عرض مشاركة واحدة
قديم 12-01-2011, 09:20 PM
المشاركة 5
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
على الطرُقُاتِ أتِيهُ احْتِرَاقًـا
وهَلْ غَلَيَـانٌ بِـلا مِرْجَـلِ؟


ليس ذلك فقط بل يخبرنا الشاعر في البيت التالي ان استذكاره للحبيبة واختلاؤه بذكرى جمالها الذي أصابه بالذهول عندما رآها يوقض فيه من جديد تلك المشاعر التي دفعته ليسافر مستوحشا على متن الضنى فيعود ليرتحل من توه ومن جديد لشدة ما يتألم من البعد والصدود وربما من وقع ذلك الجمال الذي أصابه بالهذيان...

فيدور في الطرقات سائحا تائها وهو في حالة الهذيان والاضطراب تلك التي أصابته من صدود الحبيب...بل هو يتوه في تلك الطرقات وهو يحترق من شدة الحب والم البعد (أتيه احتراقا)، وهنا يطرح الشاعر سؤالا استنكاريا إذ يقول: أي حبيبية ...وهل هناك غليان من دون مرجل؟ أي هو يصرح هنا موضحا إذ يقول بأن تيهه واحتراقه وارتحاله وهذيانه وسقمه وضموره وطعم الحنظل وغليانه وما إلى ذلك من مشاعر جعلته يغلي أنما أصابته حين رأى تلك الجميلة وما تبع ذلك من صدود...

فهي ليست من دون سبب وإنما هي جميعها نابعة من شعوره العارم بالحب الذي اجتاحه إذ رآها وكنتيجة لصدود الحبيب وبعده.

وفي هذا البيت يَتضح لنا بأن الشاعر أراد أن يستعطف الحبيبية ويخبرها بأن كل ما أصابه وألم به وآخره احتراقه من حرارة الحب وهو يدور في الطرقات، إنما هو نتيجة حبه لها فهي من أشعل النار تحت المرجل فصار يغلي من شدة الحب وفي ذلك تشبيه القلب بالمرجل ومشاعر الحب والشوق بالغليان.

وهنا تمكن الشاعر ومن خلال استخدامه لكلمات ( احتراقا وغليان ) من استنفار حواس المتلقي من جديد، خاصة حاسة اللمس هذه المرة...وكأننا نستشعر لظى النار والاحتراق والغليان، وحرارة الحب الذي يغلي في ثنايا قلبه...كما المرجل!
وهو بذلك ينجح من جديد في إقحام المتلقي فيدفعنا لنحس معه ونستشعر حرارة ذلك الغليان وذلك الاحتراق وذلك الحب الذي زلزل كيانه.

وفي البيت حركة نستشفها من التيه والارتحال على الطرقات التي يقع فيها الشاعر فيدور في تلك الطرقات على غير هدى وهو في تلك الحالة من الهذيان وألا لم والاحتراق بسبب الحبيب وصدود الحبيب وبعده.

وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ



ويتابع الشاعر في هذا البيت وصف مشاعره وما الم به كنتيجة لتلك الحالة التي أصابته على اثر الحب والغرام الذي وقع فيه... ومن ثم ارتحاله مستوحشا على متن الضنى... بعد أن يأس من الحبيب وبعد أن لاقى منه الصدود...


فهو يسير في الطرقات تائها محترقا احتراقا شديدا كما اخبرنا في البيت السابق، كما انه يغلي من شدة الحب والشوق كما المرجل، ولكن ذلك ليس آخر المطاف وليس كل شيء...فهو يخبرنا هنا في هذا البيت بأن حب تلك الجميلة وصدودها وما نتج عن ذلك من الم وتشرد، وتيه.. كان ملهما له ففجر في ثنايا عقله وقلبه نبع الشعر ولكن أي شعر ذلك الذي تفجر؟؟؟!!!


انه الشعر الملتهب، الحار المعبر عما يجول في خاطره والذي يصل في حرارته درجة الغليان أو أعلى من ذلك بكثير كونه نابع من قلبه الذي صار كالمرجل يغلي من شدة الحب ومن احتراقه بنار الحب والشوق والحرمان!!

ولذلك حينما يفكر الجمر في الاغتسال يكون ماء حرف الشاعر الملتهب، أي أشعاره الساخنة كونها انعكاس لحاله، هو الماء المفضل عند الجمر ليغتسل فيه، وهي كناية عن شدة الحب والحرمان الذي وصل به إلى درجة الاحتراق والغليان، فانعكس ذلك على ما يقوله الشاعر من قصيد، ولذلك يلجأ الجمر لهذه الأشعار ليغتسل فيها إذا ما أراد الاغتسال كونها أكثر منه حرارة!

ولا أظن أن هناك ما هو أجمل من هذه الصورة الشعرية بالغة الجمال، فمن ناحية يشبه الشاعر أشعاره بماء ساخن بل شديد السخونة، وقد وصل إلى تلك الحالة من السخونة كونه نابع من القلب الذي شبهه الشاعر بالمرجل والذي وصل إلى درجة الغليان أو أكثر لان الشاعر نفسه كان وبفعل الحب والبعد عن الحبيبة سائرا في الطرقات تائها يحترق احتراقا...ولذلك كان هذا الشعر ماءا مناسبا لاغتسال الجمر وهو ما يشير إلى أن تلك الأشعار هي أعلى حرارة من حرارة الجمر الملتهب نارا !!!! وهي تبدو كذلك في تقديري أليس كذلك أيها المتلقي الكريم؟


ومن ناحية أخرى نجد أن الشاعر قد شخصن الجمر هنا فجعله كإنسان يغتسل وحينما يريد أن يغتسل فهو يختار كلمات الشاعر ليغتسل بها لشدة حرارتها، وربما يكون هذا الوصف والتشخيص والصورة الشعرية الملتهبة سابقه لم يسبق لأحد أن استخدمها في الشعر العربي قبل شاعرنا هنا.


ولكن ذلك ليس آخر المطاف فالشاعر يخبرنا أيضا في نفس البيت بأن ما أصابه من حب وألم الخ....بعد أن رأى تلك الجميلة جعل الشعر ينهمر من لسانه وقلبه وكأنه المطر النازل من السماء والمنهمر بغزارة شديدة (منزل)، ولا شك أن تلك الأشعار المنهمرة هي بنفس حرارة ماء حرف الشاعر لان الشاعر يخبرنا بأن الجمر إذا ما أراد أن يغتسل فهو يغتسل إما بماء حرفه وإما من أشعاره المنهمرة من السماء كالمطر الغزير.


وسر الجمال في هذا البيت يكمن في الصورة الشعرية التي هي غاية في الجمال والتي صور فيها الشاعر الجمر وكأنه يغتسل بماء شِعرِه المنهمر كالمطر وهو شديد الحرارة ولذلك كان ملائما لاغتسال الجمر وهو اشد حرارة من الجمر حتما لأنه كان قد تم تسخينه في مرجل قلب الشاعر المحب العاشق الولهان ...الذي كان يدور في الطرقات وهو تائه يحترق احتراقا ويصطلي من صدود الحبيبية وبعدها....ومن الناحية الأخرى يخبرنا الشاعر بأن ما رأى من جمال كان ملهما له فصار الشعر ينهمر من قلبه كما ينهمر المطر من السماء غزيرا بل شديد الغزارة ( الودق ) .


ولا شك أن هذا الوصف الجميل والصورة الشعرية والعمق في المعنى والقدرة على التعبير بما يجول في خاطر الشاعر من مشاعر تدفعني لان أقف من جديد لأصفق للشاعر ولكن بحرارة شديدة هذه المرة هي ربما اشد حرارة من أشعاره المنهمرة من سحابة مرجل القلب،،

غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِغْـزَلِ


وفي هذا البيت يتابع الشاعر وصف ما فعل به جمال وجه تلك الحسناء حينما رآها ومن ثم صدودها، فقد ألهب جمالها خياله وجعل مُزْن الشعر تنهمر شعرا ساخنا حارا...والحكايات أيضا، ولا بد أنها حكايات كان يقولها الشاعر فيصف فيها جمال وحسن تلك المرأة التي أحبها وما أصابه كنتيجة لما رأى.

شعر تفجر ينابيع متدفقة من ثنايا قلبه، وانهمر كما المطر الغزير، وحكايات صاغها الشاعر لا بد انه روى فيها قصة غرامه وحبه وكل ما أصابه من غليان وشرود واحتراق الخ...فكان شعره ملتهبا حارا ومنهمرا كالودق لكنه ساخن من حرارة الحب الذي يعتمل في قلبه.

ويضيف الشاعر هنا بأن قريحته في قول الشعر والحكايات قد تفتقت وعلى أشدها فحاك الكثير من الحكايات، وكأن خياله كان يعمل مثل المغزل وهي كناية عن غزارة ما تفتقت به قريحته من قول وشعر..فشبه نظم القصائد والحكايات بصناعة الغزل، وفي ذلك صيغة مبالغه عن كثرة ما كتب وروى من حكايات حتى كاد المغزل أن يصاب بالملل والضجر.

وفي هذا البيت تشخيص للحكايات فجعلها الشاعر وكأنها إنسان قام الشاعر بغزل ردءا له، كما شخصن المغزل فجعله مثل إنسان يصيبه الضجر والملل ولكن من ماذا؟! من كثرة الحكايات التي رواها الشاعر عن حبه وعن حبيبتيه...ونجد المغزل يتوعد صاحبنا الشاعر من كثرة ما أنتج من أشعار وحكايات وربما شبه الشاعر هنا القلم بالمغزل.

وفي البيت وبالإضافة إلى تلك الصور الجميلة والتشخيص نستشف الحركة التي ما تزال تغني أبيات هذه القصيدة وتجعلها حية ذات وقع وتأثير عظيم على المتلقي، وذلك من خلال كلمة (غزلت) بل هي حركة سريعة بسرعة النول أو المغزل الذي يدور على مدار الساعة ولا يستكين ابدا.

وهل هناك أجمل من هذه الصورة الشعرية التي جعل الشاعر فيها المغزل يضجر وهو الذي يعمل دون كلل أو ملل وبغزارة منقطعة النظير منذ بدء الخليقة؟ فنجده هنا يضجر من غزارة ما أنتج الشاعر من قصائد وحكايات في وصف تلك الجميلة..فهل لنا أن نتخيل إذا غزارة ذلك الإنتاج من الأشعار والحكايات؟ وهل لنا أن نتخيل إذا جمال وحسن تلك الفتاة التي فجرت ينابيع الشعر في قلب الشاعر؟؟؟!!!

وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ


في هذا البيت يصف الشاعر قلبه، ذلك القلب الذي أصابه سهم الحب فأصبح ولهان يغلي كالمرجل كنتيجة لحبه لتلك الفتاة فتفجرت من ثناياه ينابيع الشعر الحار الملتهب والغزير.

ونجد الشاعر هنا يصف قلبه ويشبهه بـ(الفلاة) وهي الصحراء الواسعة أو البيداء، بينما يشبه الشاعر نفسه أو صدره (براح) أي الأرض الأشد اتساعا فتكون الأرض الشاسعة بأتساع الصحراء الغربية، فقلبه واسع بوسع الصحراء في صدر أوسع بكثير.

أما لماذا يشبه الشاعر قلبه، في وسعه، بالصحراء الواسعة، في هذا التشبيه البليغ والجميل؟!

الجواب يأتينا في الشطر الثاني من البيت، إذ يخبرنا الشاعر بأنه وعلى الرغم من ذلك الاتساع فأن هذه الأرض لم يمر عليها ولم يصهل بها أي خيل سوى خيل الحبيبة...تلك الفتاة الجميلة ملهمته ومفجرة ينابيع الشعر والحكايات في قلبه وذهنه...وفي ذلك كناية عن إخلاصه لها في حبه فلم يعرف سواها ولم يسمح لأحد غيرها من النساء أن يَعّبُرْ إلى ذلك القلب...وربما جاء التشبيه أيضا ليوحي وليعبر عن الحالة النفسية التي انعكست على الشاعر على اثر الهجران فقلبه أصبح خاليا مثل الصحراء وليس حدائق غناء!

وكأننا هنا نسمع صوت الشاعر وهو يخاطب حبيبية ربما مستعطفا إياها ومعلنا بأن قلبه لم يعرف حب آخر سوى حبه لها...وربما هو يلومها على بعدها وهجرها وصدودها رغم كل ذلك الإخلاص من ناحيته لها.

ونجد هنا صورة شعرية جميلة للغاية أيضا، فمن ناحية يشبه الشاعر قلبه بصحراء في وسعها، بينما يوصل لنا ما أراد أن يصفه بأنه حبه الأول والوحيد بصهيل الخيل الأول والأوحد الذي تعرفه تلك الأرض الشاسعة.

وهنا نجده يعود لاستخدام كلمة الخيل فنكاد نسمع صوت صهيل الخيل وهي تتراكض في ثنايا قلبه...ونكاد نرى صورتها وهي تعدوا في تلك الصحراء الشاسعة لوحدها..وما أجملها من صورة!

وذلك الاستخدام لصورة الخيل يوقظ فينا موروث ثقافي مرتبط بالخيل ونواصيها وجمالها من ناحية، ويستحضر في ذهننا خيول الشعراء الكبار أمثال المتنبي، كما يحرك فينا بعنف حاسة السمع من خلال استخدام كلمة (صهيل) وهي من أهم الحواس على الإطلاق، كما أنها أول حاسة تتفعل لدى الطفل عند الولادة...فنكاد نسمع صهيل الخيل ...ولذلك كله يكون وقع الصورة الشعرية هنا بليغ الأثر على المتلقي.