عرض مشاركة واحدة
قديم 12-02-2011, 07:26 PM
المشاركة 6
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه قصة قصيرة للقاصة ابتسام شاكوش ، ولي عودة للتعليق عليها بعون الله بطريقة تخدم من يهوى الكتابة في فن القصة .


الحصار


أدار الذراع القصيرة دورة كاملة فانسحب زجاج النافذة إلى الأعلى وانفصل فضاء السيارة العابق بالعطور الثقيلة عن الفضاء الخارجي، استوى جالساً وتنفس بعمق، غصت رئتاه باللزوجة، أسند ظهره إلى المقعد ملقياً برأسه إلى الخلف وتمنى.. تمنى من أعماقه ألا ينتهي الدرب، وألا يصل موكب السيارات التي تزفه مع عروسه إلى القرية، شبك أصابع كفيه وراح يداعب بسبابته سحجة متوضعة على ظاهر كفه الأيسر.
انتصب جدار صلب فصل بين تفكيره وبين أحداث الساعات القادمة اعترته قشعريرة مفاجئة غسلت كل الوصايا والتنبيهات التي تلقاها قبل قليل من أمه وتركته يهوي في فراغ سحيق، لام نفسه حيث ما عاد ينفع اللوم لماذا أذعن لهم وتركهم يخطبون له هذه الفتاة كأن الأمر لا يعنيه؟ قالوا له استرح فاستراح، وتركهم يختارون ويقررون ويعقدون صفقات الأثاث والثياب وكل شيء وهو يقف على هامش اجتماعاتهم يغالب الخجل.
عبر بفكره زجاج النافذة وهرب بعيداً، راح يبحث في كنه، وفلسفة ما يحيط به قرر: العالم يتألف من ثلاثة أقاليم لا رابع لها: الثوابت المتحركات، والناس التي تسعى بينها.
الشجرة مثلاً ثابتة في مكانها أمام البيت المنفرد القائم على يمين الطريق المعبد والبيت ثابت أيضاً، فارس يركب السيارة المتحركة والعروس...
شهق خائفاً: العروس؟ من أين جاءته هذه المصيبة؟ ولم العروس؟ اختارها... بل اختارتها أمه وأخذته للتفرج عليها وإبداء الرأي، ذهب مدفوعاً بإلحاح أمه وفي نيته أن يرفض محتجاً بأن العروس لا تناسبه وحين رآها رأى سميرة سمراء قصيرة القامة، نحيفة ذات عينين صغيرتين هزّ رأسه بالموافقة رداً على سؤال أمه.
يبدو أن ما رآه يومذاك كان وهماً، ها هي سميرة، تجلس بجانبه منذ ساعة، وقد تعملقت وبدا وجهها أبيض فاقعاً، واتسعت عيناها حتى صارت شبيهة ب...
شبيهة بمن؟ لا... لا... لا شيء البتة، فارس إنسان نظيف، ضميره طفل نقي، ليس له ماض يؤرقه، ولا شوكة تخز وجدانه، فلتتسع عينا سميرة ما بدا لها، لن تجرؤ أبداً على النظر إلى وجهه، سيكون الرجل وتكون الغنمة الوديعة، بل القطة الصغيرة المُذنبة.
كان يحدث نفسه في سره ويسرد بياناته ومخططاته، غير أن ركبتيه كانتا في صمم عن كل ذلك، لم تسمعا ما دار في خلده، ولا انتبهتا إلى انتفاخ صدره وشموخ أنفه، ها هما تصطكان من الخوف، حاول التغلب على خوفه فتحدث إلى أمه وابتسم لخالته، ضحك لعمته فشرق بريقه، وعصفت به عاصفة من السعال والعطاس، تسابقت النساء لنجدته فهذه ترقيه وتلك تُصلي لإبعاد العين الحاسدة عنه، توقف الغناء وسكتت الزغاريد مما زاد في ارتباكه وأغرقه في بحر من العرق، جيء بكأس من الماء فأخذ منها جرعات صغيرة، أحس بلوزتيه تتلاصقان حتى تعذر عليه بلع الماء، وما أنقذه من تلك المعضلة سوى وصول السيارات والبدء بمراسم الوداع حتى انتهى به المطاف إلى جوف هذه السيارة.
كانت العروس تقاوم حصاراً شدّ حباله بقوة حول إحساسها مصدره مثانتها التي امتلأت فأرسلت بأول إنذاراتها منذ ساعة، لكن سميرة ما كانت تجرؤ على الإفصاح أمام أمها الدائمة السخط والغضب، حسبت أن أمها لا بد أن توجه لها تلك النظرة الصفراء التي تقدح شرراً، فكتمت ألمها وأطرقت خوفاً وحياءً، لكن الحصار ما كان ضاغطاً عليها بمثل شدته الآن، إن نبض أوردتها يزيد من عنف الضغط على مثانتها فتدق في صدغيها أجراساً ذات رنين أحمر حار، حاولت اصطناع ألم ما في مكان آخر من جسدها يشغلها عن الإحساس بالحصار الرهيب، راحت تقرص باطن فخذها بأصابعها لكن لا فائدة، لفت ساقاً على ساق للحفاظ على تماسكها فانتبه فارس، هذه حركة وقحة هكذا علمته أمه لا تأتي بها سوى المستهترات، وظنه أن عروسه طيراً أزغب، بل إن ما أعجبه فيها هو ذلك الحياء الذي جعلها تتعثر بذيل ثوبها حين جاء منزل أهلها لرؤيتها ونظرتها التي لا ترتفع أبداً عن الأرض، هكذا أراد، أمام امرأة كهذه ستتفجر رجولته طوفاناً بلا حدود ولسوف...
أجفل فارس، انتفض بشدة حين أمسكت العروس بركبته، ولفت أصابعها المتشنجة على فخذه، لأول مرة في حياته تلامسه يد امرأة، تفتحت خلايا جسده وبدأ العرق يجري غزيراً بارداً من مساماته، تقبضت عضلات ساقه في محاولة للهرب وما تجرأ على الحركة، فكر، تمنى لو يمد يده فيبعد يدها عنه، تمنى لو ينهرها موبخاً، فكر وفكر، زاد من عنف حركة بسبابته على ظاهر كفه يعالج السحجة حتى أزاح عنها قشرتها المتقرنة فأدماها.
زاد تمسك العروس بركبته طرداً مع زيادة الضغط على أعصابها ودعمت تلك الزيادة بيدها الثانية التي تمسكت هي الأخرى بفخذ فارس مستغيثة مستنجدة، وبقي لسانها في مكانه يلجمه الخجل.
كانت السيارات قد تركت المدينة وسلكت الدرب الذي يسلكه فارس كل يوم في ذهابه إلى العمل وإيابه، نظر إلى البعيد، إلى المنزل المنفرد، ركز نظره جيداً، تبدو الشجرة أمام البيت في نقطة المنتصف بين زاويتيه، أرجع البصر إلى ساقه المحاصرة بأصابع العروس فتمنى.
تمنى لو تنقلب إحدى السيارات بمن فيها فيتوقف العرس، تمنى لو يموت لو تموت العروس، عشرات الأماني الساذجة تصارعت في خياله لكن... لا فائدة نظر مرة أخرى إلى البيت المنفرد، كانت السيارة التي تقل فارساً تحاذيه والشجرة تغطي زاويته الشرقية فتحجبها بكاملها عن العيون.
عاد فارس ليتمنى، تمنى لو أن الموكب توقف فجأة في المدينة ونزل سائقوا السيارات ليتشاجروا، سينزل هو باعتباره الشخص الأهم في العرس ولكن لن يصلح بينهم، بل سيتخذ طريقاً في جوف أحد الأزقة المظلمة ويختفي عن الأنظار ريثما تنتهي الجلبة وتعاد العروس إلى منزل أهلها.
سحب ساقه بضعة ميلمترات، راحت ضربات قلبه تزداد عنفاً حتى خيل إليه أن صدره لن يلبث أن ينشق، بعض الناس يصاب بأزمات قلبية مفاجئة لو أن ذلك يحصل الآن لأحد المدعوين، لو أن ذلك يحصل لفارس نفسه سيغير الموكب اتجاه سيره ويتجه إلى أقرب مشفى، سيدخلونه غرفة تزدحم بالأجهزة الدقيقة ليعيش بين جدرانها آمناً، سيوثقوه بالأربطة الطبية والأنابيب، ولن تستطيع ألف عروس زحزحته عن سريره.
التفت إليها إلى العروس كانت عيناها جاحظتين، تبثان وهجاً غريباً عجز عن تفسيره، ووجهها المحتقن تشوبه زرقة أتت على ألوان زينتها فبدت كأنها... كأنها...
انهار جدار الوهم فجأة وانكسرت صورة سميرة، جاءته وصال من عمق الماضي مهرولة لتحتل ساحة إحساسه بالكامل، مدّ أصابع الخيال في ظلمات الرعب يلملم بها حطام الحاضر المتشظي، يحاول إصلاح ما انكسر كانت الصورتان قد تداخلتا حتى عجز عن الفصل بينهما، وبقيت وصال بوجهها القاسي الشبيه بهذا الوجه وعينيها الجاحظتين وأنفاسها المتحشرجة الصادرة عن جسد معروق ضخم يجثم بكامله فوق ولد نحيل لا يفقه من أمور الكبار شيئاً، تقوم بحركات غريبة اغتالت صرخة الخوف في صدره وقذفت به إلى إحساس يشبه إحساسه الآن ورجفة في أوصاله كهذه التي يحسها الآن وصال، تلك الأرملة الشابة التي حمّلت ضميره الإثم منذ بداية حياته وجعلته يعيش في عزلة، كارهاً الناس والحياة ظاناً السوء بكل أنثى، باحثاً عن وميض الشبق في كل العيون الواسعة المستديرة.
تمنى لو أنه في منام فكل مناماته لا تخلو من مثل هذا الكابوس الذي ما فتئ يراوده منذ سنين ويضغط على أنفاسه حتى تمتد يد أمه الرحيمة، فتوقظه بحنان يفتح عينيه على وجهها الوديع ويحمد الله أن ذلك ما كان سوى أضغاث أحلام.
الضغط المنبعث من مثانة العروس ما عاد يُحتمل صار يدق مساميراً غليظة في رأسها فيبعث ألماً شديداً في أوصالها عضت على شفتيها في محاولة لابتلاعه لكن المثانة الممتلئة تكاد تنفجر بما فيها، تمنت لو تستطيع نقل شكواها لأحد وليس حولها سوى العريس وسائق السيارة، راحت تتمسك بعنف أكثر بساق العريس التفتَ فارس رأى وصال مرة أخرى تمزق حجاب الزمن وتحتل وجه العروس، فجأة شعر بتيار كهربائي عنيف يضرب أسفل ظهره ويشل إحساسه أمام عينيها الضارعتين الجاحظتين.
كان البيت المنفرد قد أصبح خلف السيارة في البعيد البعيد تشبثت العروس بركبته أكثر تمشت بأصابعها المرتجفة على فخذه، ما زال موكب السيارات يمشي متمهلاً مطلقاً الأبواق، الزغاريد تعلو الحصار يشتد وصال تفحُّ على صدره بجسدها العاري الثوابت تهتز، تتحرك، آمن فارس أن الثابت الوحيد في حياته ليس وجه وصال وطفل يحاول التملص بجسده من ثقلها وبروحه من لعنتها.
رمى رأسه للخلف وتراخت يداه أطلقت العروس صرخة استغاثة حادة ثاقبة جعلت السائق يجنح بسيارته إلى أقصى اليمين من الإسفلت مشيراً إلى الموكب بالتوقف.
جيء بماء بارد نظيف ليغسل به وجه العريس، كان الخوف وقوة الصدمة والشؤم الذي بدأ بأولى تباشيره على الحياة الزوجية متمثلاً في هذه الإغماءة مبررات كافية منحتها النسوة للعروس حين شاهدن السائل الدافئ يبلل ثوبها الأبيض ويجري في قاع السيارة.