عرض مشاركة واحدة
قديم 11-17-2011, 03:54 PM
المشاركة 53
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الأعمال الكاملة لمحمود المسعدي في أربعةمجلدات


تونس: حياة الرايس
صدرت منذ ايام في تونس الاعمال الكاملة للكاتب محمود المسعدي، عن دار الجنوب للنشر. وقد تولى القيام بالجمع والتقديم والببلوغرافيا الدكتور الناقد محمود طرشونة الذي عرف باهتمامه الكبير بأعمال محمود المسعدي. وقد رافقه في مختلف مراحل مسيرته الادبية والفكرية.
وتضمن الجزء الاول من هذه الاعمال الآثار المعروفة للمسعدي هي: «كتاب السد» و«حدث أبو هريرة قال...» و«مولد النسيان» وقصتي «المسافر» و«السندباد والطهارة» وكتاب «من ايام عمران» الذي حققه ايضا وجمعه الدكتور طرشونة واظهره للقراء «قبل صدور الاعمال» مع «تأملات» تجاوز عددها المائة وارفقه بملحق «قصة القصّة» وهي حكاية تروي رحلة بحثه وتنقيبه عن هذه الاوراق التي اكتشف البعض منها على شكل خربشات على جذاذات بعض الجرائد القديمة. وقد قدم هذا الكتاب الدكتور الناقد توفيق بكّار.
وآخر ما احتوى الجزء الاول نصا بعنوان «بظاهر القيروان» وهي قطعة تمثيلية ذات فصل واحد ومنظر واحد.
المجلد الثاني ضم الاعمال الثقافية بدءا بـ «تأصيلا لكيان» وهو مجموعة مقالات ومحاضرات في الادب والفلسفة والثقافة وهي: «صحائف كتبت على وجه الدهر مختلفات، تمحيصا للرأي والتعبير، وحفاظا لعهد الفكر جلاله، والقلم حريته والاباء حرمته، والجهاد آدابه، في فترات توالت وتباعدت في الزمن العديد، وتقاطعت متصلة في امتداد سؤال واحد لا يزال حتى اليوم ينشد جوابه ومن اقدم القدم كان السؤال: «لزوم ما لا يلزم» في كيان الانسان»، كما جاء في تقديم محمود المسعدي نفسه لها. كما ضم هذا الجزء نظرية صاحب هذه الاعمال حول: «الايقاع في السجع العربي» وهي رسالة دكتوراه اعدها في جامعة السربون ولم يتفرغ لمناقشتها بسبب انشغاله بمهام ومسؤوليات وزارة التربية القومية آنذاك (1958 ـ 1968) عندما كان وزيرا لها. وقد ورد هذا البحث كاملا بالفرنسية في المجلد الرابع.
المجلد الثالث احتوى على مقالات ومحاضرات ومقدمات وحوارات عديدة كانت مشتتة ومتفرقة بعضها في الصحف والجرائد وفي اشرطة سمعية وبصرية داخل تونس وخارجها وبعضها مدون في رقاع مخطوطة تقتضي التدقيق والتهذيب جمعت الآن في مجلد واحد مما يسهل عملية البحث بالنسبة لأي طالب او باحث او ناقد يريد البحث في فكر الاديب الكبير محمود.
==

ماذا يتبقّى من محمود المسعدي ؟



إنّ الحديث عن محمود المسعدي وقد أصبح من الخالدين قد لا يختلف عن الحديث عنه وهو حيّ لأنّ أعماله الأدبية وسيرته في الحياة تكرّست في الأذهان من زمن وأصبحت جزءا من الثقافة التونسية. ومن ذا الذي مرّ بقسم الباكلوريا آداب ولم يتفحّص "السدّ" أو "حدثّ أبو هريرة قال" إن لم يدفعه الفضول إلى قراءة "مولد النسيان" و "تأصيلا لكيان" و "من أيام عمران"(في في الفترة الأخيرة). إنّ المسعدي ارتبط بذاكرة عدّة أجيال لا لأنّ موقعه السياسي والإداري يسمح له بأن يتربّع على عرش البرامج المدرسية بل لأنّه جدير بذلك بدليل أنّه حافظ على هذه المكانة وهو خارج مواقع النفوذ ولا ننسى أنّ البرامج الجامعية التي لا تخضع إلاّ لاعتبارات علمية أعطت المسعدي حقّه من الدراسة والبحث.
ما الطريف في أدب محمود المسعدي وهو من المقلّين وأغلب أعماله أنجزها في فترة سابقة لتاريخ الاستقلال ؟
إنّ أصالة هذا الأدب ووفاءه لجوهر الإنسان هي التي مكّنته من أن يفتكّ الإعجاب إلى حدّ أنّ المخيال الشعبي نسج حكايات عن " السدّ " وعن العلاقة بين صاحبه وعميد الأدب العربي ونُسبت إلى طه حسين أقوال لم ترد في المراسلات التي نشرت .
أ-) لغة المسعدي
إنّ ما نخرج به من هذه القصّة يتمثل في أنّ المسعدي حريص على أن لا يكرّر نفسه، وقد كان معروفا بصرامته في العمل مع تلامذته ومع الأساتذه أمّا في الكتابة فقد تمثلت الصرامة في علاقته باللغة فهو يقسو عليها ويشذّبها من كلّ الزوائد فلا يسمح لها بالخروج إلى النّاس إلاّ وقد تهذّبت واستقامت وتجلّت فكانت في خير صورة شاءها صاحبها،.
لقد كتب المسعدي نثرا ولكنّه صاغه وهو مدرك لقيمة اللغة وإيقاعاتها، أوَ لم يخصّص بحثه الأكاديمي للنظر في الإيقاع في النثر العربي ؟ إنّه يكتب من ذاكرة مكتضّة تتزاحم فيها نصوص الجاحظ والتوحيدي وأخبار الأصفهاني وإيقاعات المقامات فكانت كتابة منحوتة نحتا من اللغة الصوان. وإن نحن استثنينا فقرات من السدّ، فقد جاء نثر المسعدي كأنه شعر بفعل ما توفّر فيه من جمال الإيقاع وحسن السبك والنظم بعيدا عن حوشي الغريب، يتوفر على جمال الصورة وبلاغة الإيجاز. يغنيك قليله عن كثير من اللغو والثرثرة. وليس غريبا أن يحاول العديد من الأدباء المعاصرين النسج على منواله والانتماء إلى مدرسته في كثير من الفخر والاعتداد ومن أمثلة هؤلاء نذكر صلاح الدين بوجاه ومحمد الدلاّل وفرج الحوار وفرج الغضاب ...
ب-) المسعدي الوجودي
إنّ قارئ مولفات المسعدي يدرك بوضوح اعتناق الرجل للمذهب الوجودي ولعلّه متأثر في ذلك بثقافته وبإقامته في فرنسا زمن ازدهار هذا المذهب. غير أنّ وجودية الرجل تختلف عمّا ألفناه في كتابات سارتر وكامو، لأنّه - ومثلما صرّح بذلك أكثر من مرّة - لم يكتب شيئا يدل على أنّ الحياة عبث.
لا شكّ أنّه يؤمن أنّ الوجود يسبق الماهية وما على الإنسان إلاّ أن ينحت وجوده ويصوغ ذاته ويحقّق ماهيته من خلال ما يعرض له من تجارب. أليست هذه الفلسفة احتفالا بالإرادة في معناها السامي؟ فيها الكثير من النفس الاعتزالي وتؤمن بجدارة الإنسان في أن يتحمّل أمانة هذا الكون، إنّ غيلان هو أبو هريرة وهو أنت وأنا وكلّ إنسان وعى ذاته وعزم على أن يحقق وجوده الفردي والجماعي. هو الإنسان الذي قبِل الأمانة وتحمّل أن يكون خليفة اللّه في الأرض بكلّ ما تعنيه الخلافة من معنى. وهو الإنسان الذي طوّر المعارف والعلوم، وذلّل الطبيعة وقاوم الجوع والمرض وسعى إلى ما فيه خير البلاد والعباد، هو الإنسان الذي بنى الحضارة ونشر قيم الحقّ والعدل والحبّ.
وجودية المسعدي لا تقنع بالموجود بل تطمح دوما إلى المنشود حتّى إن كانت تؤمن أنّها قد لا تدرك مطلق المنشود لأنّه صنو الكمال. غير أنّ هذا العمل لا يعني العبثية وغيلان ليس سيزيفا لأنّه يؤمن أن الفعل البشري لا يكتمل ومتى اكتمل الفعل كانت النهاية لأنك كما يقول المسعدي "إن أنت أتممت الفعل قتلته" وطبيعة الإنسان السائر بصفة حتمية وطبيعية إلى العجز والفناء لا حدود لطموحها، وما قد يبدو اليوم معجزة سيبدو يوما آخر عاديا.
كان لا بدّ لسدّ غيلان أن لا يكتمل بناؤه، لأنّه ليس سدّا من حجارة بل هو الحلم الإنساني الذي لا حدّ له أكثر ممّا هو حلم شخص محدّد في الزمان والمكان. ولو أنّ المسعدي جعل روايته تنتهي نهاية سعيدة باكتمال بناء السدّ لكانت قصّة عادية وأقل من العادية لا تستحقّ أدنى اهتمام لأنها ستتحول إلى حكاية اجتماعية تنتهي بالزواج السعيد في فرح وسرور ولفقدت جلّ معانيها الإنسانية الخالدة.
قد نتّهم المسعدي بالقسوة على أبطاله وحكمه عليهم بالفشل والعبث بهم في نهايات مأسوية. ولكنّ المأساة من طبيعة الوجود البشري. ويكفي أنّ المرء يدرك تمام الإدارك أنّه محكوم عليه بالفناء ليشوب النقصان كلّ عمله .
إنّ شخصيات المسعدي وإن كانت كائنات من ورق على حدّ عبارة النقد الحديث فهي كائنات بشرية وليست أسطورية، وكان لا بدّ لأبي هريرة أن ينسحب من مسرح الأحداث لأنّه أتمّ دوره وعاش ما عاش من تجارب متنوعة، ولم يعد له ما يضيف إلاّ أن يكرّر ذاته. وما انسحابه إلاّ إفساح المجال لغيره ليواصل رسالة الحياة ويحيا بدوره نفس التجارب بنفس مختلف نظرا لاختلاف الظروف زمانا ومكانا.
ولقائل أن يقول ما دام الأمر على هذا الشكل من النقصان والفشل، ألا يُخفي إيمانا بعبثية الحياة ما دام سيزيف يسكن كلّ جهد وعمل؟
إنّ المسعدي وإن آمن بأنّ الوجود سابق للماهية فإنّه كان ينطلق من واقع إسلامي ويختار شخصياته من هذا الفضاء وينزّلهم في مشاغل هذا الواقع وفي فضائه الثقافي والروحي . إنّه يكتب لمجتمع تونسي وعربي إسلامي قبل أن يكتب للإنسان في المطلق. إنّه يحمّل شخصياته طموحات هذا المجتمع في النهوض من التخلّف وبناء حضارة جديدة. إنّ المسعدي لا يستنسخ نماذج محنّطة بل يثور على الواقع الموروث ويسعى إلى جعله يعي ذاته ووجوده حتّى يصبح قادرا على الفعل وتحديد مصيره والسعي إلى تحقيق هذا المصير. إنّ معنى الحياة عند المسعدي يكمن في الحياة ذاتها. فأن تعيش حياتك وتحقق وجودك الفردي والجماعي ذاك هو معنى الوجود السامي . إنّ وجودية المسعدي ملتزمة بالفعل، وما دامت قد تنزّلت في واقع عربي إسلامي تخلّف أشواطا عن ركب الحضارة فلا مجال للعبثية لأنّ للفعل السياسي والاجتماعي أو الثقافي معاني جليلة تنتفي أمامها أحزان العبثيين وهي تحتاج إلى عمل أجيال وأجيال لنفي أسباب التخلف واستعادة الراية من جديد مع المحافظة عليها وهو مشروع يحتاج إلى سدود عظيمة تنشد الفعل وتحتفل بالإضافة حتّى يكتمل الصرح أو يقارب الاكتمال ولو بعد أجيال.
ج-) المسعدي بين الكتابة والالتزام
إنّ من شأن النقد الأدبي أن يحاسب الكاتب على ما كتب لا على ما فعل، ولكنّنا ونحن بصدد الحديث عن المسعدي لا نمنع أنفسنا من أن نتساءل إن كان الرجل قد استطاع أن يحقق شيئا ممّا دعا إليه فيما توفّر له من العمر المديد أو سعى إلى تحقيق ما كتب؟
ليس الأمر محاسبة، وإنّما هي الدراسة والرغبة في معرفة مدى التزام الكتّاب العرب بما يدعون إليه من جميل القول وجليل الفعال.
إنّ البحث في حياة المسعدي يحتاج إلى متسع من القول وليته أضاف إلى ما كتب شيئا من أدب السيرة الذاتية ليفيد في هذا المجال ويكشف عن صفحات مجهولة.
كلّنا نذكر أنّ محمود المسعدي عمل في مجالات ثقافية ونقابية وسياسية. فقد لعب دورا رئيسا في مجلّة "المباحث " التي كانت عنوانا لنهضة ثقافية وأدبية زمن صدورها أيام الاستعمار، من غير أن ننسى أنّه أسس مجلّة الحياة الثقافية التي تصدرها وزارة الثقافة باستمرار إلى اليوم فكان له شرف التأسيس . وكان في الأربعينات من مناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل فكان النضال ضدّ رأس المال وضدّ الاستعمار البغيض، ولا عجب أن يكون إهداء "السدّ" إلى روح فرحات حشّاد شهيد النضال، رغبة من المؤلف في أن تستمرّ روح حشّاد في الإشعاع ومواصلة الرسالة على الدوام من خلال نضال رفاقه بعده ومن بينه محمود المسعدي.
وفي المجال السياسي كان المسعدي محضوضا بتقلّد مسؤولية وزارة التربية على امتداد 10 سنوات في فترة دقيقة من تاريخ البلاد فكانت المناسبة سانحة لوضع برامج تعمل على تنشئة أجيال تتسلّح بثقافة حديثة من مقوماتها المعرفة والعلم والإيمان بالإنسان غاية ووسيلة، لذا صار تدريس الفلسفة من ثوابت برامج التعليم وتركّز الأمر على تطوير تدريس العلوم والمعارف. ويمكن للباحثين اليوم أن يقوّموا تجربة الستينات في ميدان التربية والتعليم مع ربطها بظروفها المحلّية والعالمية وما قدّمته من نتائج في العقود الموالية.
إنّ تقويم تجربة المسعدي في الثقافة والتعليم، سواء كان الرجل أستاذا أو وزيرا للثقافة أو للتربية تحتاج إلى عمل جماعي وشهادات ودراسات عديدة يمكن على ضوئها أن ندرك مدى نجاح المؤلف في نقل أفكاره ومواقفه إلى أرض الواقع. لا شكّ أنّه ككل عمل بشري سيكون مشوبا بالنّقصان لأنّ جانبا من الأمر يتجاوزه.
إنّ المرء حديث بعده، ولعلّ الأيام القادمة تمكّننا من نفض الغبار عن الكثير ممّا كان خافيا في مخطوطات المسعدي وحياته، ومهما يكن من أمر، فإنّ الرجل استطاع أن يقدّم إضافة كبيرة إلى الإبداع الأدبي في تونس جعلته يشعّ بكتابته في الزمان والمكان. ومما تجدر الإشارة إليه هو أنّ محمود المسعدي وإن عرفناه متقدّما في السنّ فإنّ أغلب إنتاجه صاغه في سنّ مبكّرة مسكونا بحميّة الشباب مثله في ذلك مثل أبي القاسم الشابي، فهل قدر الريادة الأدبية أن تكون شبابية ؟
لقد بقي محمود المسعدي وفيّا لروح الشباب وحميّة الزمن الأول فهل يقتدي به أبناء هذا الجيل لينسجوا على منواله، سعيا إلى تقديم أعمال إنسانية خالدة لتكون تونس رائدة على الدوام بأحفاد ابن خلدون والشابي والمسعدي.

محمّد البـدوي ـ طبلبة - تونس