الموضوع: الغروب
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
3300
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
07-12-2014, 08:42 PM
المشاركة 1
07-12-2014, 08:42 PM
المشاركة 1
افتراضي الغروب
تدخل إلى البيت والفرحة تغمر قلبها ، من غرفة إلى غرفة تنتقل برشاقة العصافير ، تقبل أمها و تعانق أخاها و أخيرا تصل عند أبيها القاعد على كرسي يلازمه كلما أراد التنزه عبر البيت الصغير أو الحديقة المنشرحة بورود وزهور تتغازل فيها الألوان ، تقبل جبينه و تضع يديها على رجليه المنفختين الجامدتين الثقليتين و تهمس عند أذنه و هي تدفع الكرسي نحو الحديقة : " سأكون قدميك اللتين تطوف بهما الدنيا ، ستراها يا أبي بعينيّ مضاءة مسرورة ، سأمسح عن نظارتيك سوادهما لترى الوجود كما كان جميلا ، يا أبي حمرة الشفق كما ضياء الصباح ، يا أبي روعة الأصيل و ظلال الزوال ، يا أبي رشة المطر الخفيف و منظر الثلج المهيب ، يا أبي هبّ للحياة فهي لا تزال جميلة " سمعت الأب يلوك بعض كلمات أقرب إلى أهات و زفرات أنفية ، فلسانه الثقيل وفكه المشدود و ريقه الذي يبلل شفتيه ، يشوش على طلاقة كلامه حتى أضحى همهمة غريبة لكنها متيقنة أنها تحمل عربون محبة ، و عنفوان تشجيع . كل أفراد الأسرة تأثروا بما حدث منذ ثلاثة أشهر ، هناك في الحقل وجدته الأم معوجا و معقوفا ومصروعا ، كانت بشرى ترى فيه الأب الحنون الذي يلاعب شغبها الطفولي ، كانا صديقين لا يملان من المزاح ، يتلاسنان بالأحاجي الفكاهية ، يتنابزان بالألقاب الهزلية ، يغضان الطرف عن الهفوات و يكبر الواحد فيهما مناولات الآخر . تتذكر بشرى يوم رست على المقعد الخامس من عقدها الثاني و تهيأت لأبيها امرأة صفعت آخر شياطين الطفولة بدخولها إلى الثانوية ، كان يقول لها ترجلي يا ابنتي و تماسكي فما عدت طفلة صغيرة ، تكشرت ملامحها متجهمة وقالت بنبرة حزينة : " لا يا بطلي ..لا .. مازلت طفلتك و لايزال دلعك يشملني بدفء الطمأنينة ، و خفة ظلك ينعشني نداها ، كتلك الزهرة المطلة على استحياء بين الأوارق الخضراء ، يا أبي لاتطلب مني إلا أن أبقى صغيرتك المدللة . "
اليوم آخر عهدها بالثانوي في الغد القريب ستتربع على كراسي الجامعة ، و ستغادر القرية ، تنظر إلى الحديقة التي ستفتقدها كثيرا ، تنظر إلى كرسي أبيها الجاثم تحت الدوحة الظليلة ، تتأمل جدران المنزل الطينية الشاهدة على تاريخها البشوش ، على مجد الطفولة السامق الشامخ ، مشت بخطوات وئيدة نحو بوابة المزرعة ، هناك لا تزال البقرة الحلوب تتهادى في مشيتها مثقلة الضرع ، لسانها يلف حزم الحشائش فتقتلعها بنهم ، ذنبها يسوط حشرات تقض راحتها . عجلها يقفز مع الفراشات في المرج الأخضر و يرسل ركلاته للهواء ، كان الجو هادئا و بعض نسيم المساء يلطف حرارة الشمس ، تلقي بنظرة إلى كرسي والدها ، تراه يستقبل مغيب الشمس ، على صهوة ربوة تكسوها أشجار البلوط لا تزال تبدوا قوية مشعة رغم ما شاب صفاءها من إحمرار العياء وهي تمخر الفضاء ، نظرت بشرى إلى لوحة الغروب تشع في عيني والدها ، أحست بغروب طفولتها ، و ذهابها إلى غير رجعة ، الجامعة هي المسؤولية ، هي الاعتماد على النفس ، تأملت غروب صلابة والدها الذي تحول إلى مجرد قطعة معطوبة ، كومة بلا طعم ولا رائحة ، كانت الشمس تهوي في منحدرها ويستقبلها قبرها عندما سمعت آخر زفرة صاعدة من جوف والدها . محركة الكرسي الذي ارتج بين أصابعها ، فاستعادت نفسها المتناثرة ، سبقت دمعة كل أحاسيسها مسحتها على عجل وهي تتأكد من غروب الشمس و سفر والدها إلى عالم آخر ، إلى شروق جديد ، هناك في عالم الجامعة ستبدأ لونا حياتيا جديدا ، فتلهو يوما أو بعض يوم في انتظار لحظة غروب أخرى .