عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 01:46 AM
المشاركة 25
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الصورةُ الثانية


في منتصف الليل دوّتْ صرخةٌ عالية في كل أنحاء القرية. بعد ذلك كان ثمة صوتٌ لشيء يجر ساقيه، وبعدها سكونٌ مطبق. كل ما كان يمكن رؤيته من النافذة هو غصنُ شجرة الليلك الذي يتدلى عبر الطريق على نحو مضجر دون حراك. ليلةٌ حارّة خامدة. بلا قمر. الصرخةُ جعلت كلَّ شيء يبدو مشؤوماً.

من الذي صرخ؟ لماذا صرخت؟ كان صوتَ امرأة، تسبّب فيه هولٌ عظيم لشعورٍ يكاد يكون خلواً من النوع، خلواً من التعبير. كان صوتٌ كأنه الطبيعةُ البشرية تصرخ ضدَّ جَوْرٍ ما، ضد رعبٍ يفوق التصوّر.

ثم عمَّ سكونٌ كالموت. النجوم ظلّت تلمع بثباتٍ متقن. والحقول ترقد ساكنة. والأشجار صامتة دون حراك. مع ذلك بدا كل شيء مذنباً، ثابتةٌ عليه التهمة، ومنذراً بالشؤم. يشعر المرءُ كأن شيئاً ما يجب أن يحدث. كأن ضوءاً ما يجب أن يظهر متقاذفاً ومتخبّطاً بقلق. شخصٌما يجب أن يظهر راكضاً نحو الطريق. ونوافذ الكوخ الريفيّ يجب أن تكون مضاءةً.

وبعد ذلك ربما تدوّي صرخةٌ أخرى، غير أنها ستكون أقل غموضاً، وأقل افتقاراً إلى الكلمات، ستكون أكثر راحةً، أكثر سكوناً. لكن لا ضوءَ ظهر. لا قدمَ سُمعت خطاها. وليس منصرخةٍ أخرى دوّت. الأولى كانت قد اِبتُلِعت، وسادَ سكونٌ رهيب.


يرقد المرءُ في الظلام يصيخُ السمع. بالكاد كان ثمة صوت. ليس من شيء يمكن أن يرتبط به. ليس منصورة من أي نوع ظهرت لتفسّر الصوتَ، لتجعله مفهومًا للعقل.

لكنْ حين بدأ ينقشع الظلامُ في الأخير، كان كل ما يستطيع المرءُ أن يراه هو هيئة بشرية غامضةُ المعالم، بلا شكل تقريبًا، ترفع عبثاً ذراعاً عملاقة ضدَّ ظُلْمٍ مروّع غامر.




الصورةُالثالثة




الطقسُ المعتدل ظلّ متواصلاً. لولا تلك الصرخة الوحيدة في قلب الليل لأحسَّ المرءُ أن الأرضَ قد أرستْ قلوعَها في الميناء؛ وأن الحياةَ قد كفّّت عن الاندفاع أمام الرياح، لأنها وصلت إلى أحد الخلجان الصغيرة الساكتة وأرخت مرساها هناك، وراحت بالكاد تتحرك الهوينى فوق صفحة المياه الهادئة.


لكن الصوتَ ظلَّ يلحُّ. أينما ذهب المرءُ، ربما كانت جولةً طويلة صعوداً نحو التلال، شيء ما كأنه يمور باضطراب تحت السطح، يجعل السلام والأمن والاتزان الذي يحيط بالمرء يبدو إلى حد ماغير حقيقي.

كانت الخرافُ تتجمع كعنقود على جانب التل، والوادي يتكسّر في موجات تتناقص تدريجيّاً مثل شلال من المياه الناعمة. ثم يصل المرءُ إلى البيوت الريفيّةالمنعزلة. الجرو يتدحرج في الفناء. الفراشاتُ تطفرُ وتثبُ في مرح فوق نباتات الجولق. كلُّ شيء بدا هادئاً وآمناً لأقصى درجة. غير أن المرء يظلُّ يفكر، هنا كصرخةٌ قد مزّقت الهدوء، كلُّ هذا الجمال كان ضالعاً في الجريمة مع الليل؛ الذي قَبِلَ ورضي بأن يظلَّ ساكناً، بأن يظلَّ جميلاً، في أية لحظة يمكن أن يتمزّق الهدوءُ ثانيةً. هذه الطِيبةُ، هذا الأمان كان فوق السطح، وحسب.



بعد ذلك، من أجل أن يخفّفَ المرءُ عن نفسه وطأةَ مِزاجِه المضطرب الوجِل، ويسرّي عن نفسه،ي تحوّل إلى صورة."عودةُ البحّار إلى الوطن". يتأملّها كلَّها مجدداً مُنتجاً العديدَ من التفاصيل الصغيرة المتنوعة اللونُ الأزرق لفستانها، الظلالُ التي تسقط من الشجرة الصفراء المزهرة تلك التفاصيل التي لم نستخدمها من قبل.

ها هما قد وقفاعند باب الكوخ الريفيّ، هو ومخلاته فوق ظهره، وهي برفقٍ تكادُ تمسُّ كُمَّه بيدها. وقطّةٌ بلون الرمال تتسلّل خلسةً من الباب. وهكذا يستمر المرءُ تدريجياً في احتواء الصورة بكل تفاصيلها، يقنعُ نفسَه بالتدريج أن هذا السكون والسعادة والرضا والجمال من المحتمل جداً أن يمتد تحت السطح أكثر من أي شيء غادِرٍ أو مشؤوم.

النعاجُ التي ترعى، تموجاتُ الوادي، بيتُ المزرعة، الجروُ، الفراشاتُ الراقصة، جميعُها كانت في الواقع تشبه كلَّ شيء في العمق.

وهكذا يقفل المرءُ عائداً إلى البيت وعقلُه مثبّتٌ على البَحّار وزوجته، مُكمّلاً لهما صورةً تلو صورةٍ، ذلك أن صورةً وراء صورةٍ للسعادة والرضا قد تتمدد وتطغى على ذلك القلق والاضطراب، تطغى على تلك الصرخة الشنيعة، حتى يتم قمعُها وسحقُها فتسكن تحت وطأة إلحاحهم، خارج الوجود.


هاهي القريةُ أخيراً، وساحةُ الكنيسة التي لابد أن يمرَّ عبرَها المارُّ؛ وتأتي الفكرةُ المعتادة، بمجرد أن يدخلها، عن السلام الذي يعمُّ المكان، بأشجاره الصنوبر الظليلة، وشواهد أضرحته المصقولة، وقبوره المجهولة غير المسماة. الموتُ بهيجٌ هاهنا، هكذا يشعر المرء. حقًّا؟ انظرْ إلى تلك الصورة! ثمة رجلٌ يحفر قبراً، والأطفالُ يقومون بنزهة خلوية جواره بينما هو مستغرقٌ في عمله.

وعندما تحمل المجرفةُ حفنةً من التربة الصفراء لتُقذفها عالياً، يكون الأطفالُ مستلقين هنا وهناك يأكلون الخبزَ والمربى ويشربون اللبنَ من الأباريق الضخمة.

زوجةُ حفّار القبور، الحسناءُ السمينة، كانت تتكئ بجسدها على شاهد القبر بعدما بسطتْ مئزرَهافوق العشب جوار القبر المفتوح كي تستخدمه كطاولة شاي.

بعضُ كتلٍ من الطمي كانت قد سقطت بين أغراض الشاي. مَنْ ذاك الذي سوف يُدفن، أتساءلُ. هل مات أخيراً السيددودسون العجوز؟ «أوه! كلا. إنه للشاب روجرز، البحّار»، أجابتِ المرأةُ وهي تحملق في وجهي. «مات منذ ليلتين، قضى بحمى أجنبية غريبة. ألم تسمعْ زوجتَه؟ لقد اندفعتْ في الطريقِ وصرختْ».... «هنا أيها الجندي، تغطيّتَ تمامًابالتراب

يا لها من صورة!

النهار



هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)