تربة المدينة الخصبة هي سبب اتساع مساحة المنجز السردي المتخيل وامتداده عند الكاتب الواحد من ثنائية إلي ثلاثية ورباعية , بل وخماسية , وضخامة حجم غير الممتد , مثل ثنائية ترابها زعفران, و يا بنات إسكندرية لإدور الخراط , ورباعية الإسكندرية للورانس داريل , وخماسية عبد الرحمن منيف \" مدن الملح \" , وهو ما لم نره في الروايات التي تتخذ القرية بيئة مكانية لها .
والمتابع للمنجز الروائي العربي بداية من العقد السادس من القرن الماضي حتى الآن يجد أعمالاً روائية معنونة باسم مدينة بعينها, مثل \" إسكندرية 47 \" لعبد الفتاح رزق , و \" بيروت 57 \" لغادة السمان , \" ثلاثية غرناطة \" لرضوى عاشور, وأعمالا أخرى تحمل اسماً ينحو منحى إيحالياً على فضاء مدينة , مثل \" مدينة اللذة \" لعزت قمحاوي , وأعمالاً لا تعنون باسم حقيقي لمدينة , ولا باسم يحيل إلي مدينة ما , وتحمل اسماً وهمياً لا يشير من قريب أو من بعيد للفضاء المكاني للحدث , مثل روايات إسماعيل فهد \" المستنقعات الضوئية , والحبل, والصفات الأخرى \" , ورواية حنان الشيخ \" مسك الغزال \" , ورواية يوسف المحيميد \" فخاخ الرائحة، ورواية\" جرف الخفايا \" لعبد الحفيظ الشمري .

والاهتمام بذكر اسم المدينة الحقيقي \" لا يخلو بدوره من وظيفة ودلالة، ليس فقط لكونه يحدد لنا، في غالب الأحيان، ومنذ الوهلة الأولى، الفضاء الروائي ومسرح الأحداث والوقائع، ولكن أيضاً لكونه يمنح الفضاء قيمته وموقعه الخاص به على مستوى الكتابة والتلقي، وحتى على مستوى الاستهلاك ، على اعتبار أن لعبة العنونة هنا لا تخلو، هي أيضاً من وظيفة موجهة ومؤثرة على عالم التلقي في بعده التعددي . \" ويكفي أن نستدل، في هذا الإطار، بروايتي \" الوليمة المتنقلة\" لإرنست همنغواي، و\" القاهرة الجديدة \" لنجيب محفوظ. فبالنسبة للرواية الأولى, وفي ترجمتها إلى اللغة الفرنسية، تم تغيير العنوان الأصلي للرواية بعنوان آخر لا علاقة له بالأول وهو «باريس هي حفل (
Paris est une fête، وهو إجراء ربما تعمده المترجم أو الناشر لإظهار اسم المدينة \" باريس\" في العنوان وعلى الغلاف، على اعتبار أن \" باريس\" هنا هي التي تشكل الشخصية الرئيسية في هذا النص، وبالتالي وجب إبرازها للقارئ الفرنسي في الطبعة الفرنسية، وهو ما يشي هنا بأهمية إبراز المكون الفضائي/ المديني حتى على مستوى العنوان \"(3)
وهي ميزات لا نعدمها في الروايات التي تنحو منحى إيحالياً على مدينة و يتوفر في عنوانها لفظة مدينة , مثل \" مدينة اللذة \" للقمحاوى , و \" شطح المدينة \" لجمال الغيطاني , و\" سيرة مدينة \" لعبد الرحمن منيف ؛ فلفظة مدينة علامة إشارية تساهم في تحديد أبعاد فضاء الأحداث للمتلقي قبل الخوض في عملية القراءة .
لكننا نعدمها في الروايات الحاملة عنواناً مبهماً لا يشير للفضاء المكاني , وإن كانت عناوينها ذات بعد سيميائي طارح للأسئلة المثيرة , والمساهمة في تعميق الرؤية ولذة التلقي .
لكن مع هذه الاختلافات الشكلية فإن جل الروايات المتخذة المدينة فضاء مكانياً لها تتقارب مضموناً؛ فموقف الروائيين العرب من المدينة ينحصر في الرفض والنفور والكراهية المطلقة.
****
تبدأ الرواية المكونة من ستة عشر مقطعاً مرقماً ومعنوناً بحديث الراوي غير المعلوم عن مشاجرة بين \" صقر المعنى\" و \" مبارك راعي الربابة \" بدأت لسانية بنقد \" عنيف جاءت نبرته الحوشية الغليظة من حنايا مبارك راعي الربابة \" ( 4), بدافع من حقد دفين على بدايات شهرة \" بدأت تداعب المعنى \" (5 ) بعد أن ذاع صيته مطرباً, وانتشرت أغانيه بين قاطني ورواد \"جرف الخفايا \" تلك المدينة الوهمية , ثم حمي وطيسها إلي \" اشتباك بالأيدي , وصراع بالأرجل , وعض بأماكن عدة من جسديهما \" (6 ), وهدأت بعد تدخل الأصدقاء السكارى ( العزي فرقنا , و دحام المعداوي , و ضاحي الأبرق , وخليل المهبد , وخويلد الأملس , ورويان بن يفدك , وحمد المزين , ووحيد وفريد ابنا الشيخ فادي الأبيض) رفاق وكر \"عرين السباع \" الذي أسسه الطبيب المخلوع \"العزي فرقنا \" ليلتقي فيه مع رفاقه الهاربين من جحيم المدينة إلي متاهات اللاوعي .

بعد المشاجرة يستضيف الشاعر \" دحام المداوى \" صديقه \" صقر \" ليبيت ليلته بحجرة فوق سطح فيلا أبيه \" القوي المتسلط الذي تقيم معه زوجتان شرستان \" ( 7) مؤكداً عليه \" عدم الحركة والتحلي بالصمت لأنه في هذا المكان الحقير مهدد بوجبة أخرى من الضرب والرفس والطرد \" (8) من قبل المداوي الأب وزوجتيه الشرستين.

في صباح اليوم الثاني لم يجد \" دحام \" صديقه بالغرفة \" التي تركه بها , وجد باب الغرفة مفتوحاً ولا أثر لصقر الذي ترك عوده , ومحفظته , وبعض ملابسه. لم يهتم \" فـصديقه فنان يركبه الجنون \" (9 ), اعتاد منه على الاختفاء ثم العودة لعرين السباع , لكن الغياب طال , والقلق زاد ؛ فصقر وعوده أصيل لا يفترقان , وابتعاد صقر عن عوده لا يعني إلا شيئاً واحداً، هو موت صقر .

تواصل مساءً مع أصدقائه , تجرعوا خمر \" ماء العصافير \" تحت عباءة عتمة الخفاء , لكن عوالم السكر لم تفلح في انتزاع قلقهم على \" صقر\" . اقترح \" العزي فرقنا البحث عنه , وشاركه الرأي المدرس والكاتب \" خويلد الأملس \" , لكن بقية الرجال \" وقفوا ضد فكرة البحث عنه معللين الأمر بأن صقراً درويش ألفوا غياباته المتكررة \" (10 ) , لكن طول الغياب اضطرهم للبحث .

وفي بحثهم سلكوا كل السبل , سألوا في المستشفيات , وأقسام الشرطة , وفي المقابر , واستعانوا بالدجالين , وأصبح اختفاء \" صقر \" قضية وجهت أصابع الاتهام فيها لمبارك راعي الربابة , ودحام , وأبيه المداوي , لكن لم يظهر \" صقر \" , ولم يثبت موته , فنشط الأصدقاء وجعلوا اختفاء صديقهم قضية رأي عام , طبعوا صورته وهو حامل عوده وألصقوها في كل مكان غير هيابين من فرق حراس الفضيلة , وجماعة لحيان الأجرب, وفرق مكافحة الحريات العامة , لم يهدأ لهم بال إلا بعد أن وصل الأمر للسيد / الحاكم الذي أمر بتشكيل لجنة مهمتها معرفة سر اختفاء \" صقر المعنى \".
لكن كالعادة , اللجنة تفرعت منها لجان , وانضم إليها أشخاص لا يشغلهم \" صقر \" ولا اختفائه في شيء , كل ما يشغلهم ما سيحصلون عليه من عضوية اللجان. وكانت النتيجة عدم العثور على \" صقر \" , وكأنه تبخر .
*****
في رحلة البحث عن \" صقر \" / الرمز يتكشف لنا وجه مدينة أقل ما توصف به أنها مدينة متوحشة , من خلال إدراك رفاق عرين السباع لها . فهي مدينة المتناقضات \" تقبل يد السارق في أطرافها العليا , ويحكم على سارق الخبز في أطرافها السفلى , ويطلق سراح مغتصب طفلة أمام نظر خادمتها في الطرف اللامع من أحيائها , فيما يتوعد الإمام على المحراب في جانبها الشاحب أهل الغناء بالويل والثبور \" ( 11).

تقترف فيها كل أشكال المعاصي تحت عباءة الخفاء في ليلها الطويل , يتفنن أهلها في التخفي ويفعلون كل ما يريدون . رواد عرين السباع يتجرعون الخمر, ويدخنون الحشيش , ويستمتعون بالمتعة الحرام مع \" جوجة \" و\" فاتنة \" , ويمارس بعضهم اللواط بعلم الأصدقاء دون حرج , وتطمع \" فاتنة \" في جسد \" جوحة \" الفائر بالأنوثة ولا تعترض \" جوجة \" , تمادوا في غيهم حتى أصبح \" الإثم حالة عشق أبدي \" ( 12) , ويمارس فيها الدجل عياناً بياناً , ويحتل الدجالون مدعو معرفة الغيب مكانة مرموقة , ويتمتعون بحصانة تمنع التفكير في الاقتراب منهم . وفي المقابل رجال جماعة حراس الفضيلة, ورجال لحيان الأجرب يمزقون قميصاً لصبي عليه صورة كلب مدلل . \" فيما الخفافيش والجرذان تنهش أرضها لسوء تخطيط وعبث في مشاريع بنائها .. تلك التي لا تزال منظمات العالم تعجز عن تصنيفها ومجاراة تناقضاتها \" ( 13)
ترفع شعارات العدالة الاجتماعية والمؤاخاة , لكنها لا تطبقها , ينظر أهلها للغرباء شزراً \" بل تلمح على وجوههم أمارات الازدراء \" ( 14) لكل غريب , هي لا ترفض الغرباء بل تستقبلهم \" وتلبسهم أقنعة جديدة , وما أن يصبح الغرباء أهلا حتى تبدأ سحقهم وسحلهم لتغازل آخرين يبيتون على أعتاب رضاها \" ( 15) , والغريب في عرفها كل وافد إليها حتى ولو من مدينة مجاورة .إن أخطأ الغريب \" تمارس عليه ألوان التعذيب والسجن والترحيل. سيعاقب من معه من أهل هذه البلاد بأحكام شرعية وإدارية واجتماعية وقبلية وأسرية ولعنة وشتيمة وبصاق؛ وسينال الزائر من بعض هذا وذاك وستزداد محنته حينما يعلن ترحيله إن لم يكن محتضنا من ذوات كبيرة أو تحت وصاية ثعلب جرفي ماكر.\" ( 16)

تتشدق بشعارات الحرية في كل مكان, وتجبر بعض أهلها على الالتزام بعشر وصايا / قيود. يقول الأملس عن هذه الوصايا المقيدة للحريات : \" نلزم الحياد , وننادي بالوسطية في نومنا وشربنا , نطيع الأوامر , نعصى من يراد لنا أن نعصاه , نحفظ عن ظهر قلب نشيد السلام المزيف , نصدق الكذب الواضح , نحارب الغناء , نقتل الفنون الجميلة , نتشرنق في جهلنا , نعلن الطاعـة والولاء لمن يركبنا باسم النظام \" ( 17) . وهي وصايا استعبادية جعلت أهل جرف الخفايا \" دواب مدربة وبمهارة فائقة \" على العيش في حظيرة العبودية (18 ), بل والأكثر من ذلك استمرئوا العبودية وأدمنوا العيش عبيداً , و\" ألفوا الترويض وداوموا العيش فيه \" (19) فسمحوا للكبار أن يعاملوهم كدمى ويحركونهم في الاتجاه الذي يريدون , ووقتما يريدون , وينظرون لهم على أنهم بشر فاقدون كل الجينات البشرية , ولا تصلح معهم سوى معاملة الحيوانات . فيفصلون الرجـال عن النساء في الأماكن العامة, بل ويسعون إلى \" فصل الرجال عن الرجال كباراً وصغاراً, وكذلك النساء \" (20 ).

لا أمان فيها لأحد , الأغنياء المتحصنون بمالهم عليهم أن يكونوا مستعدين دائما لأن يداسوا بالمال هم ومالهم؛ لأن هناك من يملكهم هم ومالهم, وأصاحب القيم والمياديء فيها ملفظون \" واحداً تلو الآخر إما للمنافي أو إلى القبور ؛ فلا يعيش فيها إلا النفعيون والطفيليون والمرتزقة والمأجورون \" ( 21) , المألوف فيها أن تستيقظ على \" إطلاق نار , سطو مسلح وغير مسلح , مداهمات واعتقالات \" ( 22) , القتل فيها \" هو الوارد والسجن وقمع المعارضين وتفتيت عضد النشطاء هو المصير المحتوم \" ( 23) لا مجال فيه لسماع بسيط مظلوم له حق ؛ فلا حقوق للبسطاء غرباء وغير غرباء \" أن قلت صدقا لٌعنت وإن كذبت حاكمتك عدالة السماء التي تهبط على لحيان الأجرب ولجانه وفرق حرس الفضيلة التي تنتشر بصخب وجلجلـة تثير مقتك للحيــاة هنـا \" ( 24)

مدينة تدعي العصرية والوداعة وهي غارقة لأذنيها في تخلف آسن \" تقضم وبشراسة أطراف أبنائها وتقرض ألسنتهم , وتنخر رؤوسهم , وتقلب مواجعهم وتكشر بوجوههم , وتثير غبار اليأس والقنوط في فضائهم , وتحثو التراب في وجوههم .. بل تعذب البعض حينما يهمون بمطاردة الأمل .. ذلك الخيط المترائي بضعف ووهن \" (25) , تفهم جيداً كيف يساس / يساق الناس , لذا فهي \" تذيب قلوب أهلها دائماً حتى تجعلهم في حيرة دائمة وجهد مستفيض \" (26) حتى تأمن على نفسها, وتضمن بقاءها .
وهي لا تعدم الفساد بكافة أشكاله, الموظفون يرون فيه مصدر رزق \" سنصبح بفضل طيور الظلام مرتزقة جدد.. لكن العيب أن نقضي على مصدر رزقنا, فمن الواجب إذن أن نزيف تقاريرنا, ونغش في المبيد لتتكاثر هذه القاذورات لنضمن وظيفـة كفاحية مميزة تطارد أسراب الخفـاش دون إيذائها \" (27)
كبارها قادرون بسلطتهم وأموالهم على شراء كل شيء حتى الفتاوى الشرعية , كل حرام عندهم \" قابل أن يتحول إلى حلال , وكل حلال ما لم يكن مرضياً عنه سيكون حراماً حرام \" (28 )
*****
إن الشمًري لم يتعامل مع مدينة \" جرف الخفايا \" على أنها فضاء روائي , بل تعامل معها على أنها فضاء مناسب للحكي والتخيل , قادر على التكاثر وإنجاب الأحداث , لذا نرى شخصيات الرواية متوافقة مع واقع المدينة , هم صورة لعفنها , وكذبها , ووحشيتها, يتملكهم الخوف والقلق دائماً ولا يعنيهم الانتماء الوجداني والنوستالجي والتاريخي للمدينة .
جعلهم الكاتب من مثقفي المدينة إمعاناً في تجسيم حالة الضياع والتردي , وإبراز الوجه الشيطاني المرعب لهذه المدينة الغريبة . وهم من أدني طبقات المثقفين \" متورطون دائما بالأحاديث المجانية.. مولعون بالنميمة وتقصي الأخبار أيضاً، هذر طويل في كل شيء لكنه يأتي بعد عنائهم وجهدهم في ترديد النعيق لثقافة بالية ومهاترات في أدب رخيص, وادعاء في شعر بائس, وفجاجة في مقولات فضفاضة, وأفكار مسها التهالك.\" ( 29)
وهم مازوخيون مولعون بجلد الذات , هاربون دائماٍ من المواجهة إلى الخمر والمكيفات والنساء , غير قادرين على المواجهة , فعندما حاولوا ممارسة الوقوف في وجه المدينة بحثاً عن صديقهم \" صقر المعني \" والبحث في ذات الوقت عن ذواتهم الاجتماعية والثقافية والإنسانية فشلوا , وظهر ضعفهم / استلابهم أمام قوى لها أيد إخطابوطية قادرة على كبح جماح كل باحث عن الحقيقة؛ لأنهم دخلوا ميدان المواجهة بلا سلاح , بلا ثقافة , بلا وجود حقيقي .

ويلاحظ حرص الكاتب على تكرار التعريف بهم والتركيز على أوصافهم * وهو أمر غير مؤلف في الكتابة الروائية , فالروائي إما أن يعرف المتلقي بشخصياته في بداية الرواية تعريفا شاملاً , أو يجعل التعريف نتفاً تتناثر داخل السرد بهندسية يحتاج لها النص , لكن الشمّري يكرر التعريف بنصه أكثر من مرة بغية تعرية هذه الشخصيات أمام المتلقي حتى لا يتعاطف معها , فكلما تحركت عاطفة الحزن عليهم يذكرنا بحقيقتهم . وفي ذلك قصد من الكاتب ؛ فهو يريد من وراء توسيع مساحة القبح إلهاب المشاعر لتبحث عن حل يغير شكل المدينة, وهذا ما يجعلنا نقول إن في الرواية حلم مضمر , حلم بالصفاء , بالعدل , بالأمان , بالحرية , بالمدينة الفاضلة , وفي وحشية تعامل الشمري مع شخصيات مدينته صرخة يطلقها كي ننتبه إلى أن واقعنا يحتاج إلى نوعية أخرى من البشر قادرة على تحقيق أحلامنا المضمرة .

لقد خدمت لغة الكاتب فكرة توحش المدينة بشكل رائع, فالكاتب حريص على تكديس كم من لفظات القبح أمام المتلقي ليفهم حقيقة هذه المدينة, انطلاقاً من أن القبح يصنع الجمال المؤثر المولّد مشاعر تفوق الجمال الناتج عن جمال. فتكثر لفظات ( العتمة ـ معتمة ـ متشحة ـ الظلام ـ شاحبة ـ المتاهة ـ الشاحب ـ الليل ـ روائح مقززة ـ الخفافيش ـ الجرذان ـ تقضمهم ـ تبتلع ـ تفني أهلها ـ تدوس ـ العسس ـ المخبرين ) صانعة لوحة سوداء لمدينة متوحشة.

ويتجلى أثر هذا التكديس بوضوح في كل أحاديث الراوي, حتى وهو يصف أوقات اللهو أو الاستعداد له. يقول عن الاستعداد لمجلس لهو بالعرين \" رفاق الكيف ينتظرون لحظة الألق السرمدي .. ذلك الذي يحملهم كقارب خرافي عبر نهر الأفاعي .. قارب يمخر أمواج الخنا \" (30)

كما انعكس على منطوق الشخصيات حتى أصبح لازمة , يقول الأبرق \" جرف الخفايا يا دحام لا تعترف بنواميس الحياة الأخرى . تختصر كل شيء وتعبث بكل المسلمات, تتجاوز حدود الواقع وتمارس الحلم بطريق معكوسة مقززة \" (31)

وخدمت تقنيات العرض التي اعتمد عليها الشمّري ـ أيضا ـ فكرة التوحش ؛ فالحلم الظاهر بشكل واضح بما فيه من غرائبي وعجائبي يبرز الصورة الوحشية للمدينة , ويبرز توحش إنسانها, كما أن كثرة لحظات البوح ومساحتها لها دور في إبراز هذه الصورة خاصة أن البوح يخرج من بؤرة اللاوعي , وما في هذه البؤرة هو أصدق ما في الإنسان .
****
متى تثوب هذه الأنثى إلى رشدها وعقلها كأي مدينة تعاند سياط الجلاد الموسوم بزمني العولمة والردة الجديدة \" (32) هذا هو حلم الشمّري المضمر . حاول أن يستفز كل من لهم علاقة بالجرف أملاً في أن تتحول لمدينة فاضلة.
الهوامش :
1ـ محمد حسن عبدالله : الريف في الرواية المصرية , دار المعارف , مصر , ( بدون ) , ص 8
2ـ جورج هنري لاري : الرواية والمدينة , مجلة الثقافة الأجنبية , ع 3, 1983, ص 17
• أول رواية عربية فنية ـ رواية زينب لهيكل ـ دارت أحداثها في القرية ، وبرت عن مأساة فقراء الريف ، لكن الرواية لم تزدهر فنياً إلا بعد أن عبرت عن المدينة وإنسانها .
3ـ عبد الرحيم العلام: المدينة فضاء إشكاليا في الرواية المغربية , مجلة نزوى ع 51, 2009م
4ـ عبد الحفيظ الشمري : جرف الخفايا , دار الكنوز الأدبية , 2004 م , ص 11