عرض مشاركة واحدة
قديم 08-17-2010, 09:35 PM
المشاركة 4
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ألكسندر بوشكين(2/2)

ألكسندر بوشكين والقرآن الكريم




" أنا الآن أعمل من أجل تمجيد القرآن الكريم " (بوشكين)




روسيا والعرب والمسلمين



يجد الباحث أن المؤرخ (وول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة قد أكد على أن علاقة روسيا بالعرب والمسلمين تعود إلى عصور الفتوحات الإسلامية وإلى أيام الخلافة (العربية) التي يسرت وصول التجار العرب المسلمين إلى الشمال الروسي .

كما تشير المصادر إلى أن الإسلام في الثامن الميلادي ما وراء القفقاس (القوقاز) وما وراء النهر وظل ينتشر حتى سيطر على بلاد واسعة وانضمت إليه جماعات كبيرة من مختلف الأجناس العرقية والتقاليد الثقافية والأساليب المعيشية .

وحول هذا الموضوع أشار المستعرب (إغناطيوس كراتشكوفسكي) إلى أن أسم (العرب) قد ورد في مخطوط قديم يعود إلى القرن الحادي عشر هو " حكايا السنين الغابرة " ، ويقول إنه نتيجة وصول التجار العرب المسلمين إلى المدن الروسية ونتيجة الاحتكاك مع الشعوب المجاورة التي تعتنق الإسلام ، وكذلك ذهاب الحجاج الروس المسيحيين إلى فلسطين دخلت اللغة الروسية الكثير من الكلمات العربية التي ما زال بعضها يستخدم حتى الآن ، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بدا تأثير الأدب العربي في روسيا واضحا جدا ، فقد كتب (سينوفسكي) " قصص شرقية " وترجمها ( بولديرف ) إلى الروسية ، كما تم ترجمة قصص ألف ليلة وليلة التي ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، وغيرها.

وعلى ذلك يمكن القول بأن الاهتمام بفلسفة وحضارة العرب لدىالباحثين الروس قد ظهر منذ زمن بعيد .



ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية



اتخذ الغرب وعلى فترات تاريخية موقفا عدائيا من الإسلام ، ولم يكن هدف ناشري ترجمات القرآن من ممثلي الكنيسة هو التعريف بالإسلام بل محاربته والهجوم عليه ، وينطبق هذا أيضا على الكتابات عن السيرة النبوية الشريفة ، وقد كانت هذه الترجمات مليئة بالأخطاء وعدم الدقة ، كما تختلف المعاني حينما يتم ترجمتها من اللغة الأم إلى لغة وسيطة إلى اللغة المعنية فعلى سبيل المثال ، ومن خلال المصادر المتوفرة لدينا وجدنا إن هناك اهتماما كبيرا بترجمة القرآن ( أو معانيه ) إلى اللغة الروسية وهذه الترجمات كانت من اللغة الفرنسية :



· في عام 1716 أمر قيصر روسيا المتفتح الواعي ( بطرس الأكبر) بترجمة القرآن الكريم " معاني القرآن " إلى اللغة الروسية .

· في عام 1716 قام المترجم (بوسينكوف) بترجمة القرآن الكريم والتي نقلها بدوره عن ترجمة فرنسية تمت على يد المستشرق الفرنسي ( دي ريير – Du Ryer ) عام 1647 ، ( وكانت أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ) ، وهي ترجمة جعلت المستشرق الروسي (كراتشوفسكي ) يبدي تشككه حول قيمتها ومصداقيتها ودقتها ، إلا إنها تظل الترجمة الأولى للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية رغم أخطائها العديدة التي تحدثت عن القرآن بعنوان غريب ( القرآن عن محمد / القانون التركي ) ، رغم أن هذا المترجم كان قنصلا لفرنسا في مصر ، وكان يتقن اللغة العربية واللغة التركية إلا إن في ترجمته هذه كثير من المواضع الغامضة ، وقد أعيد طبعها هذه الترجمة في هولندا سنة 1649 ، وقد ظفرت هذه الترجمة الفرنسية بالعديد من الترجمات.

· في عام 1787 تم طبع القرآن كاملا في نصه العربي في بطرسبورج (477 صفحة) ، تحت عنوان :

(Al-Koran , Arabice. Petropoli, 1787 ) ، وقد نشرت برعاية إمبراطورة روسيا (كترينا) " ليستفيد منه رعاياها المسلمون " ، وقد أشرف على الطبع مُلاّ عثمان إسماعيل ، وقد أعيدت هذه الطبعة في سنة 1790 و سنة 1793 دون أي تعديل .

· ترجمة القرآن الكريم التي قام بها الأديب ( فيريو فكين ) في أواخر القرن الثامن عشر إلى اللغة الروسية سنة 1790 عن اللغة الفرنسية أيضا .

· ترجمة (سالموكوف)التي صدرت عام 1878 م.

· وترجمة المستشرق الكبير (كراتشكوفسكي ) التي صدرت عام 1963 .



" ... وقد كان هذا الكتاب العظيم المتميز بمستواه الفني الرفيع قد ألهم الشعراء الروس فنظموا قصائد ذات صلة بمضمونه الغني ... " .



أدباء روسيا والإسلام



ذكر الأديب الفرنسي (أندريه جيد) في كتابه ( دوستويفسكي – مقالات ومحاضرات ) جانبا من اهتمامات هذا الأديب الروسي المشهور بالإسلام وبالرسول (r) في تلك الرسائل بين الأديب (دوستويفسكي) الذي كان منفيا في سيبيريا وبين شقيقه في موسكو ، و هذا الاهتمام ليس قاصرا فحسب على ( دوستويفسكي ) بل إننا نجد أن أدباء وشعراء روسيا اهتموا بالعرب يشكل عام وبالإسلام وبالرسول (r) بشكل خاص اهتماما كبيرا ، فـ( ليو تولستوي ) و ( بوشكين ) و ( ليرمنتوف ) و ( إيفان نونين ) أمثلة واضحة على ذلك ، بل إن هناك من يذهب أو يظن إلى أن بعضهم من مات على دين الإسلام ،وأشير هنا على عجالة إلى بعض كلمات هؤلاء الأدباء :


· يقول (بوشكين) : " كثير من القيم الأخلاقية موجزة في القرآن في قوة وشاعرية " ..

· يقول ( ميخائيل ليرمنتوف ) : " فربما ، سماء الشرق قد قربتني بلا إرادة من تعاليم نبيهم " ، ومن يتصفح ديوان (ليرمنتوف) يرى قصائد ( الغصن الفلسطيني )،(الرسول) وهي إعجاب شديد بسيدنا محمد(r) وتصوير لصلابته أمام التعذيب الذي مارسه الكفار .

· ( تولستوي) : من خطاب له إلى الإمام محمد عبده " يوجد دين واحد : الإيمان الصادق ، وأعتقد أنني لا أخطئ حين أعتقد أن الدين الذي أعتنقه هو نفسه الذي تعتنقونه " .

· ( إيفان بونين ): " افتح إذن ذلك الخالد فوق الصحراء ، فوق الأرض في المساء المعتم الزرقة ، كتاب النجوم السماوية : قرآننا " .



فسيرة الرسول (r) ذلك الأمي الذي تمكن بقوة الدعوة أن يوحد تلك القبائل المتصارعة وأن يصنع منهم وبهم دولة تمتد شرقا وغربا قد حازت إعجاب وانبهار أولئك الذين لا يتخذون الإسلام دينا ومنهم بالطبع (بوشكين) .



و تناول هذا الموضوع بالدراسة لجدير بالاهتمام والبحث والتقصي ، و ما أتناوله هنا أعتبره مجرد إطلالة سريعة على أحد هؤلاء هو ( ألكسندر بوشكين ) الذي تعرفنا عليه في الجزء الأول من هذا البحث .

ومن الضرورة إن التوقف لمعرفة أراء إنسان يدين بدين آخر غير الإسلام ذلك إن التباعد الذي تفرضه على (بوشكين) ثقافته وتربيته وعقيدته جعل بعض آراءه مخالفة للدين الإسلامي ولكنها من الندرة والقلة بالنسبة لتلك التي تتفق والفكر الإسلامي ، إضافة إعجابه الشديد بالقرآن الكريم وبشخصية النبي (r) واحترامه الكبير لها وحبه للحضارة العربية والإسلامية وآدابها .



تأثر (بوشكين) بالقرآن الكريم والسيرة النبوية



عندما اقتربت من (بوشكين) وطالعت قصة حياته القصيرة أدركت مدي تأثره بالقرآن الكريم في شعره وأفكاره ، ولقد حدث هذا التوجه في فترة من أقسى الفترات التي مرت به حيث كانت المواجهة بينه وبين أجهزة القمع القيصرية في أوجهها ، لقد كانت تلك الأجهزة تضيق عليه الحصار وتحاصره بعيونها وأرصادها حتى داخل بيته ، وحينما نفيَّ إلى جنوب روسيا (شبه جزيرة القرم)/(القوقاز) تعرف هناك على المسلمين ، وعلى القرآن الكريم وعلى سيرةالرسول (r) ، فوجد في القرآن الكريم روعة صياغته خير ملاذ يعينه على رفع صوت الاحتجاج ضد الشر وأشكال الظلم ، وعلى تأكيد حب الحياة الإنسانية والميل نحو الخير والعدل والجمال

جاء في رسالة بعث بها من منفاه في (نوفمبر- 1824) إلى أخيه في بطرسبرج : " أنا الآن أعمل من أجل تمجيد

القرآن الكريم " إعجابا بالقرآن الكريم ، وتشير المصادر المتوفرة إلى أن (بوشكين) لم يكتفِ بقراءة ترجمة القرآن بل طلب أن يسمع القرآن الكريم ترتيلا عندما كان يعيش بين الشعوب الإسلامية في جنوب روسيا .


وبدأ كتابة سلســلة قصائده التسع التي تحمل عنوانا واحدا هو " قبسات من القرآن " (ترجمها البعض : محاكاة القرآن) ، واستغرق في تأمل القرآن إلى درجة كانت تدفعه أحيانا إلى تطبيق لغة القرآن ومعاني القرآن على نفسه ، كما درس سيرة النبي (r)، وكتب قصيدة " الرسول " .

لقد تأمل (بوشكين) بعض موضوعات القرآن الكريم التي أخذها عن الترجمة القديمة وقدمها إلى الناس على شكل أبيات من الشعر بعد أن قام بتشذيب تلك الترجمة وبسطها بأسلوب أدبي شائق لتصبح سهلة الفهم فقد كانت اللغة الروسية القديمة صعبة وشائكة إلى حد كبير .



ويتكرر سؤال حول الأسباب التي حثت (بوشكين) على الاهتمام بالقرآن الكريم ؟

تقول الباحثة الناقدة ( أ.لوبيكوفا) : " على امتداد مائة عام وأكثر حاول الباحثون في إنتاج (بوشكين) أن يحددوا السبب الذي جذب (بوشكين) تجاه القرآن ؟ و ما الذي حفزه على كتابة (القبسات) وهذا الاستفسار لا يخلو بالطبع من لهجة الدهشة والتعجب "

ولقد اختلف الباحثون في تحديد الأسباب التي أثارت اهتمام (بوشكين) بالقرآن ، من أهم هذه الآراء :

· تقول الباحثة ( كاشنا ليفار ) : " إن اهتمام (بوشكين) كان مرده أسبابا شخصية ، كان من الضروري أن يشعر (بوشكين) تجاه القرآن باهتمام شخصي خاص " .

· ويقول الناقد ( سلومينسكي ) : " إن هناك توازنا بين التوثيقات المستلهمة من القرآن وملامح الظروف التاريخية الروسية " .

· أما الناقد ( ستراخوف ) فيقول : " القرآن على ما يبدو قادر على التأثير بقوة على الناس ، وفي الوقت الحاضر تصنع روح هذا الكتاب انتصارات كبيرة " .

· ويرى الناقد الروسي : ( براجينسكي ) : " إن تأمل بوشكين في القرآن كان (فلسفيا) فقد لجأ إليه من أجل الوعي بدروس التاريخ ولخدمة الواقع " .


· يقول الناقد السوفيتي ( براجينسكي ) : " أصبح القرآن مصدرا للتعبير عن الأفكار البطولية والشجاعة الصلبة والنضال المنكر للذات في الفترة التي سبقت حركة الديسمبريين ".



هذا ما ذهب إليه النقاد الروس ، و في رأينا أن أقربهم للصواب هو رأي ( ستراخوف ) .

ويمكننا القول بأن (بوشكين) عاش فترة شبابه متأثرا بالاتجاه (الرومانتيكي) إلى حد ما ، ولكن اطلاعه على حياة الشعب الروسي عن قرب وتعرضه للقمع والاضطهاد و تعرفه على الأفكار الثورية لبعض أصدقائه من المثقفين والعسكريين دفعه إلى إعادة النظر في العديد من آرائه الفكرية والاجتماعية والبحث في الكثير من المصادر لإنسانية الرصينة كي يتشف منها الطريق الصحيح الذي يقود إلى الخروج من الأزمة الروحية ، فكان القرآن من المصادر الأساسية التي درسها في تلك الفترة الحرجة من حياته والتي توجت بتحوله إلى الواقعية .

وكتب عنه الباحث الروسي ( سولوفي ) : " يطرح (بوشكين) في هذه السلسلة الشعرية وبشكل واقعي خصائص الحضارة العربية والإسلامية ، ويحاول أن يقدم تصورا موضوعيا عن القرآن الكريم وعن النبي (r)، كذلك حاول (بوشكين) في نتاجه الشعري هذا أن يبين مدى أثر لغة القرآن االكريم وأهميتها بالنسبة للمجتمع العربي آنذاك "



قصيدة الرسول



كتب (بوشكين) قصيدة " الرسول " في عام (1826) ، وتتناول هذه القصيدة المرحلة المبكرة من النبوة : فترة تلقي الوحي ، ( بينما تتناول (قبسات من القرآن) مراحل اللاحقة) ، ويستهل (بوشكين) قصيدة " الرسول " بمقطعين يلقيان الضوء على عجالة على ظروف النبي (r) قبل تلقي الوحي مباشرة ، إن الرسول (r) المنتظر تميزه روح غنية (يضنيها) التأمل في الكون والبحث عن حقيقة الوجود ، ومن ثم تجنح روحه المتأملة إلى العزلة في الصحراء (غار حراء ) يؤرقها البحث عن إجابات شافية لأرق الفكر والتأمل :



يضنينا عطش الروح ،
وفي الصحراء الموحشة كنا نتمدد



ثم يرسم (بوشكين) صورة شعرية لظهور جبريل (عليه السلام) للنبي (r) :


فظهر لنا في مفترق الطرق ،
سارافيم ذو الأجنحة الستة
وبأصابع خفيفة مثلما في حلم
لمس قرة عيني :
فانفرجت مقلتاي النبويتان
كأنهما عينا نسر مذعور



في هذا الوصف نجد أن (بوشكين) ذكر (سارافيم : اسرافيل ) بدلا من (جبرائيل) وذلك لاشك راجع للترجمات التي قرأها (بوشكين) ، وقد وصفه بأن لديه ستة أجنحة وتتقاطع هذه الصورة الشعرية لجبرائيل مع حديث عبدالله

ابن مسعود (t) الذي يذكر فيه إن لجبرائيل (ستمائة جناح) ، فهل كان (بوشكين) على دراية بهذا الحديث ؟ ... ربما ، ومن ناحية أخرى ربما استلهم صورة جبريل (عليه السلام) من الآية الكريمة :



) الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ( (سورة فاطر) .



وصور (بوشكين) حالة الرسول (r) عندما نزل عليه الوحي ( بالنسر المذعور) ولعل اختيار تشبيه الرسول (r) في خوفه (بالنسر) كان يعني به (بوشكين) الدلالة على القوة والشموخ ن وربما اختار (بوشكين) النسر القوي لكي يصف به الرسول (r) حيث يتحمل ثقل الرسالة والقرآن الذي عجزت الجبال عن تحمله ، ويواصل (بوشكين) قصيدته التي تصور هذا الحدث الجلل وهو بدء الوحي :



فأصغيت إلى رعدة السماء
وتحليق الملائكة في الأعالي
وسريان حركة أغوار البحار
ونمو الكرمة النائية



وفي هذا الوصف يبدو تأثر (بوشكين) بسورة (النجم) وقصة الإسراء والمعراج :

) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)( (سورة النجم )

إن ( آيات ربه الكبرى ) تنعكس في الخيال الشعري لـ(بوشكين) في سماع النبي (r)" لرعدة السماء" و حركة

" تحليق الملائكة في الأعالي " وما يدور في " أغوار البحار " .. ثم أليس سماع الرسول (r)لهذه الأشياء هو استلهام لقصة الإسراء والمعراج التي رأي فيها الرسول (r)جبريل ، لقد أورد المستشرق الروسي (بولديريف) في مقال " رحلة محمد إلى السماء " وصفا للمعراج مما يؤكد معرفة (بوشكين) لهذه الرحلة .... ولنكمل :

انحنى الملاك على فمي
وبيده اليمنى المضرجة
وضع في فمي المشدوه

كل أقوال الحكمة


إن هذا الوصف يبدو مستلمها من الآية الكريمة من سورة العلق : ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (
ثم يورد (بوشكين) قصة شق صدر الرسول (r):



وشق صدري بسيفه ،
واقتلع قلبي المرتجف ،
وأقحم في صدري المشقوق
جذوة متأججة النيران
فانطرحت في الصحراء كالجثة ،


ولقد وردت قصة شق صدر الرسول (r) في كتاب (واشنطون ايرفينج ) وكان (بوشكين) على دراية به .

ثم يتابع (بوشكين) قصيدته مستلهما سورة المدثر ) يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)(

وناداني صوت الله :
" انهض ، يا رسول ، وابصر
لبِّ ارادتي ،
وجب البحار والأراضي
وألهب بدعوتك الناس " .


تلك هي قصيدة الرسول لأمير شعراء روسيا و التي أثارت هذه القصيدة اهتماما شديدا لدى جانب من معاصري الشاعر ، كما استمر تأثيرها لأجيال بعده ، فقد صارت السيرة النبوية الشريفة بالنسبة للصفوة المثقفة من الروس و روَّاد الحركة الوطنية نموذجا للقدوة الحسنة الصابرة على الرسالة ، والمجاهدة في سبيلها ، ومن ذلك قلب الأديب والثائر الروسي الديسمبري (تشاداييف) التي أكد فيها على عظمة الرسول (r)وأثره في حركة الديسمبريين الثورية فيقول : " إن عظمة الرسول محمد (r) الذي حمل لواء الدعوة الجديدة التي كان لظهورها الفضل في ذلك (الغليان الديني في الشرق ..) والمحفز لنضالنا " .

في عام 1880 وفي حفل افتتاح النصب التذكاري للشاعر (بوشكين) اختار الكاتب الشهير (دستويفسكي ) من

بين مؤلفات (بوشكين) قصيدة الشاعر ، وقرأها على الحاضرين " بانفعال وتوتر بدرجة بات من الصعب سماعه " .

كما أكد النقاد تميز هذه القصيدة من بين أعماله ، " بالجمال والعمق " و اعترفوا بها مؤلفا نابغا يميزه جمال لا يوصف ، و أحد " أروع مؤلفات عبقرية (بوشكين) القادرة على تمثل الشخصيات " .

وكتب (بوشكين) قصيدة بعنوا (المغارة) يقول فيها :


وفي المغارة السرية
في يوم الهروب
قرأت آيات القرآن الشاعرية
فجأة هدأت روعي الملائكة
وحملت لي التعاويذ والأدعية .


وتدل هذه الأبيات على أن (بوشكين) في اطلاعه على السيرة النبوية عرف تفاصيل الهجرة و قصة لجوء الرسول (r)وصاحبه أبي بكر الصديق(t)إلى غار ثور وملاحقة المشركين لهما و نزول الآية الكريمة رقم (40) من سورة التوبة .

وتظل رؤى الرسول (r) وكلمات القرآن الكريم رغم أن (بوشكين) لم يحصل إلا على ترجمة غير دقيقة تضئ جوانب نفسه ويردد في قصائد حبه للشرق وللرسول وللقرآن :


كم هي جذابة الزينة المبهمة
لليالي الشرق الفاخرة
كيف تنساب الساعات
أمام عشاق الرسول .


لقد أعجب (بوشكين ) بسيرة الرسول (r)إعجابا كبيرا جعله يستلهم مراحل مختلفة من السيرة النبوية في أكثر من قصيدة و بخاصة في مجموعة " قبسات من القرآن " .



قبسات من القرآن

( ترجمها البعض : " قبسات القرآن " أو " محاكاة القرآن ")



في عام (1824) كتب (بوشكين) (قبسات من القرآن) من تسع مقطوعات مختلفة الطول والبحر وتتناسب مع الآيات القرآنية التي اقتبس منها وأسس عليها أشعاره ، وقد وضع أرقاما باللاتينية لهذه المقطوعات ومن (1) إلى (9) ، ويلاحظ إن الشاعر يسميها (مقطوعة) أو (منظومة) بدلا من القول (قصيدة) لأن العنوان العام هو (الاقتباس) وحاول فيها أن ينقل الترجمة الركيكة للقرآن الكريم إلى آفاق الشعر النابض بروح الإيمان العذب :


الاقتباس الأول


يتألف هذا الاقتباس من أربع مقطوعات ، كل منها أربعة أبيات ، و يستهل الاقتباس من القرآن شكل القسم الوارد قي القرآن الكريم مستخدما كلمة (أقسم) بدلا من (واو) القسم ، لأن اللغة الروسية لا يوجد فيها حروف القسم ، يقول الشاعر :



أقسم بالشفع والوتر
أقسم بالسيف ومعركةالحق
أقسم بنجمة الصبح
أقسم بصلاةالعصر

كلا ، لم أودعك( في ترجمة أخرى :كلا لم أ هجرك)


في هذه الأبيات نرى مدى تأثر (بوشكين) بما جاء في سورتي الفجر والضحى :

) وَالْفَجْرِ(1)وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)(

) وَالضُّحَى(1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) (

فنجده يكرر المعنى ذاته ( كلا لم أودعك ) .


فمن الذي هديتُ إلى ظل الطمأنينة
وأخفيته عن تعقب الأرصاد فحافظت على حياته


يصور (بوشكين) في هذا المقطع قصة هجرة الرسول (r)إلى المدينة وقد وردت هذه القصة في الآية رقم (40) من سورة التوبة :


) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)(.


ألم أسقك يوم عطشك
بمياه القفار؟
ألم أمنح لسانك
سلطانا عظيما على العقول؟

تشجع واحتقرالخداع
والزم طريق الحقيقة بعزم
أحبب الأيتام وأذع قرآني
بين الخلائق الخاشعة! " ( في ترجمة أخرى : وبشر المخلوقات المهتزة )


و يعود (بوشكين) مرة أخرى في ختام هذا الاقتباس لاستلهام سورة الضحى :


) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى(6)وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10)وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)(


الاقتباس الثاني



إيه, يا زوجات الرسول الطاهرات
أنكن تختلفن عن كل الزوجات:
فحتى طيف الرذيلة مفزع لكن.
في ظل العذب للسكينة
عشن في عفاف: فقد علق بكن
حجاب الشابة العذراء.
حافظن على قلوب وفية
من أجل هناء الشرعيين و الخجلى ,
و نظرة الكفار الماكرة
لا تجعلنها تبصر وجوهكن.


يعكس هذا الاقتباس تأثر (بوشكين) بالآيات القرآنية التي تدعو إلى آداب الحجاب ، ونبذ التبرج واليت تعلي من عفة زوجات الرسول (r)، ونزولهن عن الرغبة في التزين والحياة الدنيا مقابل البقاء مع الرسول (r)، وبخاصة الآيات التالية :



) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً(32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) (- سورة الأحزاب .


والآية الكريمة التالية :


) يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً( (الأحزاب – 53 ) .


أما أنتم , يا ضيوف محمد
و أنتم تتقاطرون على أمسياته,
احذروا فبهرجة الدنيا
تكدر رسولنا.
فهو لا يحب الثرثارين
و كلمات غير المتواضعين و الفارغين:
شرفوا مأدبته في خشوع ,
و انحنوا في أدب :
لزوجاته الشابات المحكومات بالعفة .


في الجزء من الاقتباس يستلهم (بوشكين) الآية الكريمة التالية من سورة الأحزاب :


) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَايَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً(الأحزاب – 53 .


الاقتباس الثالث

تناول فيه (بوشكين) موضوعين :

الأول : فيه قصة (عبدالله بن أم مكتوم) الواردة في سورة (عبس) ، حيث يقول:


و تجهم الرسول , و هو يتململ
بعد أن أحس دنو الأعمى:
و يسرع , لكن الرسول لا يقدر
أن يظهر له الحيرة.
لأنه مع الكتاب السماوي معطي وثيقة
لك يا رسول , لا للخارجين,
بشر بالقرآن في سكينة,
دون أن تجبر الكفار!


ونقارن معاني هذه الأبيات بالآيات التالية من سورة عبس :


) عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7) (


أما الثاني : فتناول فيه موضوع التكبر والغرور ووصف يوم القيامة :


علام يتغطرس الإنسان؟
على أنه جاء إلى الدنيا عاريا,
على أنه يستنشق دهرا قصيرا,
و أنه سيموت ضعيفا , مثلما و لد ضعيفا ؟
ألم يعلم أن الله سيميته ،
و يبعثه بمشيئته ؟
و إن السماء ترعى أيامه
في السعادة و في القدر الأليم ؟
ألا يعلم أن الله و هبه الثمار ,
و الخبز , و التمر , و الزيتون
ثم بارك جهوده
فوهبه البستان , و التل , و الحقل ؟
لكن الملاك سيعود مرتين ,
و سيدوي على الأرض رعدا سماويا:
و سيفرُّ الأخُ من أخيه ,
و يبتعد الابن عن أمه.
ويمثل الجميع أمام الله,
صرعى من الرعب,
و يسقط الكفار
يغطيهم اللهب و العفار.



وقد استلهم أفكاره من الآيات (18) و(40) من سورة النبأ ، و الآيات من (33) إلى (42) من سورة عبس ، مستخدما الصورة ذاتها وحتى الكلمات دون تعديل تقريبا :


و سيفر الأخ من أخيه ,
و يبتعد الابن عن أمه.


وفي القرآن الكريم : ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)( في سورة عبس .


الاقتباس الرابع


معك في القديم , يا قادر,
يا عظيم توهم أن يتبارى,
ممتلئا بالكبرياء المجنونة,
و لكن أنت إلهي , أفحمته.
أنت ( تقول) : أنا أهب العالم الحياة,
و أعاقب الأرض بالموت
فيدي مبسوطة على كل شيء.
و أنا كذلك , ( أقول) , أهب الحياة ,
و أعاقب أيضا بالموت:
فأنا يا رب, ندٌّ لك.
لكن خيلاء الإثم خفتت
من كلمتك الغاضبة :
سأرفع الشمس من المشرق,
فارفعها أنت من المغرب!


واستلهمها (بوشكين) هذه الأبيات من سورة البقرة وأترك لكم التأمل في الأبيات والآيات والمقارنة بينهما:


) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ((سورة البقرة – 258 )