عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
5

المشاهدات
6876
 
فارس كمال محمد
من آل منابر ثقافية

فارس كمال محمد is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
65

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Apr 2014

الاقامة

رقم العضوية
12850
04-15-2014, 10:59 AM
المشاركة 1
04-15-2014, 10:59 AM
المشاركة 1
افتراضي فردريك نيتشه .. بين الايمان والالحاد
المقالة سبق لي نشر اجزاء منها .. وقد اعانني الله على تنقيحها والاضافة عليها
والعمل كله قد تم بجهد خاص .. فكل خطأ فيه فو مني ..

فردريك نيتشه .. بين الايمان والالحاد

فارس كمال محمد


لم يكن الوهم الذي عشش في راس نيتشه كالوهم الذي يتملك عقول المجانين ... حقا ان مسحة الاعجاب التي ابداها في نفسه عندما قال عنها ما قال وهو يمتدح اسلوب كتابته وفرادة افكاره والحكمة الطافحة التي تفيض بها بحور علمه وان التاريخ الفكري سيشهد انعطافة حادة في النقطة التي ظهر هو فيها ، وسيقسم تاريخ الفكر الى مرحلتين احداهما تلك التي سبقت ظهوره اما الثانية فهي التي بدأت منذ ان اشعت شمس افكاره لتنير للانسانية ظلمة دنياها وتهديها الى طريق النجاة والنجاح ، قد كان فيها شيء من المبالغة كبير وخصوصا حينما ذهب به الزهو الى وصف احد كتبه بانه اعظم كتاب ظهر في العالم ، وان الفكرالذي جاء به هو اعلى من المستوى الفكري الشائع ذلك الوقت ولن يفهم الناس افكاره الا بعد مرور مائة عام اخرى .
وصحيح ان من الاحتمالات الممكنة ان تكون هذه الاندفاعات (( المبالغة )) مظاهر اختلال طارئ على كيمياء دماغه والسبب الذي انهى حياته الفكرية واطفأ جذوة الابداع ومخايل العبقرية في رأسه ، فعاش بعدها سنينا قاسية غارقا في سورة مؤلمة وشدة قاسية وآلام ممضة وجنون اطبق على عقله باحكام .. وربما بعث هذا الاختلال برسائله فطرقت ابواب وعي نيتشه في شكل خفي كما تطرق الاحساسات الخفيفة الصادرة من الاعضاء المعتلة في جسم الانسان ابواب وعي صاحبها فتبدوا له على هيئة احلام سماها فرويد بالـ (( تنبؤية )) يرى فيها ((على سبيل المثال)) ان عملية جراحية تجرى له في احد اعضاءه وهو لا يدري انها رسائل استغاثة بعثها عضوه المعتل ذاك ، لكنها من الخفة التي لم تحرك ملكة الانتباه فيه ، وان الصورة التي بدت فيها عند نيتشه كانت في ادراكه للواقعة الطبية الصحيحة التي عبر عنها بقوله (( ان قطرة من الدم تزيد او تنقص في المخ قد تسبب لحياتنا من الشقاء والالم ما يجعلنا نقاسي اكثر مما قاسى بروميثيوس في عقابه ...)) .. قد يكون كل هذا صحيحا لكنه لا ينفي ان نيتشه كان (( واحدا من اعظم الشخصيات المصيرية في التاريخ الروحي للغرب )) وفيلسوف له من التاثير العميق والواسع ما نلمسه في كثير من النظريات النفسية والاجتماعية والمدارس الفلسفية والسياسية ، وقد قيل عنه (( رجل اقدار يرغمنا على اتخاذ قرارات نهائية )) حينما دعى الى رفض كل ماهو(( مقدس)) و((خير)) و((حق )) في حياتنا والعودة بالفكر الى بداياته الاولى واخضاع نشاطات العقل وما ولده من اعتقادات واخلاق وافكار الىى تحليل جديد ووزنها بميزان غير الذي كنا نزن فيه ونستند اليه .. وعلى الرغم من مبالغاته التي ذكرت فقد شهدوا له ((بان سناء الفلسفة الاوربية قد صفا وراق جوها بعد ان كتب فيها نيتشه )) وشهدوا له ببراعته الفائقة في كتابة النثر الالماني وتميز اسلوبه في الكتابه حينما خلط المداد بالروح وكتب بقلم كأنه مطرقة .
راى بعضهم ان نيتشه ((صاحب قلب مؤمن وان كان عقله كافرا )) وقالوا ان الاله الذي قال عنه(( قد مات)) لم يعن به الله (( تعالى الله عما يصفون )) بل اله الناس الذي رسموه بايديهم وعبدوه بما يتماشى مع الموازين الخاطئة التي عندهم ، وراى اخرون ان نيتشه ملحد القلب والعقل ، و من يعتقد ان له اساسا متينا من الروح الدينية المؤمنة فهو مخطئ، واذا كان له عمر قضاه في رعاية ابوين متدينين واب قسيس حريص على نشر التعليم والتربية الدينية الملتزمة ، فان ما خلفه من اثار في قلب نيتشه كان سلبيا تماما وقد ولد فيه ردة فعل عنيفة لدرجة انفجر فيها غيضه وانطلق لسانه فقال الذي لم يجرؤ على قوله احد من الذين امتلات قلوبهم الحادا وكفرا .
ولنيتشه اهتمام كبير في اوساطنا الفكرية وبشكل اخص عند الشرائح المنفتحة على مدارس الفكر الغربي الحديث ، ولهم اعجاب وتقدير بالثورة التي اعلنها على الاصنام المصنوعة من الوهم ودعوته الى رفض الموروث الثقافي كله ، الموروث المبني على فكرة الثبات والمركزية ((الواقعة خارج الانسان او داخله )) بالشكل الذي يجعل من المكونات المادية للوجود ((الفيزيائي)) والانساق الفكرية والاجتماعية التي ينتظم فيها الانسان ، كيانات متوحدة ومتماسكة تدور حول مركز يضفي عليها صفات الدوام والثبات ، ومثلما ابدى نيتشه انكاره للموروث وتهكمه من القناعات التي آمن بها الناس ابدى مثقفونا و مفكرونا انكارهم لموروثنا الفكري وتهكموا من القناعات السائدة عندنا ، اذ الشبه كبير بين حالينا ، حال اوربا ايام نيتشه وحالنا الذي نحن عليه في يومنا هذا ، وكما انكر نيتشه الاله ونبذ الدين فعل اصحابنا مثله ، وان من يتصفح مواقع الانترنيت على اطلاع وبينه من الكم الهائل من المواضيع المدبجة باقلام هذه الشريحة المثقفة ، تعلن الانكار وتثير الشكوك وتظهر التهكم بكل مكونات ثقافتنا الموروثة بما فيها نصوص كتاب الله ((تعالى)) وسيرة نبيه ((صلى الله عليه وسلم ))، انهم يثيرون التساؤلات ويعرضون النصوص بما يعجز عن رده المؤمنون .
وهذا لا يعني ان الحقيقة هي في الجانب الذي وقفت على صعيده هذه الطبقة من ابناء امتنا ، فان ممن يقف في الجانب الاخر ، اناس آمنوا بالله واقروا شريعته. والتزموا باحكام الدين في حياتهم وهم في ذات الوقت ينظرون الى العالم نظرة لاتنكر التقدم ولا تنفي التطور في مفهومه الصحيح ، ولهم اطلاع ومعرفة بمدارس الفكر الغربي في وضوح اكبرومعرفة ادق، وان منهم من امتهن العلم ومارس تدريسه في بلاد الغرب . ومنهم علماء ابدعوا في مجالات علمهم ومنهم اصحاب اعمال حققوا نجاحات وجمعوا ثروات وفي صدورهم قلوب يملؤها الايمان ومحبة الخير .
فعلى كلا جانبي الطريق يقف اناس تفتخر الانسانية بنتاجاتهم وتبعث في نفوس الاخرين الاعجاب بذكاءهم وعلو همتهم .. ولن ينفي هذا تلك الاستثناءات التي يحلو ذكرها عند من عزم على رمي المقابل بسهام نقده .
ولا ادري ان كان لي مسوغ للكتابة عن نيتشه فاقول فيه اقوالا قد قالها الاخرون اذ لم يترك مثقفونا شيئا الا ومروا به وقالوا فيه قولتهم ، ولم يدع اساتذتنا ممتهنو الفلسفة وكتابها جانبا دون اضاءة فاناروا لنا المظلم وكشفوا المبهم وابدعوا لنا فكرا وادبا يلزمنا بالسكوت تادبا وبالاصغاء اليهم تعلما منهم ، لكن عذري ان ممن كتبوا اناس امتلات رؤوسهم بالافكار وفاضت، وصار حالهم كحال النحلة التي اثقلها العسل الذي تحمله ، او كحال الشجرة التي نضج ثمرها فلم يعد لها الا ان تسقطه، وهؤلاء هم صناع الحضارة والعجلات التي تتدحرج عليها عربة التطور .
وان ممن كتبوا اناس جعلوا من الكتابة وسيلة للاستزادة والتعلم بما ينتشلهم من هوة الجهل التي هم فيها وانا واحد منهم .


العبقرية بين الاضطراب الانفعالي والجنون المطبق

من الصفات التي يمتاز بها العبقري وتبدو في سلوكه بوضوح ، رفضه للمالوف من الامور، وحبه الشديد للتغيير، وسعيه الحثيث نحو التفرد والابتكار ، والمعاناة والتوتر النفسي الشديدين المفضيين الى الجنون عند الكثير من الاشخاص الحائزين على درجات مرتفعة في مستويات الذكاء والمقدرة العالية على الابداع ، وهو يرى العالم بشكل غير الشكل الذي في عيون الباقين ويتعامل مع مايدور حوله ويعالج مشاكله بصورة قد تبدو شاذة ومستنكرة وقد تبعث في نفوس مشاهديه مشاعر الاسى والعطف المبنية على الاعتقاد في كونه من المتخلفين في عقولهم والعاجزين عن ادارة شؤونهم والفاشلين في اقامة العلاقات الاجتماعية مع اقرانهم .. ويذكر لنا كتابنا ، المختصون ان فكرة الربط بين الاعراض النفسية المنحرفة والخلل العقلي عند الناس بشكل عام ليست وليدة ايامنا هذه بل لها جذور عميقة واغوار بعيدة في تاريخنا الاجتماعي ، وبالتاكيد انها سابقة على العهد الذي نبغ فيه فلاسفة اليونان لكنها مع ذلك اصبحت في فكر افلاطون ومن بعده ارسطو من المظاهر الموضوعة على مسطبة التشريح الفلسفي ومبضع الفيلسوف الحاذق في صنعته (( لقد ركز افلاطون على ظاهرة الانفعال والغضب الواضحة لدى هذه الشريحة من الناس وكيف انهم يخرجون بسهولة عن اطوارهم وكأنهم يعيشون خارج الزمن والوجود ، واكد ارسطو على مشاعر الاكتئاب والنظر السوداوي لديهم)) ولم تزل هذه المعاني تدور بدوران عجلة الزمن ورافقت الفكر البشري في رحلته التاريخية حتى يومنا هذا ، ولم تخرج عن الثوابت التي اقرتها دراسات علمائنا ومفكرينا المحدثين ، فقد ايدت الاحصاءات التي اجروها على عينات تاريخية معروفة او مختارة من المجتمع الحالي ، العلاقة الموجبة التي تقرن الزيادة في نسبة الانحرافات التفسية والاختلالات الانفعالية بازدياد معدلات الذكاء والسلوك الابداعي، لكنها رفضت ان يكون الجنون امرا محتوما عند هؤلاء العباقرة . وفسرها احد اعلام الفكر الحديث بان الجنون كان سيقع لهم حتما لولا مسارب الابداع التي طرقوها ، وان الاعمال الابداعية التي انتجوها والاستغراق فيها هي التي قطعت طريق الخطر وانقذتهم من السقوط في هاوية الجنون .
لقد توفرت في شخصية نيتشه كل مقومات العبقرية التي ذكروها لنا ، فقد كان ذكيا بشكل لافت للانتباه نال شهادة الدكتوراه وهو في سن الخامسة والعشرين وشغل كرسي الاستاذية لاداب اللغة الالمانية وتاريخها في جامعة بازل السويسرية وتميز باسلوب فني رائع وملكة تحليلية دقيقة وقدرة على السخرية اللاذعة حتى عد ((من اعظم فلاسفة القرن العشرين تاثيرا)) وقالوا انه قد شكل مع كل من ماركس وفرويد الركائز التي قام عليها بناء فكر القرن العشرين كله ، وكان حساسا، كئيبا متشائما ، رفض المالوف من القناعات التي امن بها الناس في وقته وتحدى الاقوياء وطالب بالحرية ورفض الدين واعلن الالحاد ودعا الناس الى انكار ذواتهم والعمل على الارتقاء بانفسهم وتهيئتها لمرحلة يحل فيها ((الانسان الاعلى )) باعتباره الهدف من وجودهم . ثم عاش احد عشر عاما في معاناة وألم نفسي وجسدي شديدين حتى انتهى به الحال لينضم الى قائمة المجانين في آخر عامين من حياته


الانقلاب على النفس والثورة على المالوف وانكار الدين

على عكس ما امن به نيتشه طوال ايام طفولته وما تلقاه من ابويه من تعاليم وافكار، تبنى نيتشه افكاره الجديدة ومبادئ فلسفته على صورة اخرى مناقضة ، كان ابواه مؤمنين بالرب ومن عائلتين متدينتين اذ كان ابوه واعضا بروتستانتيا ومنحدرا من اباء امتهنوا الدين وكذلك امه التي عرف عنها تدينها العميق والتزامها الصادق بتعاليم الدين وشرائعه فتمسك هو ايضا بما تمسك به ابواه واراد ان يصير قسيسا كما كان ابوه ، لقد عاش طفولة هادئة وادعة تختلف كثيرا عما كان عليه اطفال الحارة اجمع ، فلم يهتم بالعابهم ولم يرتض فيهم قسوتهم على الحيونات بل احب القراءة والتامل واستمتع بقراءة نصوص توراته وكثيرا ما كان يتلو على مسامع الاخرين بعض هذه النصوص بصوت شجي مميز طافح بنبرات الصدق والايمان يبعث العيون لترسل دموعها في سخاء وخشوع ولقد اطلق عليه اصدقاءه لقب ((القس الصغير )) ووصفه احدهم (( كأنه المسيح في المعبد ))، وفي وقت مر سريعا و على حين فجأة انقلب ميزان عقله ودارت عجلة فكره فانكر الرب وقال عنه قد مات وتهكم من تعاليم الدين واعتبره من الاصنام التي صنعها الانسان من الوهم وانقلب طبعه وتغيرت هواياته فبدلا من الاهتمام الذي كان يبديه في قراءة الانجيل والترنم به (( حتى صار الدين قلب حياته ولبها)) انغمر مع رفاق له من طلبة الجامعة التي انتسب اليها اخيرا لدراسة الفلسفة مرحلة شبابه ((في حياة داعرة و بحر من الخمور والفجور)) عاشر فيها النساء واحتسى الخمور وتعود التدخين ..
وعند نيتشه شهد المفهوم العام للعقل انعطافة شديدة وانحرافا تاما عكس فيه الاتجاه الى الجهة المعاكسة من رؤيته له فبعد ان كان الفكر الفلسفي العام ينظر الى العقل على انه المفتاح المناسب لفتح ابواب المعرفة و الشرفة العريضة المطلة على عالم الحقيقة فقد سخف هو العقل وانكر قدرته على فهم الوجود بل اعتبره اداة ضلال ، ووسيلة جهل وتضليل وانحطاط ، وما مبادئ الفكر التي يرتكز عليها العقل في بناء يقينياته وانشاء تصوراته تلك التي اسميناها بـ ((الشيئ)) و((الجوهر )) و ((الذات )) و((الموضوع)) و((العلية)) و((الغائية)) الا اوهام ليس لها وجود ماثل في الخارج اخترعها لتعينه على التفكير وتمكنه من الامساك بالموجود. ومن الخطأ زعمنا انها قوانين ومبادئ يتحرك على وفقها الوجود والاصح انها انشاءات وقوالب صنعها بنفسه ليفرغ فيها ما يطرق حواسه ويومض في خياله من رؤى وافكار.. فليس للظواهر التي تعن لنا في حياتنا تلك الاطر والحدود التي تجعل منها صورا ثابتة ومفاهيم ساكنة وجامدة لاتتحرك بل انها في حقيقة الامر في تحرك دائم وتبدل مستمر وصيرورة لاتنقطع ..
لقد بدا نيتشه في انعطافته هذه لاعقليا بالشكل الذي احرج المتنورين واصحاب الافكار العقلانية التي تزن الامور بميزان العقل والمنطق وترفض ما يثار امامهم من افكار بنيت على اسس غير تجريبية واعتبارات ظنية وتاويلات خارجة عن حدود المقبول ، وعلل مفكرونا ثورتة هذه باعتبارها امرا مبررا وله سبب مقبول اذ ان العصر الذي عاشه نيتشه غير العصر الذي نعيشه اليوم ودعوات العقل والاحتكام اليه ان كانت اليوم مقبولة وصحيحة تماما فانها على العكس منه ايام نيتشه حينما كان الجو الفكري العام السائر في توافق مع مصالح المتنفذين واصحاب السلطة والقوة بشكل يجعل من العمل العقلي والتفكير خادما للافكار التي تدعم وجودهم ، وتبرر استمرارهم وتضفي على هذه القناعات صفة الثبات والمطلق
.. فاذا كان هذا صحيحا فان سمة التباين في نظرة العبقري الى العالم واختلافه عما هو معهود في طريقة التفكيرعند باقي الناس عموما ، ظاهرة وواضحة عند نيتشه بشكل كبير .
لقد دعا نيتشه الى العودة الى الوراء في تاريخنا واعادة النظرفي كل ما مر بنا او فعلناه فقد سلكنا طريقا خاطئا ابعدنا كثيرا عن جادة الصواب واوغل بنا في درب الضلال ولم يعد لنا الا الانقلاب على انفسنا ورفض كل منقول وهدم الاصنام التي بنيناها بانفسنا من مادة الاوهام والتخاريف ونصبناها داخل اروقة الاخلاق والسياسة والدين والفلسفة ، ورفض كل ماهو مقدس آمنا به منها الاله ((استغفر الله تعالى ، وله بعض عذر في ذلك سنبينه بعد حين)) والخير والشر والحق ..... لقد كان تاريخنا مبنيا منذ البداية على خطأ جسيم

نظرته الى الاخلاق

على خلاف من نظر الى الاخلاق باعتبارها منظومة ((متعالية)) وقواعد سلوكية واحكام تقويمية صيغت من خارج العقل(( الفردي الجزئي)) لكي يهتدي بنورها الانسان فيحفظ لنفسه حسن السلوك و طيب المعيشة ورضا الرب ، انكر نيتشه ان للاخلاق معايير عامة تختص بالنوع الانساني في ذاته ، ونظر اليها على انها انتاج مرتبط بالشعوب والاجناس والطبقات ومكونات النوع الانساني اجمع ، وهي وليدة التعامل مابين الناس ومحكومة بمصالحهم المختلفة فيما بينهم والى موقع كل واحد ضمن الطبقة التي ينتمي اليها والفئة التي ينضوي تحتها بشكل قد يجعل المقبول والمستحسن من الاحكام الاخلاقية عند فئة مرفوضا ومستهجنا في اخلاق المنتسبين الى الطبقة الاخرى .. فالخير والعدل عند القوي المستبد هو غيره عند الضعيف المستبد به .. والفتك بالضعيف واحتقاره او اذلاله امر يدعو الى الفخر والاعتزاز عند ا الارستقراط الاقوياء لكنه ظلم وشر عند المستضعفين .
ارجع نيتشه الاخلاق الى منبعين رئيسيين ، اخلاق ((السادة) واخلاق ((العبيد)) . والسادة هم الطبقة الممتازة في المجتمع صاحبة الاخلاق العليا والقوة والجرءة وهم المسيطرون الفخورون بما امتازوا به من صفات ‘ والحريصون على بقاء الحاجز الذي يمنع امتزاجهم بطبقة العبيد المنحطين المستضعفين المتصفين بصفات الضعة والضعف والخنوع .

حركة التاريخ

لما كان تاريخ الانسان يصنعه الانسان نفسه فان حركة هذا التاريخ ((عند نيتشه )) مبنية على سلوك هاتين الطبقتين من البشر . فلو رجعنا الى الوراء واطلعنا على ما فعله الانسان لراينا ان من صنع الحضارات العظيمة انما هم اولئك السادة الارستقراط الابطال الاشداء حينما جابوا الارض وساحوا فيها ، مغيرين على بلدانها، فاخضعوا الشعوب الضعيفة واستعبدوا اهاليها وآمنوا بمبادئ القوة واحتقار الضعفاء .
.. من هنا نشات احكام الاخلاق وتوضحت تفاصيلها فكانت تدور في جوهرها (( عند الاقوياء )) على محبة الغزو و تمجيد القوة والتحلي بصفاة البطولة والفتك بالاعداء و((الاشمئزاز من علامات الضعف والضعة والاستخذاء )) واحتقار الضعفاء والتسلي بمباريات القوة والقتال والتحلي بمزايا النشاط البدني وسرعة الحركة وقوة العضلات وحب الصيد والرقص والالعاب البدنية العنيفة وكل (( ما يكشف عن حيوية فياضة حرة مسرورة)) واذا ما ابدى احدهم شيئا من العفو على الاخرين فلانه قوي يفيض عليهم بقوته لكنه يرفض العفو منهم اذ لو كان له حق عندهم لاخذه منهم بالقوة والاجبار .. وهو ((يشعر بسرور عميق حينما يعذب غريمه وما دونه من الضعفاء)) .. ومن هنا نلمس في هذه الطبقة حبهم للماضي والسلف وتوقير الاجداد لدرجة ألّهوا البعض منهم وقدموا لارواحهم القرابين، ثم انهم حافظوا على نقاوة صفاتهم وتجنبوا الاختلاط بمن هم دونهم ((بما يحفظ لهم استمرار السيادة والبقاء)).
اما الضعفاء فلهم احكام اخلاقية اخرى تختلف عن تلك التي عند المتسلطين ، ولدها فيهم ما عانوه من المآسي والالام التي كابدوها حينما رزحوا تحت نير اولئك المتسلطين وظلمهم ، واكتووا بنارالذل والاستعباد وتجرعوا مرارة الخذلان والهوان ،ولم يتسن لهم صد الهجمة وتحرير انفسهم لما كانوا يعانونه من عجز في القوة واحباط في الهمة وخوف على الحياة ولم يكن لهم الا الخضوع والخنوع والقبول بالامر الواقع واضمار مشاعر الحقد المدفون في الاعماق ، ولو وقعنا على اعمق اعماق مشاعرهم لراينا ايمانهم الراسخ ووعيهم الواضح بان القوة والسطوة هي القيمة الحقيقية التي تنشدها النفس والهدف والغاية التي يسعى اليها الانسان الا ان الضعف في القوة والخور في العزيمة والعجز في الانجازلديهم دفعهم لان ((يخلقوا لانفسهم قيما اخلاقية جديدة صارفيها معيار الخير الذي في اخلاق اولئك المتسلطين شرا عندهم والعكس من ذلك ايضا صحيح فبدلا من ان يكون الرجل (( محاربا مغامرا ينشد السيطرة والغزو ويحتقر التواضع والجبن فلا يعرف رحمة ولا تلطف ويفيض قوة وشدة ، يحتقر العبد ويرهقه وينكل به ويعذبه ويحط من كرامته ومركزه )) صار على الانسان في نظر هؤلاء الضعفاء التحلي بصفاة ((التواضع والسماحة والتعاطف والرحمة والعزوف عن نشدان البطولة ومحاربة الاخرين واحتقار الحياة والسعي لها ونكران النفس والرغبة في الزهد والتقشف ...)) .
لقد آمن(( ديوجنس)) بالذي امنت به ((الرواقية )) و(( الكلبية)) فدعى الى الاكتفاء بالذات والعيش بالحد الادنى من مقومات البقاء وامتهن التسول والنوم في الطرقات وحسد الحيوان على طريقة حياته البسيطة لدرجة ان تقبل لقب ((الكلب )) الذي اطلقوه عليه دون تذمر مع ان ما يتمتع به من الامكان والقدرات كفيل لان ييسر له العيش في صورة اخرى على عكس التي هوفيها ولتمتع بالسمعة العالية والدرجة المرموقة والثراء الفاحش بكل تاكيد ، قيل انه لما بيع عبدا من قبل قراصنة قبضوا عليه اثناء تجواله ، اوكل اليه سيده الذي اشتراه تربية ابناءه والاشراف على شؤون قصره فاحسن القيام بالمهمتين احسانا ادهش السيد فاطلق عليه ((العبقري الصالح )) وهو قبل كل هذا رجل مصرفي لكنه افلس فجره افلاسه الى السير على طريق آخر جديد ، وقيل عنه ((صاحب جدل بارع )) مكنه من التغلب على كل من خالفه الراي في حياته كلها . لقد كان ديوجينس مثالا واضحا وصورة حية للمثل الذي اراد نيتشه وصفه لنا عند الحديث عن اخلاق (( العبيد )) واي مثل اكثر بلاغة من اعجاب ديوجنس بمعيشة الحيوان فقام بتقليده ونام مثله في الطرقات وقضى حاجته ((على مرأى من الناس اجمعين )) ، راى طفلا يشرب الماء بيديه فرمى هو بكوب الماء الذي يحمله وبدا شرب الماء كالطفل بيديه... وصار الفقر صفة حميدة تقرب المخلوق الى خالقه وتزيد الحسنات في رصيده ..
ومع كل هذا فان رغبة االانتقام والثأر باقية على شدتها تغلي وتفور في اعماق نفوسهم مهما اهالوا عليها من اتربة التقادم والنسيان او برروا وعللوا اوفلسفوا ، اواخضعوا هذه الاندفاعات لتحولات النفس من تسامي و كبت وتحويل بين وسائل الاشباع وديناميات النفس، وكم مرة شهد التاريخ انفلات بعض هذا المدفون فيخرج من بين ركام هائل وصبر نافد والام لاتحتمل فيطفو على السطح في شكل متخفي تارة (( كانكارهم للقيم والافكار السائدة السائرة على درب تركيز مصالح الطبقة المسيطرة واستمرارية وجودهم )) وتارة اخرى في صورة رفض واستنكار ومقاومة وثأر، تلك الصورة التي اسماها (( بثورات العبيد))
واذا كانت الصراحة والصدق ومواجهة الاخرين بما يختلج في النفس من مشاعر وافكار سمات واضحة وسجايا يتحلى بها القوي، فقد صارت المراوغة والمكر والمداورة والنفاق بدائل موفقة واخلاق فاضلة يحفظ بها الضعفاء العاجزون عن المواجهة ماء وجوههم ويداروا جبنهم ويعفون بها انفسهم من الزامات الدفاع عن النفس وحفظ الكرامة ورد الاعتداء بعد ان غيروا تسمية ((العجز)) الذي فيهم (( بالاحسان والطيبة والصبروالرحمة والتواضع )) ليقروا في نهاية الامر ((قيم الضعف والذلة والخنوع والعجز ))
من الصور التي جمعت بين القوي والضعيف او السيد والعبد ذلك المشهد الذي جمع بين (( الاسكندر الاكبر )) بكل ما يحمله من روح ارستقراطية واحساس بالسمو وهمة عالية وشدة بالغة لدرجة انه لم يخسر حربا واحدة طيلة احد عشر سنة قضاها في الحرب ضد قوات فاقته عدة وعددا وتمكن من توحيد الشرق والغرب مما ترك اثرا بالغا وتاريخا (( مشرّفا )) عند من امن بمبادئ الشجاعة والجرءة والاقدام .. وبين (( ديوجنس الكلب )) الذي ذكرناه حينما كان نائما تحت اشعة الشمس على طريقته التي اعتاد عليها في تشبهه بمعيشة الحيوان ((وقيل انه اتخذ لنفسه دنا - وعاء كبير - ينام فيه)) .. وقف الامبراطور العظيم على راس ديوجنس معرفا نفسه بانه (( الاسكندر الاكبر)) وعرف الاخر نفسه بانه ((ديوجنس الكلب )) وقيل ان الاسكندر لما سال ((الكلب)) عن جدوى سلوكه المهين هذا وقبوله حياة الابتذال والكسل في طلب مقومات الحياة ، كان جواب ديوجنس مسبوقا بسؤال وجهه الى الاسكندر عن المغزى من سعيه في دنياه وطلبه الرفعة والسمو والقوة ومن تجييش الجيوش وخوض المعارك دون اشفاق على الارواح التي تزهق والخراب الذي يتخلف ، وكان الجواب هو انه سيقوم بغزو دول واحتلال اراض وتكوين امبراطورية تضم الارض كلها ، الا ان ((الكلب)) عاود السؤال عن الذي سيفعله لو حقق كل ذلك ..فاجاب الاسكندر بما معناه انه سيجلس عندئذ مرتاحا سعيدا (( على اعتبار ان هذا هو الهدف )) اجاب ديوجنس بقوله .. ها انا جالس وكلي سعادة وارتياح ، ...... كانت الصورة تجسيدا موفقا لاخلاق وسلوك كل من طبقتي الاسياد والعبيد .

اوهام الدين واصنامه
ومن الوسائل التي لجأ اليها الضعفاء لتبرير ما اقروه لانفسم من انتهاج سلوك استسلامي وعجز فاضح اختلقوا للوجود تصورا يدعم الذي اقروه ويجعل من اعمالهم واحكامهم التي تبنوها ((بقبولهم واستحسانهم الظاهري لكنهم في حقيقة الامر على النقيض من ذلك)) ظواهر متوافقة وسجايا مستحسنة وردود افعال مترابطة تنتظم داخل تصور شمولي كلي للوجود يعطي لكل الذي اعتمدوه صورة منطقية وشكلا عقلانيا مقبولا .. فاصبح للانسان وفق تصورهم الجديد روح مفارقة للجسد وارادة حرة بامكانها التحرك وفقا لاملاءاتها الذاتية المبنية على التفهم والاقتناع الذاتي وغير محكومة باي الزام خارجي قاهر فصار العجز الذي عانوه والذل الذي رضخوا له اختيارا حرا وسموا اخلاقيا رفيعا تقره الاخلاق ومبادئ الانسانية التي امنوا بها اذ ان ما ينتظرهم في اخر الامر جزاءا حسنا واجرا كبيرا وربا رحيما وجنة ونعيما دائمين ..
لقد جعل نيتشه من صراع طبقتي السادة والعبيد الاساس الذي قام عليه تاريخ الانسان الاجتماعي كله ابتداء من انتشار الابطال الاقوياء على بساط الارض فاخضعوا الضعيف واذلوه واستعمروا الاراضي واستباحوا خيراتها لانفسهم واقروا الاخلاق التي تناسب مواقعهم وسنوا القوانين التي تخدمهم .. ومرورا بردود افعال الضعفاء المستكينين عندما رضخوا للضغوط القاهرة وامتثلوا للاوامر المجحفة واضمروا في انفسهم مشاعر ((الذحل)) المنطوية على الاندفاعات الدفينة في صدورهم للرد والانتقام والتحرر من سطوة الاقوياء . تلك الاندفاعات التي امكن لها ان تظهر على السطح في ثورات العبيد ومن هذه الثورات تلك التي قام بها اليهود (( حينما تجاسروا على قلب معادلة القيم )) .. لقد راى نيتشه ان مشاعر ((الذحل)) هذه تعيش في قلب اليهودي في اعنف صورها واشد تأثيراتها بعد تاريخ عاشه في ذل وخضوع ومن هنا كان الصراع المرير بين اليهود والرومان، الصراع الذي انجب ((المسيحية لتحمل لواء النضال ضد السادة )) .. لقد راى نيتشه ان المسيحية ابنة اليهودية استقت منها التراث والقيم ومنها استوردت رجالا كبارا واعلاما بارزة منهم القديس بطرس والقديس بولس ..
ولقد كان للصراع هذا مراحل وجولات دارت بين الشد والارخاء والنصر والهزيمة ..كان اخرها انتصار الثورة الفرنسية التي اعدها انتصارا لقيم العبيد المبنية على مشاعر الذحل الممقوت (( وظهور نابليون كان من الامور الهائلة التي حدثت في الفترة هذه و لم تكن مما يرد في الحسبان اذ نهض بنهوضه المثل الاعلى على قدميه في جلال وجسارة امام اعين الانسانية وضميرها ليسيرمع نابليون بالعجلة على طريق القيم التي بناها السادة الابطال ، لكنه سقط سريعا وغاب فخفت معه نور الشعاع الذي اطلقته امجاد الابطال ))


تكملة المقال في صفحة اخرى تالية[/font][/size]