عرض مشاركة واحدة
قديم 04-15-2014, 11:17 AM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مرحبا استاذ فارس كمال محمد

لما كان الموضوع واحد ومن اجزاء ثلاثة ارتأيت جمعه في ملف واحد لعل نقاشا يجري حوله في نفس المكان:
مع التحية ،،
==

الجزء الثاني


العقل واوهامه
.. لما كانت عقولنا تتعامل مع موضوعات الوجود الخارجي على انه متكون من معطيات وموضوعات تمتاز بصفة الاستمرار والثبات على الحال ذاته وهو امر خاطئ في حقيقته ومخالف له ، ولو اصغينا الى ما تمده الحواس لنا لادركنا ان كل ما موجود في العالم في تغير دائم وليس فيه معلم واحد باقي على حاله دون تبدل، ولو نظرت الى نفسي كاقرب مثل واكثرها وضوحا لدي فاني انظر الى نفسي على انها اناي نفسها مهما مر بي الزمن وتوالت علي السنون واهمل كل التغيرات البيلوجية والنفسية والعقلية التي طرات وستطرا ان امد الله عمري دون ان اتنبه او قل اني اتناسى اني الان غيري بعد لحظة اذ ان مايجري في من تغيرات نفسية وفسلجية امر هائل وكبير جدا اذا ما اخذنا بالحسابات والمقاييس الحديثة وكيف سيكون حجم التغير بعد شهر وسنة او اكثر وخذ المثل نفسه في رؤيتنا للاصدقاء وكل ما هو موجود حولنا من حيوان او جماد ، كلها في تبدل وتغير ان لم يكن في الصورة الظاهرة ففي التركيب الفيزيائي والكيميائي ، وان ما قاله هيراقليطس (( انك لن تنزل الى النهر مرتين فان مياها تتجدد من حولك دائما)) كان صحيحا فكل ما موجود غير باق على حاله وهو في تغير وانتقال دائم من صورة الى صورة ومن حال الى حال اخر وليس في الواقع الا التغير والصيرورة دون توقف ، لكن عقولنا هي التي تغض النظر عن حقيقة التطور وتضع للصورة اطارا وترمي بفكرة التبدل والتحول فتفترض ان الشيء الذي تدركه ((ماهية ثابتة )) ليس لها تاريخ متسلسل يحكي قصة التبدل والتحول والتغير والانتقال، وتعليل ذلك ان عقولنا غير مهيئة لادراك هذا وان تصوراتنا في حقيقة الامر اوهام لا حقائق ، وهي من الاخطار المحدقة بنا حينما توهمنا بالاعتقاد في اننا بالعقل قد فهمنا الذي فهمناه وبه سنفهم كل شيء ونمسك بمقاليد الموجودات ونطوع ما استعصى منها وننجح في التعامل مع الموجود مع اننا في الواقع ((لم نعلم عن طريق العقل الا شيئا ضئيلا لا يكفي للوفاء بمقتضيات الحياة ))
ان مفهوم (( العقل )) الذي تحدثنا عنه باعتباره اداة لازمة لتكوين القناعات والتصورات هو فرض اخر كباقي الفروض التي انشاناها، انه فكرة مفترضة و صورة متوهمة .. وليس في الخارج (( عقلا مطلقا وعاما )) يحل في كل الافراد ليجعل مما يكونونه من تخيلات وتوهمات بمثابة نتاج موحد صادر عن عقل كلي مستقل يمثل الانسانية اجمع فليس في الوجود سوى ((عقول صغيرة و كثيرة بعدد ما موجود من الناس يتميز بعضها عن بعض ، وينتج عنها الاختلاف الذي نشهده في الراي والنظر الى الامور، والعقل بعد هذا شيء نادر في الوجود))
ومن الاوهام الكبيرة التي وقع فيها فلاسفة التاريخ والوجود (( في نظر نيتشه )) زعمهم ان ما يسير الانسان والموجودات اجمع وما يحكم حركة الموجودات ومسار التاريخ (( عقل كلي )) يخضع له الكون في حركته، سواء كان عقلا مفارقا للمادة (( الله)) او كامنا فيها
.. لقد كان العقل عند نيتشه صنما كبيرا ووهما عظيما له من الاثار والنتائج ما له وقع شديد وضرركبير .
لقد انتهى به الحال لان يقر ان دعوى (( برمنيدس)) بعدم قدرة الانسان على تصور شيء ليس له وجود، خطا ومناقض للواقع ، والصحيح ان كل ما يتصوره العقل وهم لاحقيقة وخيال لا واقع اذ ان تصوراتنا للاشياء تضفي عليها صفة الثبات والدوام والهوية المحددة الجامدة في وقت انها متحركة ومتغيرة وتجري في صيرورة مستمرة لا توقف فيها عند نقطة معينة
ثم اتم ثورته على ما شاع في زمنه من مفاهيم فانكر القول بوجود مستقل للحقائق مفارق للعالم المدرك وان ما ندركه في عقولنا من ظواهر يقابله شيء اخر مختلف هو (( الشيء في ذاته )) على حد تعبير ((كانت)) ..
ثم ادى به حاله هذا الى هجوم شديد على اول من قدس العقل من الفلاسفة وجعل منه اداة تقود الانسان الى الفضيلة والكمال فجعل نيتشة من سقراط بداية انحلال الفلسفة اليونانية واضمحلالها بعد ان عاشت فترة من الازدهار والابداع حينما كان اليونانيون ((مليئين بالحياة الاصيلة والقوة الساذجة والشجاعة التي دفعتهم الى قبول الحياة وتحدي مخاطرها فرددوا الاناشيد وحكوا الاساطير وقصص البطولة ونشدان الخلود وعمت التراجيديا التي مجدت القوة ومغالبة القدر ))

كانت روح نيتشه كفرشة الرسام المغموسة في خليط من الالوان ، ابدعت لوحة رائعة تمتاز بالفرادة والابتكار لكن مضمونها لم يخرج كما تخرج الفكرة من راس الاله ، بل كانت لافكاره اصول ومنابع كما كان لمزيج الالوان على فرشة الرسام تلك الالوان ((الرئيسية)) قبل الامتزاج ، ان نظرنا اليها بتمعن لتبين لنا اية الوان اشتركت في ذلك ..
ولقد جمعت روح نيتشه بين الرقة التي تربي عليها ايام طفولته حينما تولت امه وشقيقاته تربيته بعد وفاة ابيه وبين الطبع الذي ولد معه والجنس الذي انتمى اليه باعتباره ولدا ((من الذكور )) وللذكورة اثارها المعروفة في تركيبة النفس وشخصية صاحبها من التحلي بصفات القوة والشجاعة واقتحام المصاعب والجراة والاقدام ...
كان رقيقا في نفسه ومرهفا في مشاعره وضعيفا في بنيته لكنه في ذات الوقت متألم من حاله ورافض لواقعه ومتطلع الى امتلاك مزايا البطولة والرجولة وثبات النفس وشجاعة المحارب ذي القلب القوي والعزيمة التي لاتلينها الصعاب والخطوب .. وقد بدا هذا الصراع واضحا في سلوكة حتى انهم وصفوه ((كفتاة رقيقة ترتدي درع محارب )) ..
احب الموسيقى وهام بها فعزف والف قطعا منها ، وكتب الشعروشرب من رحيقه فخرجت مؤلفاته كانفاسه يفوح منها شذى الشهد الذي امتص رحيقه حتى قيل عنه كان شاعرا قبل ان يكون فيلسوفا ومع هذا فقد مجد القوة واعجب بالابطال ومقت الضعف ونصح مواطنيه(( بالقفز فوق الصعاب وليملؤا حياتهم بالخطروليبنوا بيوتهم عند فوهات البراكين وليبعثوا بسفنهم الى البحار المجهولة ويعيشوا في حروب دائمة )).
لقد وجد في روح اليونان مزيجا كالمزيج الذي كون روحه .. فصارت اليونان ((ايام سقراط وما قبله)) مادة دراساته ومرتع فكره وملهمته في كل ما ابدعه من فن وفلسفة ..
وراى ان الهواء الذي ملا به اليونانيون صدورهم كان مبعثه من الهين اثنين ((ديونيسوس اوباخوس، اله الخمرة والموسيقى والرقص والعربدة والمغامرة والنشوة والغريزة والدراما والجراة والاقدام )) و (( ابولو ، اله التعقل والمنطق والتامل الفلسفي والرسم والنحت ووالشعر الملحمي))، من توازن المزيج بين هاتين الروحين والريحين تنسم شعب اليونان عطر الابداع والارتقاء وكتبوا اشعار البطولة واساطير الخلود وارتقوا سلم المجد وانشأوا حضارة لم يزل الغرب يتغنى بالذي قدموه فيها من الفنون الرفيعة والعلوم البديعة والرقي الذي بلغوا فيه اعلى الدرجات ولم يستخف اللاحقون من مفكري الغرب (( ليتنا نحن العرب فعلنا مثلهم في نظرتنا الى تجربتنا الحضارية الرائعة مع اننا من السائرين على خطاهم والحاذين حذوهم والمقلدين لهم احسن تقليد)) بما فيهم نيتشه بهذا التراث العظيم ولم يابهوا بقصر فترة ازدهاره واندثار تراثه واثاره بل جعلوا منه دلالة على رفعة جنسهم ورقي اعراقهم .
ولقد امتدت فورة الابداع والعطاء الحضاري طوال الفترة السابقة على سقراط، ذلك الفيلسوف الذي اطفا الجذوة وارخى العقدة وثبط الهمة ، ذلك الرجل العامي ذو الاصل الوضيع الذي تملك عقول شباب اثينا النبيل فافسد اخلاقهم وبث فيهم مفاهيم الديمقراطية البغيضة اذ ان ما غرسه فيهم من ثقافة عقلية وفلسفة نقدية وحب للحوار والنقاش بدلا من التحلي بقوة الجسد والتغني بالاشعار التي نظموها والابداع الفني الذي برعوا فيه وفورة الغريزة وحب الحياة والرياضة واللعب ، كان بداية انحدار ومؤشر افول نجم حضارتهم وانطفاء شعلتهم .
من هنا بدأ نيتشه رسم معالم فلسفته ومن تحليله هذا صنع مقياس الخطا والصواب ومعيار الارتقاء والصعود او الانحدار والهبوط ، ذلك المعيار الذي حمله اينما ذهب وبمنظاره راى كل شي .. انها روح ((ديونيسيوس )) ... الروح الطامحة للارتفاع والعزيمة القاهرة على تجاوز الصعاب ، الروح الصاعدة سفوح الجبال الخطرة دون تهيب او وجل ، الروح الممتلئة بحب الحياة وروح البطولة واقتحام المخاطر ، المتطلعة الى ذرى المجد والتالق .. ان بدت هذه الروح وعلت وصارت السمة البارزة في حياة المجتمع او في نفوس الاشخاص اوالاحزاب اوانظمة الحكم .. كانت له علامة رقي وارتفاع وتطور وسمو ونجاح التجربة الحضارية الخاصة ..
اما ان طغت روح ابولو وسادت ، الروح التي تقتل الاسطورة بالعقل وتقتل الرجولة بالعاطفة وتقتل القوة بالتراخي فانها نذير بالشؤم وعلامة انحطاط وتدهور ونزول الى اسفل ،
ووفقا للمقياس هذا كان حكم نيتشه على حياة اليونان ، فاعجب بالحياة السابقة على سقراط ، الرجل الذي جاء لينشر التراخي وتثبيط الهمم ومجد التعقل والتامل ودعى الى ديمقراطية تقتل التفرد والتميز والى اخلاق العامة المتدنين الخالية نفوسهم من روح المغامرة والبطولة واقتحام المخاطر ...
وللاعتبارات هذه كان حكمه على الاديان ، كره المسيحية بعد ان راى فيها طغيانا غامرا لاخلاق الخنوع والخضوع والاستسلام، وكره فيها تقبل الصفعة الموجهة الى الخد الايمن وكره فيها ادارة الخد الايسر ليعاود الذي صفع صفعه. واحب في الاسلام ما فيه من غرائز فحولية وروح ارستقراطية (( حسب فهمه )) وتحلي ابناءه بالشجاعة واستخفاف الحياة والاقدام على اقتحام المصاعب دون وجل ، وراى ان من الاحرى بالصليبيين الذين حاربوا هذا الدين وتوجهوا نحو اسقاطه وطرده الانحناء له احتراما ويطاطئوا لهم رؤوسهم حتى تتمرغ في التراب..ولا ينفي هذا الاعتبارات الاخرى التي قيل انها داخلة في تفضيله الاسلام منها رؤية الاسلام الى المسيح باعتباره انسانا لا اله، واعتقادهم بان ما جاء به من كتاب قد حرفه اتباعه ، فاندثر الاصل بعده ، وكذلك حظ الاسلام على ((مراعات حق النفس وطهارة البدن وتحريم شرب الخمر ))
ومن المنطلق هذا احب نيتشه اصداقاءه ثم ابغضهم ، منهم فاجنر صديقة الذي مع تحوله عنه كن له حبا باقيا في قلبه حتى نهاية نصيبه من عمره العاقل ، واعجب بالقادة والابطال ، وكره المراة واوصى (( بالذي اوصت به المراة العجوز في احد كتبه )) ان يحمل معه سوطا اذا ما هم بالذهاب اليها ، انها ضعيفة في طبعها وصاحبة عقل منحط ، ان منحتها حرية لم تحسن التصرف ولفسدت وافسدت ، لم تعش يوما في منعة وعلو منزلة الا في ظل ارستقراطي قوي . وبالمعيار هذا كره الانظمة الديمقراطية ودعى الى المحافظة على النظام الطبقي ومنع الاختلاط بين الطبقات ، وحرص على نقاوة الارستقراط ، لدرجة جعلوا منه الداعية الاكثر تاثيرا الى حركات التمييز العنصري والانظمة الفاشية في الفترة اللاحقة من بعده.. وبنى قواعد التربية والاخلاق ومباديء السياسة واختيار الحكام .. ثم صارت قاعدته هذه اساسا ترتفع فوقه ابنية فلسفته بشكل عام.
بالضرب على هذه الاوتار عزف نيتشه سيمفونيته وعلى اوزانها انشد شعره ، فقدم لنا فلسفة تنبض حياة ، ثرية في مواضيعها وواسعة في افاقها ، وان من يصغي اليها لن يصعب عليه سماع صوت الوتر الذي اصدر النغمة المعبرة عن ارادة القوة المتدفقة و الروح المنطلقة في همة ما بعدها همة نحو ذرى الجبال .

تعدد جوانب فكره

ما قدمه من فكر كان ضخما وعميقا وحيا ، بعمق الحياة وسعة مجالاتها وانفتاح افاقها ، له اراء في علوم النفس والتحليل النفسي فصار رائدا من روادها وله تاثير كبير على العلماء اللاحقين به في انشاء مدارسهم منهم ((فرويد)) و((ادلر)) و((يونج ))، ويحدثنا اساتذتنا المختصون في الفلسفات الحديثة عن الاثر الكبير الذي خلفه نيتشه في الفكر الوجودي بشكل عام ،الفكر الذي جعل من الانسان ومعاناته الروحية ميدان دراساته ، فحلل المواقف الوجودية ذات البعد المصيري من حياته وما تنطوي عليه من القلق والخوف والشك والاحساس بالالتزام تلك الانفعالات التي تبعثها فيهم الارادة الحرة في مواجهتها لمواقف الاختيار المتاحة وتحمل النتائج المترتبة على ذلك ، لقد كتب عنه هيدجر مقالة ذكر فيها ان نيتشه قد قلب الميتافيزيقا رأسا على عقب فلم يبق لها بعد ذلك الا التنحي الى زاوية الفوضى واللاجوهرية ، وجوهر الانسان عند نيتشه هو الإرادة الحرة المندفعة نحو امتلاك مقومات التفوق والقوة والتحدي والانتصار فان ماهيته في حالة تشكل دائم وتطور مستمر وهوية لاتكتمل ، وهذا عين ما ذهب اليه سارتر و المثل الذي قدمه توضيحا للفكرة حينما صور الذات بحصان العربة الذي علقت شدة من البرسيم على لوح ممدود امام عينيه بصورة يبقى فيها على حالة السير وجر العربة املا في ان يصل الشدة ، وان من الافكار التي تطرق اليها نيتشه تلك التي صنفها الوجوديون تحت ظاهرة ((الانتحار الفلسفي )) حينما يجد الانسان نفسه امام موقف لايملك زماما للسيطرة عليه ، واشدها وقوفه امام المحال او العبث او الإحساس بان العالم او الوجود ( شيء غير معقول) حينما ترين على عينيه ظلمة دامسة ويخرق قلبه هلع المجهول ويشل عقله فلا يملك فهما ولا قوة على حسم موقفه واتخاذ قراره ، فينتهي به الحال لان ينبذ عقله ويقنع نفسه بان للعالم ابعاد رحبة ومرحلة متممة تبدا بعد الموت وان هناك جنة ونار ورب غفور .
اما ان دفع به الحال الى هروب اخر فقد ينتحر انتحارا جسديا وينهي حياته او أدى به حاله الى الانتحار العقلي كالذي ذكره لنا كولن ولسون عن لورنس العرب حينما أدى يه الحال الى ان يلتحق بسلك الطيران في هروب من ازمته العقلية المؤلمة وعجزه عن فهم جوهر الاشكال عنده ، وحينما دفع فان كوخ الى الوقوع في حومة الجنون المطبق ، الجنون الذي انتهى به لان يطلق رصاصة على احشاء بطنه ثم اطبق عليها ازرار جاكيته وعاد الى منزله ثم نام على سريره حتى انتهى به الحال الى الموت بعد ثلاثة أيام . لقد صور نيتشه حالة الانتحار الفلسفي هذه في تفاصيل كثيرة منها هروب المستضعفين العاجزين عن مواجهة القهر والاضطهاد الموجه اليهم من السادة المسيطرين وما فرضوه عليم من القوانين والاحكام فما كان منهم الا اللجوء الى حل الاشكال بالايمان بتلك المبادئ والأخلاق ومشاعر الدين والايمان بالحياة الاخرة والجزاء والعقاب ومنظومة الاخلاق التي جعلت ما هم عليه من مهانة وضعف وخور، سجابا سامية ومبادئ عليا ومكارم لاينالها الا الصابرون ذوو الحظ العظيم .. .
ويحدثونا عن اثره في افكار الحداثة وما بعدها ، وان(( دريدا )) الذي ابتدع طريقته في تحليل النصوص (( بما فيها ظواهر المجتمع )) تلك الطريقة التي تفصل الظاهرة عن مضمونها فترمي بالمضمون جانبا وتمسك النص ((او الظاهرة )) لتعمل فيه بمبضع التشريح و ((التفكيك) فتكشف عن العلاقات والدلالات التي لم يكن لها حضور في الوعي ، لم يكن من الاوائل الذين لا اول قبلهم بل سجلوا لنيتشه سابقة عليه حينما رفض الاخلاق والمعتقدات السائدة ذلك الحين وجعل من اصنام الدين والفلسفة رموزا لها ابعاد تاريخية تغاير الذي تعارف عليه الناس وتكشف عن حقائق جديدة تزرع في قلوبهم الشك وتفجر فيهم الرفض لكل الموروث الفكري والثورة على واقعهم المعاش... ومع انه يكره السياسة ويقول ما انا بحيوان سياسي الا انه اعجب ببسمارك واعتبر المانيا الوريث الذي خلف اليونان في عظمتها حتى قيل انه فيلسوف المانيا في ذلك العهد .
وكتب في التاريخ واصوله ، والدين ومنابعه ، ونقد الاخلاق وابدع في نقده وله اراء في النقد والشعر والموسيقى وله المام واسع في اللغة مما اهله لتسنم منصب استاذ مساعد لعلوم اللغات القديمة في جامعة بازل ثم استاذا بعد مرور عام على ذلك .
لقد كان نيتشه صاحب افق رحب وجوانب عديدة كحال اي ((مفكر حقيقي ضخم )) يرى البعض ان فلسفته قد دارت في اروقة الفكر منذ امد طويل (( نسبة الى زمن ظهوره)) ولا زالت تدور و ان عالميته ستبقى على ازدهارها في المستقبل القادم ، اذ ان ما حضي به من منزلة باعتباره من كبار الفلاسفة القرن التاسع عشر لم تكن مزية وحيدة بل ان له من الخصوبة والثراء ما جعل من افكاره مفتاحا سحريا لفتح مغاليق تكشفت من بعده في النقد المعاصر.

هل كان نيتشه فيلسوفا

يرى (( برتراند رسل )) ان نيتشه فيلسوف اديب اكثر منه فيلسوف اكاديمي ، وان انتاجه الفكري لم يكن كانتاج الفلاسفة المحترفين وان اهمية انتاجه في شكله الرئيسي كان في الاخلاق ثم النقد التاريخي ، ولم ير في فلسفته (( اية نظريات فنية في الوجود او في المعرفة )) ...
ويرى الدكتور يوسف كرم ان نيتشه (( اديب في طبعه)) وعد فيلسوفا لما ابداه من اهتمام في الانسان ومصيره والاخلاق وقيمتها وان اعماله في جملتها تعطي انطباعا بملكته الادبية في الكتابة واسلوب التفكير . ولم يكن مبدعا في ما قدمه من الافكار وانما يدين بها الى ملهميه ((شوبنهور)) و (( فاجنر)) وليس له في اخر الامر(( الا الاسلوب الذي عبر به عن مذهبه )) ...
ويرى اخرون انه لم يكن فيلسوفا بالاحتراف ، وان سيرة حياته لم تشر الى انه تردد يوما الى كلية الفلسفة طوال فترة دراسته ، وان من يمعن النظر في اعماله يلاحظ بوضوح ((النقص في التوثيق والتسرع في الاحكام ، وغياب في الاستشهاد بالمراجع ،والاهتمام بالشعر المشبع بالخطابة والشعر ))
قد تكون الاشارات التي اوردها بعض دارسي الفلسفة الذاهبة الى (( تخفي كتابات نيتشه وراء اقنعة مجازية تستعصي على الفهم ، والى تشتت غاب معه التناسق والترابط ،وتشذر احال افكاره المطروحة الى امثال وحكم وجمل متقطعة )) من الاسباب التي دعت الى الامعان في استقراء المعاني الغزيرة واستكشاف الافاق الرحبة والى المراجعات المتجددة ، الامر الذي اضفى على فلسفة نيتشه خصوبة وثراء وحياة ممتدة .. انه حال الاعمال الابداعية العظيمة بشكل عام ، فيها من الثغرات ما يبعث على التامل وحب الاستطلاع والى ملئها بما يدور في رأس المشاهد او الناقد من افكار، فيحس عندئذ بجمال وكمال قد اشرق من باطن ذلك العمل ونشر بنوره على محياه.
ان النظرة العامة على اعمال نيتشه وشخصيته لتبعث الى الاقتناع بان في روح هذا الرجل شيئا من الماضي يمتد الى فترة الطفولة التي مر بها في ظل التربية التي تلقاها من والديه ... ومهما ابداه من انكار لهذا الراسب ورفض للموروث فانه باقي على رغبته الاولى في ان يكون كوالده قسيسا واعظا وداعية للدين ، لقد وعظ الناس ودعاهم الى ((اصلاح احوالهم )) والى التحلي باخلاق من انكر نفسه ((وتجاوز ذاته ومهد لولادة الانسان الاعلى )) واتخذ له الها (( السوبرمان )) وبشر به كما يبشر الانبياء برسالاتهم ويدعون الى الله ، وبدلا من خلود الاخرة بجنتها وجهنمها امن بخلود اخر و(( عود ابدي)) تعود فيه الابدان والاشخاص والاحداث الى نفس صورها وتجسداتها مرات ومرات دون انتهاء .. لقد كان نيتشه قسيسا ملحدا ، وداعية متمردا قبل ان يكون فيلسوفا ، اما الفلسفة فقد طوعت واما العقل فقد روض على يديه في مشروعه الحضاري الكبير نحو اصلاح العقل والاخلاق والمجتمع ....

بين التاثر والتاثير

لو امتدت حياة شوبنهور قليلا لادرك ما صنعه كتابه (( العالم كارادة وفكرة )) في عقل نيتشه ونفسه ، ولرأى في ذلك رد اعتبار له لما ابداه العالم من اغفال لهذا الكتاب ولشوبنهور نفسه فترة استغرقت الشطر الاكبر من عمره كله اذ لم يلق من الشهرة التي حلم بها الا في نهايات حياته، وان كتابه هذا ظل مطمورا مع اكداس الاوراق المتروكة والكتب المهملة في المكتبات طوال فترة جاوزت الستة عشر عاما حينما اخبره بائعو كتابه ان اعدادا منه قد بيعت جملة لغرض استعمالها في المحلات وفي رزم ولف ما يبيعونه من بضائع ، ولوجد في حالة نيتشه مصداقا للتعليق الذي ابداه عن كتابه المرمي في ادراج الاهمال والنسيان بعد ان آلمت قلبه وخزات النفوروالتغاضي عن الكتاب، بانه - مع تصرف في التعبير- كالمرآة التي ان نظر فيها قرد فلن تتوقع ان يرى انسانا ، ولقال ها قد نظر في الكتاب انسان فوجد فيه صورة انسان .. والحكم كان صحيحا فما اعجاب نيتشه بهذا الكتاب وما الافاق الواسعة والمعاني العميقة التي وجدها فيه الا انعكاسات لروح نيتشه واسقاط ما في نفسه عليه بعد ان قدح زناد ذهنه بريق الحكمة البالغة والمعاني الدافقة التي حملها شوبنهور كتابه ، لقد اعرب نيتشه عن اعجابه المفرط وتاثره العميق بالكتاب فقال واصفا اياه (( انه قد وجد فيه العالم والحياة ووجد فيه نفسه قد صورت في عظمة مخيفة .. وان شوبنهور كان يخاطبه شخصيا ويوجه كلامه اليه ، وكأنه ماثل امامه كلما باشر القراءة فيه.. وان كل ما فيه يبعث على التصديق والتسليم )) .
لقد اولى شوبنهور في تاليف كتابه هذا كل عنايته ، افرغ فيه ما راى انه حكمة بالغة وراي اصيل ورؤية غير مسبوقة في عرض من البيان الواضح ومسحة من الجمال البادي رغما عن العنف الذي شاب اسلوب كتابته ..
ولما كان الكتاب وعاء صا حبه ، مملوء بما فاض من معين نفسه وعصارة عقله فان في نفس شوبنهور وفي روحه وعقله نقاط التقاء واتفاق مع نيتشه يبعث على الاقتناع بما قاله نيتشه وهو يصف تجربته مع هذا الكتاب بما يؤكد صدق قوله حينما جعل من شوبنهور مربيا عظيما وابا له بالذات ..
كلاهما كان انطوائيا في طبعه ومتشائما في مزاجه.. مستغرقا في تاملاته وعميقا في تفكيره .. ولكليهما تجارب اليمة مع المرأة .. فلم يتزوجا واظهرا لها مقتا شديدا ولدتها فيهما التجارب الاليمة التي مرا بها والمواقف المؤثرة الباعثة على الاسى في النفس. . آمن الاثنان بالقوة المحركة التي تقف خلف سلوك الانسان ، الارادة العمياء عند شوبنهور وقوة الحياة عند نيتشه . كلاهما قد اعجب بنابليون وتاثر به، فقيل ان شيئا من تمجيد شوبنهور للارادة كان بتاثره بنابليون وان في يأسه شيء من واقعة الهزيمة التي اودت به. وصار نابليون مثلا اعلى وحضورا مجسدا لاخلاق الطبقة القوية والسادة المسيطرين عند نيتشه ... كان لقاء الاثنين في هذا الكتاب خالدا، وبقيت اثاره في نفس نيتشه في تلازم لم تحله السنوات التي تتالت ولا التطورات العقلية والتبدلات النفسية التي مرت عليه حينما انقلب على نفسه بعد ان نهض معافى من مرض اوشك فيه على الموت فاحب الحياة والصحة والعافية والضحك والرقص ورفض التشاؤم ، وامن بالحياة المنفتحة والارادة المشدودة الى امتلاك مستلزمات القوة ، فقد بقيت افكاره وفلسفته تسبح في بحر مملوء بالألام التي عاناها في نفسه وجسده ..
ولم يكن المزاج المشترك والطبع المتشابه بينهما سببا وحيدا للذي ابداه نيتشه عن تاثره بفلسفة شوبنهور وعما بعثته فيه من المواساة والتسلية فاعانته على المضي في عالم التامل المكتئب والفكر المشوب بمسحة الالم والمعاناة .. بل ان في فلسفتيهما تفاصيل كثيرة يمكن ان نقارب بينهما وننظر اليهما باعتبارهما فرعين من شجرة واحدة يغذيها النسغ الصاعد من مسحة التشاؤم التي امتاز بها الجو الفكري السائد في اوربا ذلك الحين ((التشاؤم الذي مد بشعاعه بعيدا مع اطلالة القرن التاسع عشر، و التي عبرت عنها اصوات كل من (بيرون) و ( دي موسيه) و ( هيني) و (ليوباردي ) و ( بوشكين ) وموسيقى ( شوبرت ) و ( شوبان )... )) لقد جعل نيتشه من فلسفة شوبنهور واحدة من الاشياء الثلاثة التي واسته في حياته ...مع موسيقى شومان وجولاته التي كان يقوم بها في عزلة وانفراد ..كما وان الاحساس بالارادة ودورها في حركة المجتمع وسلوك الانسان بدا واضحا في فلسفات كثير من فلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقد كان للارادة عندهم مقاما عاليا يتجاوز المنزلة التي اوليت الى المعرفة عند السابقين ، ثم انتشر هذا الاحساس الى خارج دائرة مفكري الفلسفة المحترفين ..
وقد كره شوبنهور المسيحية ايضا ، واحب الفن وله فيه نظرة ، واهتم بالاخلاق ودورها الاجتماعي ، وكلها من المجالات التي يشترك فيها الاثنان ، وكلاهما موسوعي في تفكيره ويميل الى اسلوب التفكير المنفتح المتحرر من الزامات التفكير الاكاديمي المنضبط بمناهجه الخاصة ، وكلاهما يرى ان في الارادة الم ومعاناة يصاحبان رحلتها نحو تحقيق ذاتها واهدافها في الوجود .
لم يكن العالم المادي والوجود الظاهر عند شوبنهور الا الوجه الطافح على السطح اما جانبه الخفي (( فارادة عمياء )) ذات وجود مطلق مستقل خارج عن اطر الزمان والمكان ، وما العالم بموجوداته الحية والميتة وقواه الفيزيائية واعراضه الاخرى من التفكير الدائر في العقول والاحساس الغامر للحواس والوجدان الطافح في الصدور، وقوى الجذب او التنافر بين اقطاب المغناطيس وبين الاجسام ، الا انبثاقات من هذه القوة وتجسدات لها وتجليات تسربت الى عالم الوجود . لو نظرنا اليها من الخارج لبانت لنا على صوراجسام صلبة ((ميته اوحية)) اوقوى فاعلة لها تاثير واضح للعيان .. ، ولو امكن لنا الاصغاء اليها ومد ابصارنا عميقا الى نهاياتها البعيدة وصورها الاولى، لاختفت عندها الاجسام وتلاشت المشاهد ولانتهى بنا الحال في ان نقف في جلال وانبهار امام هذا الكيان الميتافيزيقي الهائل المسمى بـ (( بالارادة العمياء)) .
وان بين ارادة شوبنهور وارادة نيتشه للحياة مقاربة وتماثل ، كلتاهما تعمل في الجانب الخفي اللامرئي من سلوك الانسان وتعمل عملها في تشكيل الانساق الاجتماعية والدينية والسياسية والفكرية وفي رسم مسار حركة التاريخ الانساني بشكل عام .
وفي رؤية الاثنين تقارب وتماثل عن دور الفن والموسيقى في حياة الانسان ، اذ راى شوبنهور اننا حين نستغرق في التامل الفني ننعتق (( مؤقتا )) من اسر الارادة الكلية وسطوتها وما تستلزمه من المعانات والمكابدة ويزول عندها احساسنا بالفردية وما يصحبه من الانفعال والمعانات و الالم ، وان اوضح صور التجلي للارادة التي ذكرها انما تكون في الاصوات المنبعثة في الحان من الموسيقى الخالصة المتجردة من كل وسيلة تعبيرية مرافقة ، بما فيها اشعار المنشدين او الحركات التي يؤديها الراقصون على المسرح .
وراى نيتشه في الموسيقى التي اغرم بها تدفقات وقوى عاطفية مرتبطة بالنوعين الذين تحدث عنهما ، تلك الانغام المنبعثة من قلبي الالهين ديونيسيوس وابولو وروحيهما والمعبرة تعبيرا صريحا وواضحا عن الارادة التي جعل منها المحرك الاول لسلوك الانسان وانفعالاته (( ارادة الحياة )) فلها دور عظيم وتاثير بالغ في حياة الفرد والمجتمع، ان الحياة بنظر نيتشه ((خطأ)) بغير الموسيقى ، اذ ان في الموسيقى قوة خفية تستنتهض الهمم وتولد في النفوس حب التحرك والعمل والنزعة الى الابداع ، وتبعث بدفقات من احاسيس السعادة والنشوة الخالصة ، وتثير في النفوس ذلك ((الشعور الابدي الماثل خلف ظواهر الوجود المتفرقة )) .

التكملة في صفحة اخرى تالية