الموضوع: زهرة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
4634
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
08-16-2014, 06:20 PM
المشاركة 1
08-16-2014, 06:20 PM
المشاركة 1
افتراضي زهرة
وأنا أقرأ وأتابع على الفيسبوك صفحات المشاهير ، رأيت العجب العجاب ، حقيقة لم أتجرأ على التعليق على أعمالهم سواء أكانت قصائد أو مقالات سياسية أو قصصا ، أو كلاما فارغا أو صورا أو رسومات كرتونية ، أو حتى مقاطع مصورة تتعبني مشاهدتها فصبيبي لا يستطيع تحميل بعض الدقائق إلا في ساعات تماما كمزاجي الذي لا يحتمل كثرة الجدال و لائحة معارفي التي لا تستطيع تحمل غير عدد محدود فذاكرتها متعبة و ضيقة لأن صبيبي التواصلي ينقطع سيلانه أحيانا وفق مزاجي المتقلب ، ليس ضجرا من أحد بقدرما هو ضجر من نفسي ذاتها التي تحشر أنفها أحيانا في حدائق لا تستهويني زهورها و لا عصافيرها . بل أكثر من ذلك أجدني أحب ممارسة مزاجيتي في هذا العالم الواسع الفسيح ، فأحس فيه حرية ، أشتاق إليها كثيرا كلما أقفلت الشاشة و أغلقت نوافذها ، فأضطر لتقمص دور المتواضع و الحكيم و المتفهم ، و هي أشياء لا أومن بها من قريب أو بعيد ، فأعرف فقط أني إنسان غير قابل للاحتواء كما باقي البشر و إن أظهرت كما يظهرون ألوانا براقة من الطاعة العمياء .
تخيلت أنني مشهور أيضا ، ينتظر الآلاف و ربما الملايين أن أهبط بطائرتي النفاثة على صفحتي ليتذيل كلامي بدخان يكبر أناكوندا إستوائية كطريق في صحراء ، فتعلو الأصوات المصفقة مديحا ، و النواح الزاعق ينفث سما ناقعا و تنطلق الروائح الزكية مبخرة صفحتي و تزكم أخرى أنف مشاركاتي ، و غيرها كثير بلا طعم ولا رائحة فهي تساير لتساير ، ومنها التي تنسج هبلها على هواها لحاجة في نفسها ، و كلها تعاليق معلقة بأهداب هذياني ، وتعطيه شهادة الحياة و تؤشر عليه بطابع الصحة والعافية . أراها مجتمعة تتعاضد لتلصق بي ذيلا طويلا جدا لا أحتمل جره ، وقد علمنا البعض أن ذيلنا فقدناه ذات تطور ، لأكتشف أن ذيولا كثيرة لا تزال بنا عالقة رغم ما نشهده من تطور .
تصلني من أسراب المتعطشين رسائل تغري بالمغامرة ، ورسائل تشكو حال الدنيا ، ورسائل تموضع صاحبها في أعلى عليين ، و أخرى تهبط بمولاها إلى أسفل سافلين ، تذكرت عندما كنت برعما يافعا وحسبت نفسي أستطيع أن أملك الدنيا و أدير بيدي مقودها ، كان ساعي البريد يشتكي كلما قدم لي حزمة من الرسائل ، إذ في الغد القريب سيأتي بأخرى و أحيانا يحس بالضجر فينتظر أسبوعا فيخصص لي حمولة دراجته ، لا أرد إلا على بعضها لكني أرسل إلى كل محطات الدنيا عنوان بيتي ، فتأتيني المخطوطات بالآلاف المؤلفة ، وياليت الأوراق النقدية تعرف طريقها إلى بيتي فكم مرة أعطيتها العنوان و لم تستجب . لو جاءتني يومها لذهبت عند كل هؤلاء و أولئك طمعا في اسكات جوعهم و رأب صدوع الحيرة في أقاصيهم .
أبيت الليالي أفك شفرات الرسائل ، يا له من عمل شاق ، فتختلط علي المفاتيح ، وتتلاقح القصص في ذهني .تماما كما يحدث معي الآن وأنا أنتقل عبر الجدران و أقلب الصفحات حتى تعتري ذهني دوخة ، فأقوم كما بالأمس مستنجدا بسيجارة تهدئ من بهرجة الأرواح الساكنة في دماغي ، فربما على كل جدار رقيب عتيد ينفث تعويذاته فتصيبني بمس يسيطر على عقلي بوسوسته السحرية .
أخيرا وجدت التي تبحث عنها روحي ، أو ربما توهمت ذلك ، قد تكون جرعة طلاسمها أقوى من كل التي صبغت بها الحيطان و الصفحات ، لم أتمالك نفسي إلا وقد ركبت قطار الهيام من جديد ، و غزى الهوى كياني ، فأبيت على رسم لوحات تجريدية غارقة في متاهات روحي التي لا تحب إلا هذا التعلق ، لكأنها عنزة لا تستحلي المراعي المنبسطة و إنما تتسلق الأشجار و وتقارع الجبال ، هكذا أنا أترك على مدار العمر الحلول البسيطة ، و أحاول التمرد على كل بسيط ، فروحي على عناد مع نفسها ، تحب إثبات ذاتها في رهانات صعبة . فلا يرتاح بالي إلا وقد ضاقت به السبل ليستنزف المزيد من الطاقة والجهد بحثا عن كوة .
سافرت هذه المرة مقتنعا أنني سأكون في رحاب من ستحررني من قبضة الجداريات و من مخالب الفيسبوك الذي سيطر على حياتي كما سيطر عليها المذياع في زمن المراهقة . تراني لم أكبر بعد أم أن التطور غير موجود بالفعل كما يدعون ، فحياتي و عقلي لم يشهد أي منهما على تطور حقيقي على مدار الأيام .
حطت قدماي عند باب الحديقة التي زرتها في مراهقتي لمرة واحدة وقد شددت إليها الرحال من بلدتي الصغيرة ، تقدمت خطواتي بين أشجارها التي حضرت عقيقة مولدها ، كما شممت الرعيل الأول من زهورها ، كان كل شيء فيها طريا مغريا حد السحر ، مقاعدها ، نافوراتها ، حتى عمالها وحراسها كانوا شبابا في بذلات أنيقة ، أرجوحاتها تغري الكبار قبل الصغار ، تذكرت أني أخذت بيد زهرة وسادعتها حتى استوت قبالتي ، قبل أن ينطلق تأرجحنا الذي دام دهرا كاملا ، وكاد الخوف يقتلني و يخنقها ، وتشنجت كل أعصابنا ، و شحب وجهانا ، وارتعدت أوصالنا .
أراها الآن بمنظار آخر ، فهي كغابة مهجورة ، كطفلة منسية فأمتدت أظافرها المتسخة ، وتشتت شعرها الأشعث و تمزقت ملابسها الملطخة ، تأملت الكراسي المهترئة الصدئة المهجورة ، أتعبي نظري إصفرار أعشابها الطاغي ، أقتحم المكان لعلني أعثر على هذه الفتاة العشرينية التي تعلقت بأهداب صورتي الشبابية بصفحتي الفيسبوكية ، و جاءت بي من أقاصي الأرض إلى هذا المكان المهجور ، تمنيت أن لا أكون وقعت في مصيدة ما ، فالنصب بات كشرب الماء ، لكن ماذا سأخسر ، لا شيء أملكه غير صفحاتي ، و حياتي التي لا أطيق امتلاكها ، فأبددها بين أيدي المبددين ، أخيرا ظهر هناك على المقعد من يجعلني أطمئن أن المكان فيه بعض من حياة ، كلما اقتربت من المقعد تبعثر هدوئي و تمايلت خطواتي ، امرأة هي ، وقفت أمامها مشدوها ، كانت غاية في السوء صورتها ، تهالكت أسنانها و امتصت وجنتاها و و غزى البياض شعرها المجعد ، كانت ترتدي بذلة رياضية ربما جاءت تنفس عن غضب عقم السنين ، وتكالب المصائب عليها ، نطق لسانها :" أهلا بك حبيبي " قلت بسخرية : " حبيبي ... هكذا دفعة واحدة " فردت : " هل تحمل سيجارة ...." قدمت لها الدخان وترقرقت دمعة من عينيها :" و قالت : "ألا تزال تجري وراء السراب . ؟" ولما هممت بتركها قالت : " أنا زهرة ، ألا تحب أن نتأرجح قليلا ؟"