عرض مشاركة واحدة
قديم 12-14-2017, 07:50 PM
المشاركة 46
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
القصص المشاركة في مسابقة القصة لمنابر ثقافية اصدار 2017 :
لعنة الدوائر

القاص ياسر علي

أمامه من الدقائق أربعة، اقتحم الصّالة، مائدة مستطيلة رصّت عليها تشكيلة صحون وتحف كريستالية، تقدمت يده نحو صّحن مستدير في حجم مرآة صغيرة، رفعه قبالة وجهه، أفزعته تفاصيله، حاجباه المستنفران، أنفه الممتد ، تجاعيد جبهته المتصارعة تموّجاتها، صلعته تشع من خلالها فوانيس الصّالة، ظنها تحرقه فأخذته رهبة، أيقظه ارتطام الصّحن بأرضية الصّالة الصّلبة، انفرطت روابط البلّورات كحبات ذرة متناثرة حول رجليه. تخلص من فداحة وجهه، أخذ صحنا أكبر تأمّل زخرفته الجانبية المتقنة، تتوالى فيها دوائر صغيرة أخذت تتداخل في عينيه، أرسله بعيدا فسمع انشطاره إلى أجزاء دقيقة كرصاصة بندقية صيد. لابد من التخلّص من الدوائر، كيف اعتبرها الأولون كمال الأشكال؟ تركونا ندور في حلقات مفرغة كبهائم تدرس حصيدا أخضر في بيدر تقليدي مستدير، ما أتفه الدوائر... حمل صحنين وأتبعهما لسابقيهما، تفتّحت شهيّة التّحطيم لديه، انهال على الصفوف مثنى وثلاث فرباع ونفسه يقتحمها الطّرب. فاجأته صفّارة النهاية عندما هوى بمزهرية في حجم جرّة خزفية فانفجرت انفجار رعد تشظى بردا، فشلت ركبتاه، جرّه الحرّاس بعيدا.
ملأ وعاء رئتيه من هواء الحديقة فاستفاق شغفه، فُتح البابُ:
ـ تفضل، يمكنك الدخول.
كانت جالسة على منضدة، وساقاها المكشوفان يتقدم أحدهما ليتأخر الآخر في حركة تغري بالتأرجح، عيناه حطّتا على شعرها الأشقر الذي تسللت بعض خصلاته من قبضة حجاب زرقته خفيفة، حدّق في عينيها الخضراوين، فرمّش ورمّش وابتسامتها تغريه بالتقدّم، ملأه الخجل لحظة فولّى لها ظهره، كان بودّه لو يختلس نظرة إلى الوراء، لكنّه يميل إلى غضّ طرفه عنها، سيف معلق بالحائط سيطر على باله، كان السيف هابطا بلسانه إلى الأرض، رأى هذا الوضع غير مستقيم، فقد آن للسّيوف أن تستقيم وقفاتها، وترفع رأسها وتشهر قوتها.
تذكر المليحة فغلبه وجدانه، تتقدم خطواته، رأى دائرتين خضراوين بارزتين تتوسطان عينيها، تأمل استدارتهما داخل محجريهما، هربا من استدارة وجهها هبط ببصره نحو صدرها، دائرتان، وكلما فرّ من دائرة وجد أخرى، عقد لكمته طبعها على وجنتها، ارتفعت رجلاها واستوى ظهرها على الطاولة، عند عودتها التقت بلكمته اليسرى وهكذا أضحى وجهها كيس ملاكمة، تتوالى صيحاتها صيحة بعد صيحة، تسلق جسدها اللين برجليه، كان يهوي عليه بكل وزنه حتى أسكت جهازها الصّوتي ولا يزال يرددّ "لم أنت خضراء يا غبية؟ لم أنت شقراء؟"
رأى السيف خير شاهد على الفروسية، كانت مكشوفة الرأس بعد أن تركت حجابها ذات هبوط، جاء به من أقصى اليمين حتى أوصله أقصى اليسار، طار رأسها ودماؤها لم تجر بعد، بتر ساقيها عند عودة سريعة إلى اليمين، رغم ذلك لا تزال جالسة، اقتلع الدمية من أساسها حين سمع صفارة النهاية، ما فشلت ركبتاه ولم يشتف بعد، يقاوم الحرّاس وهم يسحبونه.
وصلت ثورته قمّتها، فاض كأس غضبه، استرسل لسانه في السب والشتم، يقذف به الحراس نحو غرفة إضاءتها خافتة، جدرانها الإسمنتية قاحلة كزنزانة في سجن تقليدي، لا يزال يسبّ ضاربا كفا بكف، يرسل ركلاته يمينا ويسارا، يفجر لكماته على الجدران، في أقصى الحجرة باب مفتوح، حجرة تقود إلى حجرة، من يدري لعلّ المكان حلقة في سلسلة حوانيت لا تنتهي، كمحطات عمر قاحل، حذر الخطو يطلّ على الغرفة الأخرى، الظلام يحول دون تقدّمه، دائرتان مشعتان في أقصاها تغريانه بالمواجهة، رجع خطوة إلى الوراء، لا هراوة ولا سلاح يعينه على الحرب، رجع ببصره إلى أقصى الغرفة، الدائرتان تفتحان لتغلقا وتغلقان لتفتحا وزئير قوي يصدّع السكون، ارتعشت رجلاه، قد يكون مجرّد أسد من ورق، يجب أن استجمع قوّتي، ألهب شجاعتي، أواجه مخاوفي، أتطهر من رعبي و أسير سير الماتدور في ميدان المبارزة، نزع قميصه يلوّح به، فاجأه الأسد بوثبة سريعة كادت تنتزع يده من جذورها، وجد نفسه يتوسط الغرفة و الأسد بالباب يمزق القميص تمزيقا، يرسل هدير وعيد، ما كان يظن أن الأسود بهذا الحجم، هذا الرأس الدائري يتقدم كتلة متراصّة من الصّلابة، في تماسكه مرونة عجيبة، لا يزال مأخوذا بهذا الحيوان و حلقه جفت ينابيعه، وجسده ازداد اهتزازه، قلبه يضرب الأخماس في الأسداس، قفزة عملاقة أخرى جعلت الأسد بكامله يتكوّم عند رأسه لو بقي هناك للفّه لفّا وقطف رأسه قطفا، كحارس يلتقط كرة طائشة فوق الرؤوس، لا يعرف كيف نجا من هذه التهلكة الحقيقية، لا يعرف أي قوة جعلته يتزحلق على الأرض عكس اتجاه الأسد، عيناه لا تفارقان غريمه، يريد أن يتخلص من سرواله المبللّ، لكن هذا الهزبر لن يترك له الفرصة، ها هو يعود، هذه المرّة نجح في تمزيق سرواله، ومخلبه جرح فخده، كاد يسقط بين مخالبه كفأر في ضيافة قطّة، بدأ يستغيث، أوقفوا البرنامج، لا أريد الدقائق الأربعة كاملة، يجيبه الأسد بوثبة جديدة، هذه المرّة طبع خدوشا على صدره، كاد يكون لقمة سائغة، لولا أن الحائط صدم رأس الضّرغام وجعله يسقط، التأم سريعا معيدا الكرة كثعبان جريح، جرّده الأسد من فردة حذائه اليمنى، ما هذه الحرب غير العادلة؟ ومتى كانت الحروب عادلة؟ أريد فترة استراحة، أريد استرجاع أنفاسي، لا يستطيع الحركة فشلت ركبتاه وفشل رجاؤه فاستلقى على الأرض مهزوما قبل نهاية الحصّة، يقف الأسد عند رأسه وبطرفه يتحسس جبينه الحارق، بلسانه يلعق جراحه، فحضنه منتظرا صفّارة النهاية.

بقلم: القاص ياسر علي