عرض مشاركة واحدة
قديم 12-14-2017, 07:57 PM
المشاركة 47
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
القصص المشاركة في مسابقة القصة لمنابر ثقافية اصدار 2017 :

في رضا الولدين

القاصة زهرة الروسان

تعالت أصواتنا لتملأ المنزل، حتى كادت تطال الجيران. لم أدر ما علي فعله، فعلى ما يبدو لي جليا أنني خسرت كل شيء... أحاول جاهدا جمع شتات الأسرة، أحاول إرضاء أبنائي لكن، بلا فائدة.
ولدي الصغير يعتبرني مجرما ظالما... ومجرد جدار يحول بينه وبين المستقبل الواعد خارج حدود هذا الوطن... أما الكبير يعتبرني سبب ضياع أخيه وتحوله الى مهوس بالغرب وحياة الغرب بسبب تساهلي معه واعتنائي الشديد به. لم يعد أي منهما يستمع لي أو لعمتهم... عمتهم التي ضحت بشبابها ليعيشا حياة طيبة... بلا شعور بالحرمان.
في لحظة ما فقدت السيطرة. وجدتني أفقد كل شيء. فقدت حب أبنائي واحترامهم لي. حالي صار بالحضيض، صرت أبا بلا إحداثيات على خارطة الابوة. لا أحمل من معاني الأبوة غير اللقب... تحولت عائلتي الى شتات مجوع تحت سقف واحد... جسد بلا روح.
بدأت حكايتي قبل عشرين عاما، حين قررت زوجتي التخلي عني وعن طفلينا والعيش بعيدا. كان ابننا الأكبر في سن الخامسة، أما الأصغر فلم يكن قد تجاوز عامه الثاني. رفضت الزواج في سبيل تربية ابنائي تربية صالحة ليكونا فردين فعالين في المجتمع... لم يكن الأمر هينا أبدا؛ فلا يمكن لطفل العيش بعيدا عن أمه وهي في بلد آخر وقد نست أنها أم لأطفال.
تربى الأطفال تحت رعايتي وعمتهم، التي آثرت الاعتناء بهم على الزواج والعيش بعيدا... فكانت لهم كأمهم تحنو عليهم وتربيهم وتلاعبهم... بدا كل شيء مثاليا، أسرة دافئة تحتضن أربعتنا بكل حب. ربما تباكى الطفلان مرارا طلبا بالعيش مع والدتهم... لكن ذلك كان فقط أسلوبهم في العزف على أوتار مشاعري لتهتز وتمنحهم ما يشاؤون.
مضا عام بعد عام والأطفال كبروا وصاروا رجالا ولكل منهم كيانه الخاص وتوجهه في الحياة. بينما كنت وعمتهم قد بلغنا الكبر وحان الوقت لنرتاح ويعتني بنا الشبان. كم كنت أرى نفسي وأختي محاربين دفعوا الغالي والنفيس وسيدفعون في سبيل حماية ترابط أسرتنا وتماسكها... لكن تبين أنني فقط من نظر من هذا المنظور.
يوما ما عدت الى المنزل متعبا وقبل أن أفتح الباب، سمعت جدالا شديدا يدور بين أبنائي وعمتهم... تعالت أصواتهم وفجأة خرج أبني الأصغر من المنزل وهو غاضب، أوقفته بيدي عله يتوقف لكنه ابعدها وتابع سيره غير آبه بي... ناديته مرارا لكن بلا أي جدوى. دخلت المنزل ورحت أحقق مع أختي وابني حول ما حدث و في ما كان ذاك الجدال. رفضت اختي الحديث وقالت إن كل شيء سيكون بخير. دخلت غرفتها وتوارى الآخر عن الأنظار... مضت ساعة وأنا أحاول الاتصال بذلك المدلل الذي في الخارج لكن هاتفه كان مغلقا. جلست وحدي حائرا فلا أحد يرغب بالحديث، عندها خرج الأكبر من غرفته وجلس إلي وفي عيونه نظرة لوم شديد.
مرت دقائق قبل أن يتحدث، ثم قال: أبي لقد خرج أخي غاضبا لأنه يريد السفر وأنت ترفض الفكرة... حاولت وعمتي إقناعه لكنه عنيد. إما أن تسمه له بالسفر أو تجلس معه وتقنعه بالعدول عن هذا الهراء.
-أظننا تناقشنا في الأمر سابقا. لا مجال لنقاش آخر.
-هو لم يقتنع، يعتقد أن السفر سيفتح له باب النجاح.
-طالما هو لا يملك مقومات السفر ليس علينا القلق. هو لا يملك المال ولا يزال على مقاعد الدراسة. ربما يغير رأيه بعد التخرج والالتحاق بوظيفة.
-أبي، أنت لا تتخذ إجراء صارما حيال ما يفعله... أنت فقط تؤنبه وإن غضبت ترسله للنموم باكرا. أي حل هذا! هو لا يقتنع وأنت لا تعرف ما يدور في عقله.
-أخوك لم يعد طفلا... عليه أن يعي أن الحياة لا تسير على هواه.
انصرف الفتى وهو يتمتم بكلام غير مفهوم، وبعد دقائق عاد الصغير للمنزل وكأن شيءً لم يكن. لم أرد الحديث عله يبادر بالاعتذار لكنه تجاهل الأمر كأنه لم يخطئ قط.
مضت عدة شهور وبين الحين والآخر كان يعاود الشجار مع اخوه وعمته ليتمكن من السفر... لكن الأمور لم تكن تخرج عن السيطرة. وكنت أظن أن مشاكلي تقتصر على هجرة ذاك الصغير. في صباح أحد الأيام وبعد تقاعدي من العمل خرجت للسوق لأقضي بعض الوقت من أصدقائي القدامى، مررت بسوق شعبي أشبه بالسوق السوداء، يعج بتجار المسروقات، فسمعت صوتا أعرفه... صوت أعرفه أكثر من أي أحد آخر. لم أرد التصديق لكن حين اقتربت كانت الفاجعة... لم يحتمل قلبي ما رأيت ولم أعد أستطيع الوقوف على قدمي... وانتهى بي الحال ملقا على ظهري في أحد المشافي.
كان ابني الأكبر في ذلك السوق... كان ابني الأكبر أحد تجار المسروقات... لقد ربيت لصا، شهادته الجامعية مجرد زينة على جدار غرفته... كذب علي... منذ عام وهو يحدثني عن وظيفة وهمية... يصف لي كذبة منمقة، محاسب في شركة اتصالات هو في الحقيقة سارق في سوق سوداء.
اصبت إصابة منعتني عن الحركة، وجدت نفسي طريح الفراش عاجزا عن القيام بواجبات منزلي... قال الطبيب أنني قد أتحسن وأشفى إن اتبعت التعليمات... لكن كيف لجراح قلبي أن تتعافى؟ امتنعت عن الحديث مع ابنائي كي لا أموت من القهر... وكنت أرى دموع ولدي تنهمر كلما جاءني ليعتذر... لكنني لم أقبل أعذاره ورفضت الحديث إليه؛ فهو من كان يطالبني بالإجراءات الصارمة. أقسم لي أنه ترك ذاك البلاء، وأنه لم ينجر إليه سوى لكونه عاطلا لا يجد وظيفة وإحساسه بالمسؤولية حيال أخيه الذي كان يشكوا قلة المال دفعه للعمل بأي وظيفة كانت... ولم يفكر في مدى سوء ما فعل.
مضت الأيام وقد بدأت أتحسن، وصار بإمكاني الجلوس مع عائلتي على مائدة الطعام. عدت وعادت الطلبات، لم أدري كيف أرضيهم... عاد الصغير ليطلب السفر.
الأصغر: أبي أريد المال للسفر.
الأب: لا أملك المال الآن. عليك إكمال دراستك.
الأكبر: ألا تخجل من نفسك، والدنا لم يتعافى تماما وأنت تطالبه بالمال!
الأصغر: أنت آخر من يسمح له بالحديث... فأنت السبب وراء حال أبي.
الأكبر: كنت أفعل هذا لأجلك. أنت من يريد السفر.
الأصغر: لم أطلب منك أن تسرق.
الأكبر: وهل تعتقد أنك في الخارج ستعمل وزيرا! لا أحد سيوظفك لأنك بلا مؤهلات وبلا شهادة. أنت لم تكمل دراستك الجامعية بعد. إن سافرت ستعمل لصا بقدراتك هذه، وربما لن يقبلوا بك كلص... وسينتهي بك الحال متسولا في شوارع الغرب ينظر لك الجميع بازدراء.
الأصغر: لن أكون متسولا... لي صديق عمه يعمل في البلد التي سأسافر إليها، سيساعدني لأنشئ مشروعا جديدا.. كل شيء جاهز لكنني أحتاج لبعض المال لأتمكن من البدء بالمشروع.
الأكبر: وهل تعتقد أنه بهذه الحماقة حتى يحتمل مسئولية رعايتك؟
الأصغر: أنا لست طفلا... من هم في مثل سمي يعيشون حياة مستقلة بعيدا عن قيود العائلة.
العمة: هلا صمتما كلاكما... احترما وجود والدكما على الأقل.
الأكبر: أنا آسف عمتي... لكن على أحدنا وضع حد لهذه المهزلة.
وقفت بصعوبة وقلت غاضبا: لا أحد منكما يحترم وجودي ووجود عمتكم. سعينا لإرضائكم طوال هذه السنين وتكون النتيجة لص سليط اللسان وفتى أخرق مهووس بحياة الغرب. أنتم من عليه السعي لإرضائنا وليس العكس. رب العالمين أمرنا برضا الوالدين وليس الولدين، أنا من يتخذ القرارات في هذا المنزل.
تعالت أصواتنا لتملأ المنزل، حتى كادت تطال الجيران. لم أدر ما علي فعله، فعلى ما يبدو لي جليا أنني خسرت كل شيء... أحاول جاهدا جمع شتات الأسرة، أحاول إرضاء أبنائي لكن، بلا فائدة. في لحظة ما وصل الغضب أوجه وقلبت طبق الطعام على ثياب ولدي الأصغر الذي رآها إهانة كبيرة... فأسرع لغرفته، وبعد لحظات خرج وهو يحمل حقيبة سفر واتجه نحو الباب... أسرعت عمته لتوقفه لكنه دفعها وغادر المنزل. قائلا أنه سيسافر اليوم ولن يوقفه أحد.
اسرعت الى غرفتي لأبدل ثيابي وأخرج خلفه، لكن جسدي خذلني... كدت أقع أرضا لولا أن كتفا حانيا تلقاني... كان ذلك ولدي البكر. ساعدني لأجلس وقال مبتسما: لا تتعب نفسك يا أبي... أنا سأحضره. مهما حصل سيظل ابنك المدلل وأخي الشقي، هو يستمع لي حين تتأزم معه الحال. لن يتمكن من السفر حتى لو وصل المطار فهو لم يحصل على تذكرة سفر. أعدك بأن يعود ليقبل يدك ويد عمته.
-أخشى ألا يعود.
-لا تقلق... إما أن يعود كلانا أو لا يعود أحد.
-لا تقل ذلك. ابذل جهدك لتعودا كلاكما.
-حاضر يا أبي. أعطني مفتاح السيارة من فضلك.
أسرع الى الخارج ولساني لا يكف عن الترضي عنه وعن أخيه... وقلبي يخفق قلقا عليهما... مضت ساعتان دون أن يعود أي منهما... ولساني يلهج بالدعاء والتضرع لله ليردهما سالمين. وفي لحظة سكون تام لا شبيه لها... دوى صوت هاتفي... إنه المشفى يطلب منا الحضور.
وصلنا المشفى لأجد ابني الأكبر مصابا ببعض الكسور. وأخوه يجلس الى جانبه وهو يبكي... وحين رآني وعمته أسرع إلينا يقبل رأسي تارة ويد عمته تارة أخرى، وهو يطلب العفو والمسامحة. احتضنته بشدة... نظرت الى ابني الأكبر فتبسم وقال: وعدتك أن يعود كلانا... لكنني عدت ببعض الكسور وبسيارة نصف محطمة... أبي حين علم أخي بالحادث، عاد من المطار مسرعا ليطمئن على حالي... نحن كما ربيتنا جسد واحد وروح واحد.

بقلم : القاصة زهرة الروسان