عرض مشاركة واحدة
قديم 09-08-2011, 08:59 AM
المشاركة 65
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
والان ننتقل لاستشكاف سر الروعة في

22ـ مدام بوفاري، للمؤلف جوستاف فلوبيرت

"مدام بوفاري" من أروع الروايات التي عرفها الأدب العالمي في القرن الماضي، إن لم تكن أروعها على الإطلاق. وقد كرس بها غوستاف فلوبير، أكبر روائي فرنسي مع بالزاك في القرن التاسع عشر، انتصار المذهب الواقعي على المذهب الرومانتيكي؛ ومن هنا تأثيرها العميق في مجرى الرواية العالمية المعاصرة. وعند صدور "مدام بوفاري" أقامت النيابة العامة الفرنسية الدعوى على فلوبير بتهمة اللاأخلاقية، ولكن محامي الكاتب ألقى مرافعة رائعة دافع فيها عن الرواية دفاعاً بليغاً لم تجد المحكمة معه إلا أن تبرئ الرواية وتعتبرها عملاً فنياً ممتازاً.
"إيما رووالت" ابنة فلاح ثري وزوجة "شارل بوفاري" طبيب وموظف بالصحة وأرمل لسيدة من الأثرياء المستبدين. عاشت "إيما" وتربت في الدير، وكانت تتنسم مباهج الحياة من الروايات الغرامية التي كانت تقرؤها. وفي إحدى الحفلات الراقصة في قصر الثري "فوبيسار" اكتشفت الحياة الحقيقية وبذخها. عاشت "إيما" فترة عصيبة، وفي إحدى الليالي ذهبت إلى المسرح مع زوجها، وهناك تعرفت على "ليون" الذي أصبح هو الآخر عشيقها. بدأت تخترع الأكاذيب لزوجها لكي ترى "ليون" وقد أنفقت كثيراً من الأموال كهدايا وقروض لـ"ليون"، وقامت برهن جميع مجوهراتها لتاجر جشع يسمى "أورو".
وقرر زوجها أن يعيشا في إحدى القرى "يونفيل لاباي". وهناك عرفت كثيرا من الشخصيات مثل الصيدلي "أومييه" والراهب "بورتيسيان" و"ليون ديبوي" و"رودولف بولونجيه" الشاب الوسيم. ووضعت "إيما" طفلتها الأولى، وبعد بضعة أشهر أقامت علاقة غرامية مع الشاب "رودولف" وقررت أن تهرب معه، ولكنه رحل بدون أن يودعها.

مدام بوفاري ل جوستاف فلوبير
بقلم: بشير زندال
وصفها الدكتور عبد العزيز المقالح بـ ( الرواية المبتذلة ) و وصفها موباسان بأنها ( ثورة في عالم الأدب ) و قال كاتبها في حديث عنها : ( لقد قرفتُ من ( مدام بوفاري ) فالكل يطريني على هذا الكتاب، وكأنه لا وجود لشيء من كل هذا الذي كتبته بعدها. أُؤكد لك بأنني لو لم أكن في عوز وحاجة لعملتُ على أن لا تُطبَع مرة أخرى أبدا ً).

( 1 )
لقد دشن الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير ( 1821 – 1880 ) المدرسة الواقعية في الرواية الفرنسية بروايته مدام بوفاري و أنتقل بها من ميوعة الرومانتيكية – إذا جاز التعبير – إلى مرحلة أعلى من النضج الكتابي و الإبداعي .

و هي تحكي قصة إيما بوفاري زوجة الطبيب شارل بوفاري , فرغم حب زوجها الشديد لها إلا أنها كانت تبحث عن الحب الذي قرأت عنه في المؤلفات الرومانتيكية. هذه المؤلفات التي أدت إلى تعلقها بهذا النوع من الأدب، وإلى ميلها إلى الارتقاء بذاتها، والتطلع بأمل، إلى المستقبل، والنفور من الحاضر، الذي يتصف بالافتقار إلى الفاعلية، والنشاطية. كما أن زواجها من الطبيب التقليدي شارل بوفاري، أدى إلى زيادة إحساسها بالفراغ، ورغبتها في الانعتاق من القيد الاجتماعي، الذي يكبلها، ويمنع روحها من التعالي والارتقاء. مما نتج عن ذلك تمردها عن الواقع الذي تعيشه و بحثها عن عشيق تعيش معه في غيابت حب رومانسي فتلقي بنفسها في أحضان ( ليون ديبوي ) الذي تركها بعد أن خانت زوجها معه ثم ضلت تبحث عن الحب الجميل إلى أن ألقت بنفسها مرة أخرى في أحضان عشيق آخر له الكثير من المغامرات العاطفية, إنه ( رودولف بولانجيه ) الذي ذابت معه إيما بوفاري في سكرة حب كاذب ينتهي بأن يتركها ثم تلتقي مجدداً بـ ( ليون ) و ترتمي في أحضانه مجدداً. ثم تبدأ الديون تلاحق زوجها لأنها بعثرت ثروته و جعلته يستدين كي تأخذ المال و تشتري به هدايا لعشيقيها و يبدأ الحجز على الممتلكات فتذهب إلى عشيقيها اللذان يخذلانها فتعود أدراجها بعد أن عرفت أن الحب الذي كانت تبحث عنه ما هو إلا وهم و تصل إيما بوفاري إلى نهايتها التراجيدية، فتقرر الانتحار، بعد إخفاقها في إيجاد الحبيب، الذي تتطلع إليه نفسها، وبناء العلاقة الغرامية، التي تتوق إليها روحها، المتعطشة للحب، وهو ما يؤدي بزوجها شارل بوفاري، إلى الموت حزنا وكمدا، على زوجته الراحلة، هذا مع علمه بخياناتها المتكررة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنها تعلن، قبل وفاتها، حبها له، مما يدل على أن مشروعها الرومانتيكي، قد أخفق إخفاقا تاما، إلى الحد الذي جعلها تعود إلى زوجها الشرعي، عودة أشبه بعودة التائب، الذي يحاول الانعتاق من الأخطاء، التي ارتكبها، وتوجب عليه أن يدفع لقاءها، ثمنا باهظ.

( 2 )

أتت هذه الرواية و هي تحمل معها معولاً لهدم التيار الرومانتيكي الذي كان في أوجه في الخمسينات من القرن التاسع عشر في فرنسا , فقد كتبت هذه الرواية ما بين عامي ( 1851 – 1857 ) حين كان أعلام الرومانتيكية هم المسيطرون على أذهان الشباب و عقولهم أمثال فيكتور هوجو ( 1802 – 1885 ) لامارتين ( 1790 – 1896 ) الفريد دي فيني ( 1797 – 1863 ) و الفريد دي موسيه ( 1810 – 1857 ) , فقد كتب فيكتور هوجو رائعته ( البؤساء ) عام 1862 بعد إصدار رواية مدام بوفاري بخمس سنوات , و لأن العصر كان عصر الرومانتيكية و عصر الحب العذري و الموت من اجل الحب العفيف الطاهر فقد صدمت رواية مدام بوفاري المجتمع الفرنسي بأكمله و قد قدمت الرواية و صاحبها إلى المحاكمة التي أسفرت عن براءة الكاتب و الرواية وهي اليوم مفخرة كل الفرنسيين .

و قد كتبت الرواية بموضوعية شديدة تميز فيها جوستاف فلوبير بقدرته على الملاحظة الدقيقة، وعلى توصيف النماذج البشرية العادية، توصيفا دقيقا، والاستعانة بالعقل، والرؤية الموضوعية، بدلا من الرؤية الذاتية، التي يتصف بها الكتاب الرومانتيكيون عادة لأنهم يعتمدون على الخيال، والعواطف المتقدة، في التعبير الأدبي، والواقع أنه الكاتب الذي لم يكن ينفر من الواقع على غرار الرومانتيكيين، بل كان يعتقد أن الفن الحقيقي هو الفن الموضوعي وأن الفصل بين الفنان كذات، وفنه كموضوع، ضروري جداً لتوصيل الرسالة المرجوة من الأدب , و قد استطاع أن يرسم التطورات النفسية التي عاشتها إيما بوفاري بدقة متناهية , من فتاة إلى زوجة عادية إلى زوجة تبحث عن السمو بذاتها مع حبيب زائف إلى خائنة لزوجها إلى امرأة تسببت في تحطيم حياتها و زوجها إلى الانتحار.

و تكون نهاية هذه الحياة الرومانتيكية هي اصطدام قاسٍ جداً بالواقع أدى إلا الانتحار و هنا يسخر فلوبير من التيار الرومانتيكي و كأنه السبب في نهاية إيما بوفاري لأنها تأثرت به في بداية حياتها و ضلت تبحث عنه و لم تجده و لم تعرف أنه ( ليس موجود إلا في الكتب الرومانتيكية ) إلا بعد أن خسرت حياتها و عفتها, و كأنه هنا يوجه رسالة ( موضوعية و صادقة ) إلى الفتيات اللاتي يحلمن بالحب الجميل و ( بالفارس الذي يأتي على فرس ابيض ) بأن الواقع يختلف عن ما صوّرته الكتب الرومانتيكية و بأن عليهن الحذر من الوقوع في شرك البحث عن الحبيب الزائف , و هو هنا حينما يسخر من التيار الرومانتيكي فأنه - في تحدٍ شجاع - يواجهه المجتمع بالواقع المرير وهو يواجه أيضاً الأدباء الرومانتيكيين و كأنه يقول لهم : ( لماذا تكذبون على المجتمع و تضعون مساحيق التجميل البشعة على الواقع التعيس من أجل إظهاره بالمظهر الحسن ؟ لماذا لا تواجهون الواقع و تجدون حلولاً للمشاكل التي يغرق فيها المجتمع بدلاً من العيش في سكرتكم و أحلامكم الزائفة؟ ) .

(3 )

كتب فلوبير روايته بأسلوب بالغ الروعة و قد بذل فيه مجهودا جباراً حتى أنه كان حريصاً على أن لا تتكرر المفردة في نفس الصفحة أو حتى في الصفحات المجاورة و لهذا فهي تعد ذخيرة لغوية بالنسبة للغة الفرنسية

و كان حريصاً أيضاً على أن لا يصاب القارئ بالملل فنجد الكاتب يستخدم كل براعته في ( التأليف ) بين الكلمات و العبارات , كي يوحي بما كان يستشعره أحد أبطال الرواية مثلاً من حالة نفسية: من لهفة أو تراخ , من تعب أو راحة , من انفعال أو بلادة …الخ .
بل إن براعته تبلغ الذروة حين يصف الملل أو الضجر الذي كانت تعاني منه إيما بوفاري في عشرات الصفحات دون أن يقع الكاتب في شرك الممل الذي يصيب القارئ.
و قد طغت هذه الرواية على كل أعمالة .