عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
4937
 
محمد فتحي المقداد
كاتب سـوري مُتألــق

اوسمتي


محمد فتحي المقداد is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
650

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Sep 2009

الاقامة

رقم العضوية
7788
07-15-2011, 12:02 AM
المشاركة 1
07-15-2011, 12:02 AM
المشاركة 1
افتراضي الأماكن ... ( بقلم- محمد فتحي المقداد)*
الأماكن
بقلم( محمد فتحي المقداد)*


أول الصرخات الثلاث تكون في أول مكان, عند فض الظلمات, ولكل منا صرخته ومكانه, وهذه الصرخة هي التشكل علاقتنا الوثيقة بالمكان.
قال امرؤ القيس:
قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِل = بسقط اللِّوى بينَ الدخولِ فَحَوْمَلِ
هذا البيت من الشعر هو افتتاحية معلّقة امرئ القيس, وهو أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى, ومن عادة العرب في بداية قصائدهم الوقوف على الأطلال, أما موقعي الدّخول و حوْمل هما جبلان صغيران لا تزل آثارهما باقية إلى الآن هناك في الجزيرة العربية.
فمهما ارتحلنا تبقى الأماكن التي ألفناها سابقاً, تحتل زاوية من أنفسنا, نشتاق إليها فنتخيّل صورتها التي نستحضرها من سجل الذاكرة, ومن ذلك ما قاله الشاعر:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى = وحنينه أبداً لأوّل منزل
فالأول له علاقة متداخلة في وجداننا المنزل الأول والحبيب الأول, وكما قيل في الأمثال:" مسقط الرأس غالي" أي المكان الذي ولد فيه الإنسان,و ما ميسون بنت بحدل, تلك المرأة الأعرابية التي تزوجت أحد الأمراء الأمويين,وهي ترفل في نعيم القصور, ولكنها في لحظة وقفت فيها مع نفسها, وأصابها الحنين لبيئتها الأساسية , وأنشدت تقول:
لَبَيْتٌ تخفُقُ الأرياحُ فيه = أحبَّ إليّ من قصر مُنيف
وبذلك كون الأماكن تسكن دواخلنا فهي مرتحلة معنا, لا يمكن أن تغادرنا, وإن نحن غادرناها, نغادرها ولا تغادرنا, تلحّ علينا بالعودة إليها إن نحن ابتعدنا عنها .
ومما يلفت الانتباه هو مجتمع النّوَرْ( الغَجَرْ), أنه منغلق على نفسه, بخصوصية يشوبها الغموض في الكثير من جوانبها, كالاعتقادات والعادات والتقاليد, وكثير من جوانب حياتهم, مما قد نسج حولهم الكثير من التكهنات والتفسيرات التي ربما لا تستند إلى أساس متين, مثلاً يرتحلون في قائظة النهار عند الهجير وتتعالى أصواتهم و قرقعتهم التي تتعدى أماكنهم على أطراف القرى إلى أماكن بعيدة, والرجل يركب والمرأة تمشي مهما طال السفر, وتقضي كل حياتها تمشي على رجليها, وهم ينصبون خيامهم إلى جوار الطريق لأنهم راحلون لا محالة, مغادرون من مكانهم إلى مكان آخر, مهما أحبّوا مكانهم الجديد, وهم لا يتزوّجون من غيرهم ولا يُزوّجون لغير ملّتهم, كيلا يرتبطوا ويضطرون للعودة من أجل رؤية أولادهم مستقبلاً حينما يشتد بهم الحنين, كذلك لا يزرعون شجرة أو يربّوا دابة سوى الحمير لخدمتهم و الكلاب لحراستهم, لأن الشجرة والدابة تشُدّان بني آدم إليهما, حياتهم لا تسمح بذلك, فهم دائمي الارتحال وكل البلاد والأماكن لهم مفتوحة دون قيد أو شرط.
ومن الناس من عرفوا بعضاً من أطباع النّور, فنسجوا الأقوال والأمثال عنهم, وقد قالوا عن الشخص الذي لا يحب العمل:" مثل شيخ النّور" , ولمن كانت طباعه سيئة, يقولون:" طبعه مثل طبع النّور", والمرأة ذات اللباس المهلهل والرث, ومن صوتُها عالٍ يقولون عنها:" مثل النّوريّة".
فالأماكن تحرق أشواقنا إليها, فهي مسقط الرأس و مدارج وملاعب الصبا, وفيها تُخْتَزنُ الذكريات بحلوها ومرّها, و بذلك تجعلنا نحثّ رواحلنا من أقاصي الدنيا, حتى ننيخها برحابها ونقول :" سقى الله أيام زمان"
------------------------- انتهى
بصرى الشام 14-7-2011م