عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2010, 10:58 PM
المشاركة 5
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أولا : تلبيسه على المعتزلة
تعرض بن الجوزى فى هذا الفصل لشرح التلبيس على المعتزلة أول الفرق الكلامية التى ظهرت فى القرن الثانى للهجرة , ولأن كلام الفرق وأحوالها بعيد عن عصرنا الحالى فيمكننا تقريب مفهوم المعتزلة بتعريفهم على أنهم فئة من المفكرين الذين ظهروا فى عهد الأئمة الكبار كالحسن البصري وأبي حنيفة والشافعى وبن حنبل وبن نصر الخزاعى واستمرت منذ ذلك الحين , ولم نذكر إمام دار الهجرة مالك بن أنس لكونه لم يواجههم مباشرة لأن منشأ الفرق كلها كان فى العراق

وللتعريف بالمعتزلة أو داء الفرق الذى ظهر بالإسلام يمكننا نتخيلهم فى عصرنا هذا بالصحفيين أو المفكرين أصحاب الإنتماءات للمذاهب الإجتماعية العلمانية والشيوعية والمادية ولمذهب الإنسانى الجديد وغير ذلك
من الذين يدخلون فى صراع دائم مع الفقهاء وأهل الشريعة كأنهم أصحاب الدين , وهذه هى أزمة التلبيس عندهم حيث لم ينظروا إلى الفقهاء والعلماء على أنهم حملة رسالة دينية مصدرها الشارع الإلهى جل سبحانه , وعليه تعاملوا معهم على أنهم أصحاب مذهب فكرى بشري مثلهم
ولهذا تجدهم يرددون تعبيرات مضحكة فى بعض الأحيان عندما يتصدى لهم الفقهاء بالمنع بأمر ما تبعا لمنع الدين فيه فيخرج علينا من يقول بوجوب الخلاص من تحكم الفقهاء الذين يحكموننا بأفكار القرون السابقة , وكأن هؤلاء الفقهاء يتوارثون انتاجا بشريا يتناسب ونظرية التطور والتقدم , لا أنهم يتعاملون بأسس الشريعة التى لا تخضع لأفكار البشر تعديلا وتوفيقا
وهذا اللون من الصراع هو نفسه الذى نشأ مع نشـأة المعتزلة الذين تسموا بهذا الاسم عندما انحرف أحد تلامذة الإمام الحسن البصري وهو واصل بن عطاء عن طريق شيخه واختلف معه فى الآراء التى تعارفت عليها الأمة فى عهد الصحابة ودخلوا إلى مجال العقائد بالعقول لا بالنصوص ورفضوا أن يتوقف العقل عند أى قضية كانت ,
ولأنهم قدموا العقل كمصدر من مصادر التشريع عندهم تصادموا مع الفقهاء والمحدثين فى مجال العقيدة , لأنهم إن سلموا للعلماء بمقاليد الشريعة فى الفقه فالفقه مجال لا يحتوى على قضايا عقلية عويصة لأن الشريعة جاءت تحمل بين طياتها ما يناسب الفطرة
ولهذا كان الصدام أصلا فى مجال العقيدة
وهو المجال الذى يعتبر مجالا شائكا لم ترد فيه نصوص شارحة بل وردت فيه نصوص تصف للمسلم ما ينبغي عليه الإيمان به غيبا كالإيمان بالله تعالى وصفاته وذاته والملائكة والجنة والنار والبعث وما إلى ذلك من قضايا الغيبيات التى ينبغي على عقل المسلم أن يسلم فيها فلا يدخل إليها بعقله محاولا الفهم وإلا كان مصيره الضلال
وهذا أمر طبيعى ,
فأساس الحساب كله يتركز على قضية الإيمان بالمسلمات الغيبية , ولو أن الأمر فى الدين أمر ضرورة إقناع بالغيوب لما كان هناك داعى أبدا للثواب والعقاب ,
فطالما أن الإنسان سيشترط دليلا عقليا ماديا لكى يؤمن , فإيمانه هنا لا فائدة منه ولا فضيلة إذ أنه سيري بعينه فعلام إذا كانت الرسل والرسالات
ولهذا كان العقل طريقا لإدراك وجود الخالق سبحانه وطالما أن العقل سلم فى هذه القضية بالإيمان وحقيقة وجود الله تعالى , فليس له أن يقف متشككا ومطالبا بالدليل العينى فى كل قضية طلب الشارع فيها إيمان المسلم بلا تفصيل أو سؤال ,
ومن الغريب أن كبر الإنسان يقف به عند تلك القضايا ويتشكك بينما هو فى حياته العادية يسلم بالقضايا الفرعية بلا جدال طالما أنه اقتنع بالقضية الأصلية ,
مثال ذلك
عندما يذهب الإنسان ملتمسا العلاج عند طبيب يثق به , يكتفي بالسؤال والتحقق من كفاءة الطبيب , بعدها لا يناقش أو يجادل فى أمر الدواء الذى يصفه له طبيبه مهما كان غريبا أو شاذا , ولا يطالبه أبدا بأن يصف له هذا الدواء وصفا كاملا أو يطالبه مثلا بإثبات أن هذا الدواء هو الدواء الكافي والشافي لمرضه ,
فإذا كان هذا حال الإنسان مع قرينه الإنسان فكيف بالرحمن ؟!
وقد وقع الملاحدة فى إنكار الخالق لمطالبتهم بالدليل المادى على وجوده أو الدليل الذى يرضي عقولهم ,
بينما جاء المعتزلة وهم يؤمنون بالله عز وجل ولكنهم ابتغوا حلولا عقلية ـ على نمط أدلة الملاحدة ـ تثبت وتشرح لهم قضايا هى أصلا فوق مستوى إدراك أى مخلوق فضلا عن البشر
وتعاملوا مع تلك القضايا بالمدى المحدود المتاح للعقل البشري وقدموا أنفسهم على أنهم المدرسة العقلية التى تفوقت فى إدراك حقيقة الإيمان أكثر من العقول الجامدة للفقهاء
ومن الغريب أن أعلام هذه المدرسة العقلية من أمثال واصل بن عطاء والجاحظ وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهم أثبتوا أنهم أبعد الناس عن العقول كما سنرى فى أدبيات المعتزلة ,
فقد قاموا معترفين بالله ورسله وبكل القضايا المتفق عليها , وتوقفوا فى أمر العقائد التى ثبتت بالقرآن والسنة ولجئوا لتأويلها عندما لم يحسنوا فهمها وفى نفس الوقت رفضوا أن يسلموا بها تسليما مطلقا كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام
مثال ذلك ,
رفضوا مسألة أن الله تعالى له صفات كاليد والوجه والكلام وغيرها زاعمين أن فرض تلك الصفات يعنى بالضرورة تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا كفر بالله ـ كما زعموا ـ لأن الله تعالى منزه عن تلك الأمثلة , واستلزم ذلك أن ينكروا أن القرآن كلام الله تعالى فقالوا أنه مخلوق من مخلوقات الله !
فانظروا إلى هذا الجنون , والذى يتضح من عدة نواحى
أولها : مبدأ التفكير أصلا فى تلك القضايا الغيبية التى نهانا الله تعالى عن مثلها بالقرآن الكريم وقال صراحة
[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7}
فالآية شديدة الصراحة لكل عاقل فى حكمها أن تلك القضايا لا يتبعها إلا هالك زائغ كما أنها قاطعة فى حصر العلم بهذا التأويل على الله سبحانه , وبالتالى فالقضية منتهية , فأى عقل فى أن ألج بنفسي متعمدا إلى حيث التهلكة بحجة البحث والاجتهاد !! وهو ما طبقه الصحابة فلم يفتحوا تلك القضايا وتبعهم فى ذلك سائر الأمة
ولم تكتف الآية بذلك ,
بل أوضحت أن أهل الرسوخ فى العلم هم من يدركون حقيقة القضية قبل الدخول فى معترك التعقيد , فالعالم الحقيقي والعبقري الحقيقي الذى يرفع رايته أمام قدرات ليست له , وهذا يختلف عن الاجتهاد لأن الاجتهاد والتفكير إنما يكون فى القضايا القابلة للتحليل بالعقل البشري أما وقد أغلق الباب فالحمقي وحدهم من يتصورون قدرتهم على فتحه
ولنعبر عن ذلك بمثل شعبي مصري جميل , حيث تروى قصة المثل أن الأشخاص افتخر بأن أباه عبقري يفك أى عقدة , فقال له صاحبه
" أبي أنا أكثر عبقرية , فهو لا يتركها كى تنعقد أصلا "
وعليه إن كان من يحل الإشكال عبقريا فالذى لا يجعل المسألة تعبر حد الاشكال أكثر عبقرية
ثانيها : زعموا أن ما قالوه يهدف إلى تنزيه الله تعالى عن المخلوقين وهذا هو عين التلبيس الذى دخل عليهم , حيث انطبق عليهم الوصف القرآنى بأنهم من الذين يفسدون فى الأرض زاعمين أنهم يصلحون فيها ,
فغرورهم صور لهم أن لهم قدرة على تنزيه الله ! وهذا بمفرده هو عين التهوين بقدرة الخالق , لأنهم ما قدروه حق قدره ,
والأخطر من ذلك أنهم حسبوا أنهم ينزهون الله تعالى عن صفات أثبتها جل جلاله لنفسه سبحانه دون أن يمر بخاطر أحدهم أنهم يعدلون ويستدركون على الله تعالى !
فالله عز وجل قال " يد الله فوق أيديهم " وقال " بل يداه مبسوطتان "
فيأتى هؤلاء ويقولون أنه لا يقصد اليد كلفظ بل يقصد تأويلها وأنها تعنى القدرة , وكأنى بهم يتصورون أنهم أكثر بلاغة فى التعبير من خالق الخلق
ثالثها : أعرضوا عن فقه الصحابة الذى نقله الأئمة الثقات وهم بدورهم نقلوه عن المعصوم عليه الصلاة والسلام فتوقفوا حيث أمرهم الله بأن أثبتوا لله ما أثبته لنفسه بلا توصيف ولا تشبيه ولا تعطيل , وهذه هى عين العقيدة الصحيحة ,
ولشرحها ببساطة نقول :
أن المقصود أن نثبت لله تعالى صفاته التى قررها فى القرآن الكريم أو وردت بها السنة الصحيحة , ولكن لا نتفكر فيها فنتخيلها مطابقة أو مشابهة أو مقاربة لصفات العباد
فلله عز وجل يدان وكلتاهما يمين كما قال محمد عليه الصلاة والسلام , فنقر بذلك ولكن لا نسأل عن ما هية تلك اليد أو ما شكلها أو هل هى كـأيدينا أم لا ,
ولله عز وجل كلام هو القرآن الكريم وغيره مما ثبت بالقرآن حيث يقول سبحانه " وكلم الله موسي تكليما "
فنقول القرآن كلام الله ولا نزيد على ذلك حرفا واحدا فلا نتساءل عن طبيعة صدور هذا الكلام وهل يلزم منه أن يكون صادرا عن لسان أو غيره !

من هنا نستطيع أن نقول أن المعتزلة قوم لبس عليهم إبليس بالغرور الذاتى فى العقل فأحبوا أن يتصدروا المجالس بعلم يفوق علوم الفقه والحديث التى كانت تحظى بتقدير العامة فى ذلك الوقت , ورغم أن المعتزلة كمدرسة عقلية لها انجازات فى شأن الدعوة إلى الله بالعقل إلا أنهم سقطوا فى فخ العقل نفسه فضوا وأضلوا

وقد واجه الخلفاء العباسيين الأوائل كالمهدى وولده الرشيد فتن المعتزلة والزنادقة وحجموها تحجيما عظيما حتى جاء المأمون فاستفحل خطرهم فى ذلك العصر حيث قربهم المأمون وقرب أكابرهم كبن أبي دؤاد والجاحظ وجعل منهم مستشارين , والأخطر من ذلك فرض أقوالهم بحد السيف فمن لم يستجب لتلك الأقوال ويقر بها كان مصيره السجن والقتل ومن الغريب أن المعتزلة فى ذلك الوقت كانوا يرفعون شعار الحريات العقلية ويتهمون الفقهاء والعلماء بالجمود والتكفير !
وظلت المحنة قائمة ولم يصمد أمامها إلا خمسة نفر فقط يتقدمهم إمام السنة أحمد بن حنبل الذى تحمل ما لم يتحمله بشر فى سبيل الإصرار على موقفه وكان على قدر المسئولية لأنه كان فى زمانه قبلة الناس وملتقي أبصارهم ولو رضخ لانفصمت عرى الإيمان منذ ذلك الحين
وكان إلى جوار بن حنبل أربعة منهم من مات شهيدا كبن نصر الخزاعى ومنهم من اعتقل , واستمرت المحنة فى عهد المأمون كله ثم فى عهد المعتصم الذى لم يكن يؤيدها أو يرفضها لأنه لم يفهمها أصلا فقد كان رجل حرب وقتال فقط , ولكنه اتبع وصية أخيه المأمون , ثم تبع المعتصم ابنه الواثق الذى سار على نهج المأمون والمعتصم حتى جاء المتوكل ناصر السنة فرفع المحنة ورد مظالم الناس وأكرم وفادة بن حنبل ,

هذه هى معالم المعتزلة وطريق التلبيس عليهم باختصار وإيضاح قدر المستطاع لأن الذى يطرق أبواب كتب الفرق كالفصل لبن حزم أو مقالات الإسلاميين للأشعري أو الفرق بين الفرق للبغدادى ويقرأ عن أفكار تلك الجماعة تأخذه الدهشة من كمية التعقيد الذى طرحوه على الناس فكلامهم مغرق فى الفلسفة السفسطائية التى كونت ثقافتهم بعد اطلاعهم على مترجمات كتب اليونان , ومن يطالع كتبهم وأشهرها كتاب شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلى يجد أنه أمام نصوص كلامية لا ظاهر لها ولا باطن بل هى كلام مرصوص أتصور أن صاحبه نفسه ربما عجز عن شرحه !

وللحديث بقية ,