عرض مشاركة واحدة
قديم 10-28-2014, 09:50 AM
المشاركة 1238
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 67- الظل والصدي يوسف حبشي الأشقر لبنان


- رغم أهميته اللبنانية، لم يحظ يوسف حبشي الأشقر بقراءة عربية مماثلة. ظلّ في أدبه نوع من المحلية، ما يذكّر بمجموعة من كتّاب الرواية العربية الذين يُتغنّى بدورهم في محيطهم، من دون أن يمتد تأثيرهم إلى المحيط العربي الأوسع.


- لا بد أنّ للمسألة أسباباً موضوعية تتعلق بأسلوب الكاتب ومواضيعه... وبسوق النشر التي لها أهمية لا يستهان بها.

- فمقروئية حبشي الأشقر عربياً تكاد تكون دون مقروئية أبناء جيلين من الروائيين اللبنانيين ممن جاؤوا بعده.

- وهو معروف بسبب تردّد اسمه في الدراسات الأدبية كمفصل في الرواية اللبنانية، أكثر من أي شيء آخر.

- ولعل جدل «المحلية» خصوصاً مقابل طوطم «العالمية»، غدا هوساً، خاصة في القسم الثاني من الثمانينيات، بعد فوز نجيب محفوظ بـ«نوبل».

- «كل ما هو عالمي خادع، الناس محليون أولاً»، يقول ريجيس دوبريه، ويضيف أنّ تجربته الشخصية في أميركا اللاتينية علّمته «أنّ على المرء أن يلتصق بأرض، بذاكرة أرض».

- ما يحدث في لبنان من تجديد الفرز الطائفي ـ-الذي تجاوزه إلى العراق وربما فلسطين بدرجة أقل ـ-يجدّد الاهتمام بأعمال كاتب مثل الأشقر، وخصوصاً أعماله الأخيرة التي ترصد الحرب الأهلية وتدينها.

- وعلينا فقط أن ننتظر «حبشيين شقر» ليكتبوا فظاعة الحرب الأهلية المتداخلة مع الاحتلال في العراق الآن، أو «حبشي أشقر» يطل من «غزة المنفصلة» ليسجّل وقائع الكارثة/ المهزلة، حيث يُدار نوع جديد من الحروب الأهلية بإشراف مباشر من المحتل.

- الحروب ليست جديدة على العراقيين والفلسطينيين. لكنّ رواية الحرب الأهلية اللبنانية التي كتبها الأشقر ومجايلوه، ومن جاؤوا بعده وصولاً إلى ربيع جابر، تعلّمنا أنّ فظاعة حرب الإخوة تتعدى «فطرة الحرب» وقوانينها.

- إنّها أساساً فساد اللغة، حين يقتلك ابن لغتك ويتحول اختلاف اللهجات إلى اختلاف في الهوية يستدعي القتل. بقراءة أدب الحرب الأهلية اللبنانية، ترى عبثية الحرب وانعكاساتها على لغة الرواية. في حين أنّ الحروب الاستعمارية والتصدي للعدوان كما يظهران في الأدب الفلسطيني تتحول فيهما اللغة إلى مصدّ يحمي من الانهيار. نذكر في هذا الإطار، روايات جبرا إبراهيم جبرا، وخصوصاً باكورته «صراخ في ليل طويل» ( 1946)، التي قد تكون أكثر رواياته «ريفية». في الحروب الاستعمارية، يحتمي المستعمَرون من فساد اللغة بالغنائيات، ويتم اختراع البطولة أو تسجيلها. بينما حرب الإخوة حرب فاضحة.

- لكن... أليست كل حرب هي حرب إخوة بالمعنى الإنساني؟ وبمَ تختلف رواية الحرب الأهلية عن رواية الحرب عموماً؟ السر في اللغة ربما، حيث الاختلافات اللغوية والثقافية تعمل كمسوّغات في الحروب عامة. وفي الحروب الأهلية، تُشتقّ مبررات وتُخلق اختلافات لغوية (لهجوية) وثقافية مزعومة. يظهر هذا في روايات الأشقر، وسيظهر في روايات العراقيين في السنوات المقبلة، والفلسطينيين أيضاً... ومَن أيضاً؟

- عمارة فنيّة مدهشة اشتغل عليها أربعين عاماً

- مدهش هذا القاص والروائي الكبير يوسف حبشي الأشقر!

- فهو ـ-في إبداعه القصصي الروائي ـ-يشتغل بشغف وتأنٍّ، في إشادة البنى الداخلية والظاهرة لكل عمل فني له.

- يمازج، في شغله الفني، بين ما يشبه العفوية والتدفق، وما يشبه الوعي التركيبي الصارم.

- وفيما نرى أنّ لكل عمل فني عنده، بنيته الخاصة، فإننا إذ نشمل بنظرنا سياق اعماله كلها، ننتبه ـ-بدهشة ـ-أنّه كان، في الوقت نفسه، يشتغل على تشييد بنية عامة تشمل أعماله هذه كلّها: فإذا نحن ننتقل بين ثلاثية أولى ـ-عفوية! ـ-تندرج فيها أقاصيص: «طعم الرماد» (1952)، و«ليل الشتاء» (1955) و«شقّ الفجر» (1956)... يغلب عليها المناخ الريفي، وهاجس البحث الايماني عن رعاية الله للانسان...

- بعدها، يدخلنا الأشقر في العوالم الشاسعة المعقدة المتشابكة لثلاثيته الروائية الكبرى: «أربعة أفراس حمر» (1964) ثم «لا تنبت جذور في السماء» (1971) و«الظل والصدى» (1989)... في هذه الثلاثية، ندخل في حومة العوالم المدينية: احتدام القضايا الفكرية/ الفلسفية، والأزمات الروحية والنفسية...، وصراع التيارات الفكرية/ الاجتماعية/ السياسية، والنزعات الوجودية، والتمزّقات الداخلية للفرد، وتصادمات الفرد مع التراكيب والمواصفات الاجتماعية
والطبقية...

- الشخصيات الرئيسية، هنا، هي من المثقفين ـ-كتّاباً وغير كتّاب ـ-المتفاعلين أو المنفعلين بشكل أو بآخر، بالقضايا الفكرية الفلسفية والنفسية الكبرى للعصر، وتياراتها المتصارعة: الوجودية، القومية، الماركسية، الايمانيّة المعاصرة (التي تؤرّق الأشقر، تحلّ فيه، تصارعه ويصارعها). ثم: الفوضوية، وحركات الشباب التي هي خليط حيوي مندفع ومتحمّس من هذه التيارات والأفكار كلّها.

- ولا بد من التأكيد هنا ـ-من الوجهة الروائية الفنية ـ-أنّ هذه القضايا الفكرية والنزعات تدخل في النسيج الداخلي للبناء الروائي ولحركة الأحداث، وفي خلايا التكوين الفردي، والمتناقض، للشخصيات، وتدخل حتى في جموحات الحب والجنس والتنابذ والموت، مع مَيلٍ ـ-في العمق ـ-الى ذلك اللون من الإيمانية المعاصرة التي تعود الى نزوعات الأشقر نفسه، وإلى نزوعات شخصياته الروائية.

- مدهش هذا الروائي والقاص الكبير. يكتب في مجموعته القصصية «الأرض القديمة»، عام 1963، عوالم الريف والشخصيات الريفية، والصراعات ذات الطابع الفردي البسيط والمبسَّط... ثم يعود ـ-بعد عشرين عاماً ـ-إلى تلك « الأرض القديمة»، ليرى هو ونرى معه، ماذا بقي منها، وما الجديد الذي دخل حياتها، وأمعن في تغيير النسيج الداخلي لحياتها القديمة، وجلب اليها نزوعات جديدة، تراها شخصياته القديمة غريبة عنها وغريبة عليها... فأصدر في عام 1983، «وجوه من الارض القديمة»، وأتبعها، في عام 1984، بمجموعة «آخر القدماء»...

- مدهش هذا الفنان الكبير: فقد تبيّن لنا أنّ هذه المجموعات القصصية الثلاث هي أيضاً مشادة في شكل ثلاثية قصصية، تكتسب كل قصة منها فرادتها و«استقلاليتها»، لكنّها تشترك مع أقاصيص آخرين في المجموعات الثلاث، بتداخل شخصيات من الأقاصيص في المجموعة الأولى، في النسيج الداخلي لأقاصيص في المجموعة الثانية أو الثالثة... وأنّ هذه المجموعات القصصية الثلاث تشكّل، معاً، وهو ما يشبه الرواية الواحدة: في الفضاء العام، والمناخ الريفي، ووحدة المكان ـ-وهو قرية «كفر ملاّت» ـ-حيث تتشابك الأحداث وتتصارع الشخصيات...

- ثم يتبين لنا أنّ المجموعتين الأخيرتين («وجوه من الأرض القديمة» و«آخر القدماء») تتميّزان بدخول أطراف من التيارات المدينيّة فيهما، من صراعات الأحزاب الحديثة الى مفاعيل الحرب الأهلية المدمّرة للعلاقات والمخلخلة لأيّ رؤى مستقبلية.

- وقبل أن يدعك يوسف حبشي الأشقر تظن أنّ هذه «الثلاثيّات الثلاث» هي لثلاثة كتّاب مختلفين، يصدر مجموعته «المظلة والملك وهاجس الموت» (1981) التي تتضمن أقاصيص عدة ولوحات قصصية وتأملات، تمازج بين المدينة والريف، ويصوّر فيها التأثيرات المدمرة للحرب الاهلية والتعصّبات الطائفية والنزوعات الوحشية في بنى البلد والعمران والناس والعلات وتكسّرات الروح.

- وتتجسّد مأساة الحرب الاهلية (التي مضت ـ-وقد تأتي؟!) في رواية «الظل والصدى» حيث تقتل الحرب، ووحوشها البشرية، ذلك المثقّف المتوحّد، المبدع الكاره للحرب والتقتيل، الحالم بعالم آخر، نوراني إيماني ينهض في هذه الأرض نفسها!...

- ... هذا البنيان الفنّي «الأشقري» السامق والمتشابك، المبنيّ بعناية وبمزيج من العفوية الإبداعية والوعي البنياني، قد يحتاج أيضاً وأيضاً وأيضاً، من النقد الى إعادة تأمّل فنّي فكري إنساني في هذه العمارة الفنّية المدهشة التي اشتغل عليها يوسف حبشي الأشقر طوال أربعين عاماً، فجاءت مكثفةً، وغنية، ومثمرة.

- أيقونة وأب تاريخي انتشر اسمه أكثر من أدبه

---
- لا بدّ من أن نصّ يوسف حبشي الأشقر هو أحد النصوص التأسيسية سواء في الرواية اللبنانية التي يراه كثيرون أباً حقيقياً لها، أو في الرواية العربية التي يبدو أنّه لم يحتلّ مكانه اللائق فيها بالنسبة إلى القراء والنقاد معاً.

- وهذا عائد إلى اعتبار يوسف حبشي الأشقر أيقونةً أو علامةً روائية استثنائية من دون الخوض في تفاصيل ممارسته الروائية التي جعلته كذلك. لهذا نشعر بأنّ اسمه منتشر ومعروف أكثر من أدبه.

- لعل الرجل قُرئ في زمنه وعرف مجايلوه دوره وقيمته وفرادته، لكن ذلك توقف تقريباً. الأجيال اللاحقة سرعان ما عاملته بوصفه ماضياً بعيداً. الروائيون الذين بدأت تجاربهم مع الحرب الأهلية وبعدها ابتعدوا بمسافات سردية وخيارات أسلوبية واضحة عن النبرة التي سادت في رواياته وقصصه. بالنسبة إلى هؤلاء، بدا أنه أب تاريخي أكثر من كونه أباً يمكن أن يستمر نسله السردي في أعمالهم.

- بقي يوسف حبشي الأشقر، أو أُبقي في زمنه هو. قلّما خضع أدبه لتجديد نقدي أو إعادة نظر، سلباً أو إيجاباً. إنه أثر روائي وكفى. إنه كاتب مهم وكفى. نقرأ اسمه هنا وهناك، لكنه غالباً ما يرد بالصورة عينها. صورته كأب للرواية اللبنانية الحديثة واسم شائع أكثر من أدب صاحبه.

- لعل نظرتنا هذه تسري على أسماء لبنانية أخرى أيضاً. ماذا نعرف عن الياس أبي شبكة سوى جحيميته وغلوّه الرمزي والسيكولوجي؟ ماذا أضفنا إلى «قرف» فؤاد كنعان؟ وماذا عن غطرسة سعيد عقل الشعرية؟... يبدو أنّ لدينا أمثلة أكثر مما يلزم للدلالة على أنّ يوسف حبشي الأشقر لا يمثل حالة فريدة في المعاملة التي لقيها.

- الواقع أنّ ما يحدث ليس كله عقوقاً وإهمالاً من الأبناء. ثمة سمات في كتابة يوسف حبشي الأشقر تجعل معاملة أدبه على هذا النحو ممكنةً ومبررةً أحياناً. فالحرب ومرحلة السبعينيات عموماً آذنت بالشروع في كتابة مختلفة عن الخصوصية الأزلية (والفولكلورية) للمدرسة اللبنانية. لم يحدث ذلك في الرواية فقط، بل لعل التغيّر الأكبر طاول الشعر الذي كُتب في تلك الفترة. الرواية والشعر الجديدان ولدا في وحل الحرب والأحلام الخاسرة مقارنة بغبطة الخمسينيات ووعودها الكبيرة.

- الأرجح أن صورة «لبنان الشاعر»، بحسب عنوان كتاب لصلاح لبكي، تحطمت في السبعينيات. حداثة الخمسينيات كانت حداثة بيانات وفتوحات. الحداثة الثانية كانت عملاً على ابتكار ترجمات أخرى لتلك البيانات وتذليل وعورة مسالكها وصولاً إلى شقّ دروب وشعاب خاصة.
يوسف حبشي الأشقر ينتمي إلى الصورة الأولى. إنه إحدى «المعجزات» اللبنانية العديدة. كتب الرواية كأنه يخترعها. استخدم سرداً معقداً، وأكثرَ من الحوارات. أدخل نكهة وجودية قوية في أعماله. لجأ إلى الأمثولات والترميز.

- عرض قدراته في تطعيم الكتابة بمقاطع ذات مزاج شعري. فعل الأشقر كل ذلك وأكثر. قد تكون كل هذه الممارسات منطقية ومبررة في لحظات التأسيس. لكن دوام ذلك يجعلها أقل قيمة وإغراءً بالتأكيد. هناك فرق بين أن تُرى هذه الممارسات في زمنها وبين أن تُرى راهناً.

- إذا تتبعنا أثر يوسف حبشي الأشقر لدى الجيل اللاحق، فإننا لن نجد هذا الأثر كاملاً. سنجده لكن مفتتاً وذائباً في نبرات هؤلاء. لقد دخل الأشقر في تحتانيات رواياتهم. صار مصدراً روائياً وإرثاً عاماً، واختلط بقراءات عربية وأجنبية أثّرت بمن جاؤوا بعده. بعضهم أخذ منه وبعضهم لم يفعل.
قراءة يوسف حبشي الأشقر ليست سهلة اليوم. نبرته السردية التي منحته الجزء الأكبر من خصوصية تجربته يمكنها أن تكون سبباً للعزوف عن قراءته أو إعاقة هذه القراءة على الأقل. رواياته وقصصه تطرد القارئ المسترخي الذي ينتظر من الرواية أن تقوده هي. لن يجد هذا القارئ حكاية تتدفق بسهولة وتشويق.

- وإذا حصرنا الكلام في القصة التي بلغ فيها ذروة فنّه في مجموعته «المظلة والملك وهاجس الموت»، نجد أن معظم قصصها لا تبدأ من بداية طبيعة أو تقليدية. المؤلف لا يقص حكاية عادية، والسرد لا يُبدي عناية كافية بالحدث ـ-هذا إذا كان ثمة حدث بالمعنى الحرفي للكلمة. ما أن يتقدم السرد قليلاً حتى يُخترق بأهواء فكرية ومونولوغات منفردة وخلاصات رمزية وتفلسف شخصي.

- لكن مهلاً، هل قلنا إن السرد يُخترق بكل هذا؟ الواقع أن السرد يكاد يكون مؤلفاً من هذه الاختراقات وحدها. إنه محمول عليها ومكتوب بموادها وخاماتها. السرد، بهذا المعنى، يعطّل نفسه. ولا بدّ من أن القارئ تنتظره مهمة صعبة. إذ عليه أن يتخلى عن فكرة التسلية والترفيه وأن يتلذذ، في الوقت نفسه، بما يقرأه.

- إذا كان لهذه الإشارات والملاحظات نصيب من الدقة، فإن يوسف حبشي الأشقر مرشح لتراكم أيقوني مضطرد. وهذا يعني أن يواصل حياته بيننا كاسم... لا ككاتب تُعاد قراءته من حين إلى آخر.



من مقال بقلم : نجوان درويش